الجمعة 29 مارس, 2024

شعرنا العربي بين الحداثة والمحافظة

شعرنا العربي بين الحداثة والمحافظة

  ذ. عبد العزيز أبو شيار/ المغرب

 

لعل المتفحص المتمعن في ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي من رداءة وضحالة لا بد من الوقوف على بعض تجلياتها وأسبابها التي هي ليست وليدة اللحظة بل هي تداعيات سمعنا صداها منذ عقود

فمنذ عقود طويلة خلت نشبت المعارك بين الحداثيين والمحافظين وقد حصلت ـ بالفعل ـ معارك ضروس بين دعاة الخروج عن المألوف والتمرد على النص الأدبي (لغة وتراثاً وشعراً)، وبين رعاة هذا النص الذين رأوا فيه هويتهم ومنطلقهم نحو الإبداع الحقيقي فاستمسكوا به، واعتبروه منطلق نهضتهم ومن أسباب وجودهم فدافعوا عنه في استماتة وشجاعة وقوة.

وقد اكتسب الحداثيون من خلال زخم إعلامي غريب وافد، وانبهار برّاق أمام رياح غربية جذابة بكل ما تحمله من إغراء وواقع عربي معقد مزر، وقد خدعوا ببريق سراب بقيعة في عصر (حرب النجوم)، لكنهم لم يكسبوا شرعية رغم كتائبهم المدججة بالمال والسلاح، وأقلامهم المحبّرة بمعاداة كل ما يتصل بتراثنا وتاريخنا الأدبي العربي فلم تتبلور لديهم ملامح، ولم تتحدد لهم الرؤية بل هم نسخ متشابهة تزيد مع الزمن قوقعة وانغلاقاً رغم ادعاء الانفتاح، وغموضاً رغم كثرة ما شرحوا متونهم وفسروا رؤاهم في قصائد ملآى بالشروح والحواشي، والتربيع والتدوير. لقد ظلوا رغم ما يملكون من قوى مادية يحسون بغربة في الزمن، وضيق في المكان والأفق، فصبوا جام غضبهم على التراث، و قدراته في طبيعة الأرض التي ازدهر فيها بالرغم من أنهم جميعاً ـ طوعا أو كرها ـ أبناء هذا التراث، إن لم يصبهم من خيره وابل فقد يصيبهم منه طلّ ,

وفي الحقيقة كانت لهم غاية لا علاقة لها بالشعر وجوهره ولا بالوعي النقدي التابع له؛ إنها دعوة إلى مقاطعة التراث، ومعاداته وقطع اللسان العربي، وإعلان الحرب على الخليل في عروض لم ينشئها هو، بل كان كاشفاً عنها بأذُن موسيقية تتقن الإيقاعات بلغت شأواً دونها معامل الصوتيات المعاصرة بآلاتها المبتكرة (الفونولوجيا( وعلومها المستحدثة. إنها دعوة إلى القطيعة بين الإنسان في حضارتنا العربية العريقة وبين انتمائه؛ فهم يرمون صلتنا بالتراث ـ بل صلة شعراء التفعيلة بالتراث ـ بأنها علاقة عقائدية.. ليس هذا فحسب، بل هي مجرد عودة شاعر التفعيلة إلى الشعر العمودي في إحدى قصائده يعتبرونها جريمة لا تغتفر وعثرة لا تقال.بل من نتائج تخبطهم أنهم راحوا باسم الحداثة يقلدون شعر الهايكو المتجذر في التراث الياباني القديم

حتى إن بعضهم قال عن الشاعرة نازك الملائكة التي كتبت شعر التفعيلة في فترة معينة، ثم عادت إلى  العمودي الخليلي  مرة أخرى،: إنها تتجه بخطى واسعة نحو نهاية الأفق، وإلى الخاتمة المؤسفة لهذا التيار الجديد، وهي التحجر والجمود واحتلال جانب المحافظين لحركة التجديد الحديثة في الشعر العربي. إن خطواتها التقليدية تقودها بالرغم عنها إلى حافة اللاوجود الشعري الذي أصاب المحافظين السابقين؛ حيث كتبت أحدث قصائدها في العمود الخليلي كاملاً غير منقوص

وهكذا أصبحت كتابة القصيدة في العمود الخليلي غير منقوص ردة عن الرؤيا الحديثة للشعر، ونقيضاً للتطور وجمودا فكريا .

وهذا الذي أثار نزار قباني ليقول: «إن الفخ الخطير الذي وقعت فيه حركة الحداثة هو اعتقادها أن موسيقى الشعر نظام استعماري قديم لا بد من الانقلاب عليه.

وبعد مرور نصف قرن من الزمان لم يظهر بين الحداثيين العرب أديب في قامة لطفي المنفلوطي أو مصطفى صادق الرافعي، أو روائي في قامة نجيب الكيلاني، أو شاعر مثل: حافظ وشوقي وإبراهيم ناجي أو الجواهري… بل كان (الشعر الحر) وقصيدة النثر أكبر همهم ومبلغ علمهم

ما يزيد عن خمسين عاماً وهم يكتبون «النثر» الخالي من الوزن والقافية، والمحشو بالغموض المذموم الذي يكتنف الفكرة ؛ وحين تقرأ ما يسمى بالقصيدة عندهم فلا تفهم معاني جملها ولا مضمون هيكلها، بل هي عبارة عن كلمات عائمة ـ رُصِفت رَصفاً غريباً متنافراً ـ حتى صارت رطانات وطنطنات عابثة. وعلامة الإبداع عندهم أن تكون «القصيدة» خالية من أي غرض أو معنى، ويفلسفون قولهم بأن القصيدة التي لا يضمِّنها صاحبها أي غرض أو معنى تظل تنمو وتكبر وتتعدد معانيها بتعدد قرائها…!

لذا، لجأ الحداثيون العرب إلى الغموضية والتجريدية في أشعارهم وكتاباتهم مثل « الممرئية»، رؤياوية»، «التعارض الثنائي»، «اعتباطيات الإشارات»، «اللاحقيقة»، «التموضع الزمكاني» واللامعقول… وغيرها من الألفاظ المائعة التي لا مدلول لها.

ويقولون: إن «الحداثة» هي الثورة على كل شيء، وآخرون يقولون: إنها الابتعاد الصارم عن المجتمع.

وفي كتابه «مقدمة في الشعر العربي» يقول أدونيس ـ بجرأة شديدة: «.. إن القرآن نفسه إبداع، وكذلك السنَّة؛ فالإبداع القرآني والنبوي أوصدا الطريق أمام الإبداع الأدبي، وأوقعا الخوف في روع الأدباء…).

ويضيف قائلاً: «إن الأدباء العرب لن يبدعوا إلا إذا حرروا أفكارهم من التقيد بالدين والنظم السائدة في المجتمع سواء أكانت اجتماعية أو وطنية أو قومية.. فالأدب، أي الأدب «اللامعقول »، أو «اللاواقع»

ويقول كمال أبو ديب صاحب كتاب (جدلية الخفاء والتجلي): «الحداثة انقطاع معرفي؛ ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني، ولكون الله مركز الوجود.و الحداثة انقطاع؛ لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني، ولكون الإنسان مركز الوجود….

تؤكد خالدة سعيد ـ زوج أدونيس على أن :(.. الحداثة أكثر من التجديد؛ فهي ترتبط بصورة عامة بالانزياح المتسارع في المعارف، وأنماط العلاقات، والإنتاج على نحو يستتبع صراعاً مع المعتقدات؛ مثلما فعل (جبران) في كسر الشرائع وكشف الحقائق… كذلك كان طه حسين وعلي عبد الرازق يخوضان معركة زعزعة النموذج ـ يعني الإسلام ـ بإسقاط صفة الأصالة فيه، ورده إلى الموروث التاريخي، ليؤكدا بأن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر في ما اكتسب صفة القداسة [القرآن والحديث] وحق نزع الأسطورة عن المقدس، وحق الأسئلة والبحث عن الأجوبة.

ويقول حداثي عربي: « يجب أن نخلع جبة الأصول، وقلنسوة الوعظ،والإرشاد لنترك للشاعر حرية مساءلة النص، ونقض الماضي وتجاربه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تقترحه من أسئلة. وليس هذا من حق الشاعر فحسب، ولكنه حق حياتنا المعاصرة علينا

وهذا الكلام يحمل شحنة من التمرد يزعمون أنها وظيفة الأديب والأدب ـ الآن ـ بل إنهم يزعمون أن هذا التمرد لا ينبغي أن يُحصَر في مجال الأدب، ولكنه رسالة العصر سواء أكان المتمرد أديباً أو غير أديب.

ومصطلحات (الماضي والتراث، وسلطان التاريخ، والقداسة…) وما أشبه هذه الكلمات التي لا يقصد منها الحداثيون إلا الإسلام، وما يتصل به من فكر وأدب، وقيم وسلوك وتراث. والذي نستغربه أنهم رجعوا في كتاباتهم إلى الماضي وأساطير الأولين كالتراث الإغريقي والروماني ومنح الحداثيون أنفسهم حق نزع صفة القداسة عن المقدس [الإسلام] ومارسوا حق تصرف الوارث في إرثه، فأخضعوا الإسلام للنقض والأخذ والرد، وأعطوا أنفسهم حق مناقشته وتأويله.

وقد حذر كثير من العقلاء، والأدباء الشرفاء من خطورة موجة الحداثة على الأدب والثقافة العربية الأصيلة، والمؤامرة التي تحاك لسحق هويتنا الثقافية، وإفساد ذوق الجماهير، وتشويه تراثنا وحضارتنا مما يؤدي في نهاية الأمر إلى تحويل أفراد الأمة إلى نباتات مخلوعة من الأرض غير قادرة على النمو والازدهار.

       إن هذه التقليعات الأدبية ـ كما يرى رجاء النقاش ـ أنها وليدة بعض بيئات الترف والفراغ في أمريكا ومجتمعات أوروبا الغربية المتقدمة التي لم تعد أمامها ما تهتم به أو تسعى إليه في مجال القيم الإنسانية والحضارية، والتي لم تعد تفكر إلا في الرخاء الذي تخشى زواله، وفي الراحة التي أصبح من «المتعب» الحرص عليها والرغبة في منعها من الانهيار.

إن هناك مجتمعات غربية متقدمة لم تعرف هذا الترقي الأدبي والعبث الفني على الإطلاق مثل إنجلترا التي لم نسمع بشاعر فيها يكتب قصائده بالمثلثات أو المربعات والمستطيلات، ولم نسمع بفنان يسمح لنفسه بالهلوسة، ويجد حوله نقاداً يصفقون له ويرفعون رايته ويقولون للعالَم: إن هذا هو الفن الصحيح.

ومن العجيب ـ والكلام لرجاء النقاش ـ أن أصحاب هذه الدعوة الجديدة يقولون إنهم يكتبون قصيدة النثر الخالية من كل قيود القصيدة القديمة، مثل: الوزن أو الموسيقى، وغير ذلك من العناصر الفنية الأساسية في الشعر؛ فهل هذا الادعاء هو ادعاء صحيح؟.. الحقيقة أنه في جوهره ادعاء كاذب؛ لأن الأدب العربي قد عرف منذ عصوره القديمة ذلك النثر المليء بندى الشعر وعذوبته منذ كتابات أبي العلاء في «الفصول والغايات»، وكتابات «أبي حيان التوحيدي..

وقد عرفنا هذا اللون من النثر المليء بروح الشعر في كثير من كتابات المعاصرين مثل: المنفلوطي، والرافعي، والعقاد، وزكي مبارك، ومي زيادة، وجبران، وأمين الريحاني، وأحمد حسن الزيات… فما أكثر ما كتب هؤلاء نثراً بروح الشعر مليئاً بالوجدان والعاطفة، ولكننا ابداً ما كنا نخرج من كتابات هؤلاء ونحن أشبه بالمجانين الذين فقدوا عقولهم وفقدوا قدرتهم على التمييز بين الأشياء، بل كنا نخرج من كتابات هؤلاء الموهوبين ونحن على العكس ـ في منتهى اليقظة والنشوة العقلية.

نحن والغرب:

نحن لا ندعو ـ أبداً ـ إلى الانعزال عن الثقافة والآداب العالمية، بل ندعو إلى التواصل معها على أساس مبدأ الانتقاء والاصطفاء الذي يلائم فكرنا وشخصيتنا وانتماءنا العربي والإسلامي، ومجتمعنا الذي يختلف في ظروفه وقضاياه عن المجتمعات الغربية. فهذا هو جبران خليل جبران ـ على الرغم من كونه من دعاة التغريب في أدبنا العربي الحديث ـ إلا أننا نجده يصِف العلاقة بين الشرق والغرب وصفاً معقولا؛ حيث يقول: «قلّد الغربُ الشرقَ بحيث مَضَغ وحوَّل الصالح مما اقتبسه إلى كيانه، أما الشرق فإنه اليوم يقلد الغرب، فيتناول ما يطبخه الغربيون ويبتلعه دون إن يحوله إلى كيانه، بل إنه على العكس يحول كيانه إلى كيان غربي، فيبدو أشبه بشيخ هرم فقد أضراسه، أو بطفل لا أضراس له ومن الجحود أن ننكر دور المسيحيين العرب الذين أثروا لغتنا العربية وآدابها بل هم أول من طبعوا القرآن وقدموه هدية للمسلمين بعد أن كانت النسخة الواحدة منه تكلف بناء منزل وبعد أن كان القرآن حكرا على فئة الشيوخ الأزهرية أصبح كل منزل من منازل المسلمين تتواجد به نسخة من القرآن.. وأن أول من حمى المسلمين من بطش العرب هو النجاشي ملك الحبشة وكان مسيحيا وهو أول من منح المسلمين حق اللجوء السياسي وممارسة طقوسهم الدينية في بلاده وفرض عليهم الحماية و أنهم حافظوا على لغتنا  العربية في عصر الأتراك العثمانيين.! فبعد أن كانت كُل مراسلات دولة الخلافة العثمانية باللغة التركية ، جمع المسيحيون العرب شتات اللغة العربية ورفضوا الخضوع لسياسة التتريك وقرارات حكومة الإتحاد والترقي فردت .! ثم إِنَّ أول مطبعة في العالم العربي، كانت في لبنان وهي مطبعة حجرية جلبها المارونيون المسيحيون وهي التي كانت تسمى مطبعة دير الخنشارة وأن أول كتاب مطبوع بالحرف العربي هو كتاب تحت عنوان (ميزان الزمان) طبع في هذه المطبعة وأنَّ أَول دائرة معارف عربية مرتبة على غرار الموسوعات العالمية كانت من تأليف المعلم بطرس البستاني.! الذي ألف قاموسا عصريا في اللغة العربية (معجم محيط المحيط) والذي صار مرجعا لترتيب كل القواميس والمعاجم اللاحقة

و ينبه جبران إلى حقيقتين: «الأولى: أن الغرب صديق وعدو لنا في آنٍ واحد: صديق إذا تمكنا منه، وعدو إذا وهبنا له قلوبنا وعقولنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا، وعدو إذا وضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه.

أما الحقيقة الثانية: فهي أنه خير للإنسان أن يبني كوخاً بسيطاً من ذاته الأصيلة، من أن يقيم صرحاً شاهقاً من ذاته المقتبسة المنسوخة.

ومن أسف أننا وهبنا ـ للغرب ـ قلوبنا وعقولنا، ووضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه. لقد كان كل هذا نتيجة حتمية لهذا المسخ والتقليد والتبعية المطلقة والتهالك على الطارئ. كل ذلك أردى أدبنا العربي في أوحال المادية والعبثية والفحش، وأجهض الكلمة الطيبة بالغموض والنثرية، وتتمثل هذه التبعية ـ بوضوح شديد ـ في المناهج النقدية، وفي فصل الأدب عن الفكر الإسلامي وبإعلاء الشخصيات المشبوهة، وبالسقوط الأخلاقي، وبضرب لغة القرآن، ومحاكمة الشخصيات الإسلامية بمعايير مادية وفلسفية. وكسر الثوابت، والإيمان بشمولية التغير واستمراره.

كذلك؛ فإن من أشد آثار التغريب والتقليد المستهجن للآداب الأجنبية أنك تجد الأدب العربي الحديث يعيش بلا هوية، وبلا تماسك، وبلا خصوصية، وأعقب ذلك نهوض أقلام مؤثرة لنبش العفن في موروثنا الأدبي، بحجة أنه موروث، فجاء إحياء الفكر ، الوثني، وشعر الانحلال والمجون،  كما أعيدت ظواهر أدبية وشخصيات مشبوهة لم تكن حاضرة في الذهن رغبة في تحولها إلى قدرة سيئة للناشئة؛ ، كالزنادقة والشعوبيين والباطنيين، كل أولئك يترددون على ألسنة الأدباء وبشكل لم يسبق له مثيل.

إضافة إلى أن هذا الأدب العربي الحديث ـ بكل أجناسه ـ قد ازداد تأثراً بالمذاهب الأدبية الغربية في لهاث مسعور منذ منتصف القرن العشرين، وتحول بعضه على يد المتغربين إلى دعوات فاجرة وهجوم شرس على عقيدتنا الإسلامية وتراثنا، وصار جهداً حثيثا لغرس القيم الغربية في الفن والحياة، ولم يقتصر التأثير على استعادة الأدوات الفنية، بل امتد إلى الخلفيات الفكرية والفلسفية التي تصدر عنها المذاهب الأدبية الغربية، وقد صدرت قصص ودواوين تحمل صورتها وتدعو إليها صراحة وضمناً.

وتبعاً لذلك؛ فقد توزع قسم من أدبنا خلف الأيديولوجيات المختلفة، فوجدت الماركسية قبل سقوطها أدباء يجسدون أفكارها، ويدعون ـ من خلال أعمالهم الأدبية ـ إلى الالتحاق بها، ووجدت نقاداً يجتهدون في تثبيت الواقعية الاشتراكية الصياغة الأدبية للماركسية.

وبالمثل تماماً؛ فقد وجدت الكتلة الغربية أبواقاً تدعو بقوة إلى اعتناق حضارتها وتقليد فنونها وآدابها.

إلى جانب هذا وذاك، قد تجد أدباً وجودياً، وماركسياً، ومذاهب واتجاهات تسرح وتمرح في وسطنا، وتسهم في تلوُّث وعينا يتبنّاها أبناؤنا ويبشرون بها، ويسعون لتكريسها، أو على الأقل يمنحونها مشروعية الوجود، ولا في معاشرتها، وطرد الغربة عنها.

وهكذا كثر اللغط، وتداعت الأصوات وتوزع قسم وافر من أدبنا المعاصر وراء المذاهب الأدبية الغربية «المستوردة»، وحمل أدواتها الفنية من جهة، وقيمها وتصوراتها من جهة أخرى، ففقد كثيراً من ملامح الشخصية العربية الإسلامية، وتحول إلى خنجر يهاجم الإسلام والعروبة.

والأنكى من ذلك ظهور أعمال أدبية تعبث بالقيم الخلقية ـ التي يحرص عليها الإسلام ـ عبثاً شديداً، وتصوّر القبح والنحطاط والنزوات الجنسية المحرمة على أنها عواطف إنسانية رقيقة جديرة بالاهتمام، وتبيح التحلل وتسعى إلى تكريسه في أعماق الشباب تحت غطاء الحرية الشخصية وذريعة التمدن ومواكبة العصر.

وقد لقي هذا الأدب الرخيص تشجيعاً من بعض الأجهزة ومن الهيئات والمؤسسات الثقافية والإعلامية في كثير من البلدان العربية ؛ كما شجعت دور النشر على هذا الأدب المكشوف في سباق محموم، وملأ واجهات المكتبات، بل تسلّل ـ بكل ما فيه من إثارة وهدم للقيم إلى محافظ المدارس ومخادع النوم و وشجع على انتشاره الحواسيب والهواتف من خلال وسائل التواصل الاجتماعي .

وصارت هذه الأعمال ـ بفضل التغريب ـ عنواناً لـ (التنوير) و(التقدم،) وشعاراً لـ (الحداثة)، وطريقاً لـ (التفكير العلمي) الصحيح، وتماشياً مع (روح العصر) حتى وصل ببعضهم إلى الدعوة المغرضة إلى تغيير البرامج والمناهج التعليمية لتنفث فيها سمومها القاتلة .

ورغم كل ما فعله هؤلاء القوم من بني جلدتنا، فإن إيماننا أن الثقافة العربية والإسلامية لهي أقوى من أن تشوّه جمالها بعض الأتربة العابرة، أو أن يطفئ نورها هؤلاء الذين يحاولون حجب الشمس بالغربال :مصداقا لقول الشاعر :

إن الشموس إذا فاضت منابعها        هل كنت تزعم غربالا سيخفيها ؟

وما تزال القصائد العمودية الخليلية تمشي شامخة مزهوة راقصة على قدميْ : الشطرين مستوعبة كل الأغراض .

أرجو في النهاية ألا أكون من الذين ينكّرون لأي أحد عرشه ، “وعلى الله قصد السبيل .

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *