عباس بيضون: الكلمة التي أمطرت كثيراً فوق الأشجار
عباس بيضون: الكلمة التي أمطرت كثيراً فوق الأشجار
عبدالعزيز المقالح*
أدّعي أنني أتابع هذا الشاعر منذ أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، وأقرأ كل ما يكتبه، وفي الشعر خاصة، وهذا الادعاء يجعلني أدرك أبعاد التطور أو بالأحرى التصاعد الذي حققته تجربته في دنيا الشعر الأحدث، ووصلت إلى ذروة تصاعدها في هذه المجموعة، سواء من حيث الشكل البنائي، أو اللغة أو من حيث الاتكال على الموضوعات التي بدأ عباس يوليها اهتماماً ملحوظاً خصوصاً في نصوصه الشعرية الأخيرة.
عنوان المجموعة «صلاة لبداية الصقيع» (دار الساقي، بيروت، 2015) وتقع في 79 صفحة من القطع المتوسط. والشعر الحقيقي لا يقاس بالصفحات ولا بكم الكلمات، بل بمستوى الشعرية وما تتركه في نفس القارئ من أثر جمالي وتفاصيل ذاتية وإنسانية. ومن المؤكد أن دهشة القارئ تبدأ من اصطدامه بالعنوان «صلاة لبداية الصقيع» أي جمال وأي افتتان في هذا الحد من الانزياح اللغوي والصوري، وما يرافقهما من ارتعاش في الروح والجسد معاً.
من المهم في الإبداع عموماً وفي الشعر خصوصاً أن يكون أحدث ما يقدمه المبدع مختلفاً ومغايراً لما سبق له أن أبدعه وإلاّ يكون تكراراً أو ترجيعاً لذلك السابق، وأن يكون المبدع في حالة تجاوز دائم لنفسه ولما يكتبه. وقليلون هم الشعراء الذين توحي أعمالهم الشعرية بذلك، ومنهم بالتأكيد الصديق الشاعر عباس بيضون الذي تشكل مجموعته الصادرة حديثاً حالة مختلفة لا في شعره هو، بل في كل ما يصدر من شعر ينتمي إلى قصيدة النثر. تجاوز تام في اللغة وفي التصوير والتشكيل. ويبدو أن الفترة التي توقف فيها عباس عن كتابة الشعر وما عانى فيها من صدمات روحية نفسية وجسدية قد منحته وقتاً كافياً لإنضاج تجربته وصقل لغته وتأكيد خصوصيته. وما تجدر الإشارة إليه هنا أن عباس ـ وهو شاعر متعدد المواهب والاهتمامات- يدري كيف يفرّق في التعبير بين ما هو شعر وما هو نثر، وهو في رواياته وفي كتاباته الكثيرة المرتكزة إلى نقد الواقع والمجتمع وعلى نقد الشعر والشعراء يختلف عنه في كتابته الشعرية.
في الكتابات النثرية، ومنها رواياته الخمس، تكثر التفاصيل وتحضر الأحداث والوقائع بوضوح وصراحة لا تحتمل اللبس، وهو من بين عدد من الكتّاب الذين لا يجيدون التمويه والعبارات المجازية. سمة أصيلة فيه يلخصها كل من يتابع الملحق الأسبوعي لجريدة «السفير» وما يطرحه في مقالاته الساخنة من قضايا وأحداث تراجيدية. أما في الشعر، فالحال يختلف، غياب شبه تام للتفاصيل، وتقشف شديد في اللغة وتوزيع عفوي لبنية النصوص التي تجمع بين رهافة الكلمة ومجازية المعنى، انطلاقاً من مبدأ أن الشعر لا يفسر المعاني بل يوحي بها. يضاف إلى ذلك أن عباس شاعر جريء ليس في تعامله مع اللغة ومغامراته، بل وفي تعامله مع الصور التي يبتدعها ويحسن تركيبها في جمل وتعابير مثيرة للتأمل.
جريء في تعامله مع الصور
التي يبتدعها ويحسن تركيبها في جمل وتعابير مثيرة للتأمل
وسأبدأ من النص الأول في المجموعة وعنوانه «أربي قلباً» تشدنا إليه تلك الغيمة التي نزل منها أولاد على الثلج، والكلمة التي أمطرت كثيراً فوق الأشجار:
لا تعجبوا إن وجدتم تفاحة
إن سمعتم أسناني تصرّ
فإن أشياء كثيرة تتحرك في صندوق صدري
هناك مفاتيح بتواريخ متعددة
الغيمة التي نزل منها اولاد على الثلج
الكلمة التي أمطرت كثيراً فوق الأشجار
السكين الذي وقع على الطريق
من كيس امتلأ بالهدايا،
أربّي قلباً في هذه الساعة،
أناديه فيأتي فوراً على صوتي
رغم أن لا اسم له (ص10).
ومن يقرأ هذه المجموعة الجديدة للشاعر عباس بيضون في مقارنة بمجموعاته السابقة، يدرك أن الشكل، شكل النص الشعري طبعاً، لم يكن بالنسبة إليه مهماً، فقد يأتي النص في سطور كالنص الآنف، ويأتي على شكل فقرات تطول أو تقصر بحسب ما تمليه اللحظة الشعرية، وهذا نموذج من أجواء المجموعة الفقرات الصغيرة:
«انبش القمح من جلدي. انبش حبات المطر، ألقي معطفي على شجرة سرو، وأغادر بلا كتفين
اتلفت فأرى تمثال المصارع ورائي، بعد قليل تزدحم الحلبة، لكن ينبغي أن أمنح قروشاً إضافية لمخيلتي التي بدأت تنفد. في لحظة التشوش أرى نمراً يطارد الغيوم، مُقعداً يدفع كرسيه وكتاب مفتوح على وجهه، تعبر الغيوم بين الصفحات، جلد النمر معلق على الباب، جلد الكتاب وجلد الغيمة أيضاً معلقان (ص94).
يبدو، بل يكاد يكون يقيناً أن الكلمة (العربية) شعراً كانت أم نثراً، لم تعد تزحزح شيئاً من سيئات الواقع الرديء وأنها لم تعد تمطر على الأشجار ولا على الناس بعدما أثخنها الواقع المرعب بجراح الخوف واللامبالاة، وجعل الناس في شغل شاغل عنها وعما تبدعه أو تحّرض عليه، وهذا ما يكاد يشير إليه النص الذي أخذت المجموعة عنوانه اسماً لها «صلاة لبداية الصقيع» وهي صلاة رجاء واستعطاف لا صلاة تقدير وإعجاب: «أحتاج إلى تلك الكلمة لأبدأ، وإلى نحلة لتنقلها، لن أجدها في هذا الوقت، كم حياً مات تحت البرد. أفكر أن أصنع لها جناحين ورأساً بعينين في المقدمة وأطلقها، لكن البرد لا ينقل شيئاً» ( ص25).
لقد كاد يشغلني نثر عباس في الفترة الأخيرة عن شعره لا سيما مقالاته الأسبوعية. أما عن رواياته المنشورة، فلم أقرأ منها سوى عملين اثنين هما: «مرايا فرانكنشتاين» و»الشافيات». وإذا كنت قد ألمحت في سطور سالفة من هذه الإشارات إلى أن عباس يدري كيف يفصل بين ما هو شعري وما هو نثري، إلّا أنني أستثني هنا من هذا القول نثره الروائي المشحون بشيء من روحه الشعرية ولغته التي تظل محتفظة بإيقاعها ورهافتها.
ولعل أهم ما يلفت الانتباه في نصوص هذه المجموعة ربما أكثر من سابقاتها ليس هذا الكم من الصور المبتكرة والمكثفة فحسب، بل وجود الشاعر فيها وتماهي صوته المتعدد على نحو أكثر عمقاً وحضوراً: «حجر يغوص في الذاكرة/ يخرج وجه من تحت الماء/ بالكاد له ملامح/ السنون بردت قسماته/ ثمة نسيان كثيف/ يتجمع عليها. لم أعرفه/ لقد عاد الحجر إلى العمق/ إن عاد ذلك الوجه فلن يكون هاملت ولا يوسف النبي/ لقد صنعت وجوهاً من الرماد والآن أصنعها في الشمس (ص79).
قرأت هذا النص القصير أكثر من مرة من دون أن أبرأ من سحره وفتنته. ولا مناص، والحديث هنا عن أحدث مجموعة شعرية تضاف إلى المنجز الشعري الأحدث، من الإشارة إلى تلك الأقوال التي يرددها بعض المتشائمين عن أن أزمنة الشعر توشك على الانطواء في حين أن الشعر لا يفتأ يرد على هؤلاء بأنّ زمنه الجديد لم يبدأ بعد، وأن الفنون والآداب هي وليدة كل الأزمنة وأنها دائمة التجدد وهي قادرة على أن تحمل في كل زمن إيقاع عصرها وتفيد من ملامح التغيرات التي تطرأ على الحياة، وتكتشف من الألوان والإيقاعات ما يجعل في مقدورها التعايش مع الأجيال والتواصل والابتداع.
* كاتب وناقد يمني
نشر في جريدة “الأخبار” اللبنانية: 26/8/2015