مَن يغتَرّ بشِعره يبدأ بالهبوط
الشاعرة يسرى البيطار لـ”النهار”:
مَن يغتَرّ بشِعره يبدأ بالهبوط وأدعو الشاعرات إلى النّضال
أ.د. أنور الموسى*
الشّاعرة الدكتورة يسرى البيطار التي تطلق على نفسها “ابنة الموهبة”، اختمرَت تجربتُها الشّعريّة بعدما نَضِجَ لديها هامشُ الحرّيّة، وانفجرَت مكبوتاتُ “الدّواخل”. وهي إذْ تتّكئ دائمًا على التراث، تفشي سرّ ازدياد جمهورها، وهو التّواضع واحترام عقول النّاس.
تؤكّد البيطار أنّ الشّعرَ عالميُّ النّزعةِ والفضاء، لا حدود طائفيّة أو جغرافيّة تقيّده، وهي تَقبَلُ النّقدَ فيما ترفض التّفلسف.
فمن هي هذه الشاعرة؟ “النهار” حاورتها.
– من هي الدكتورة يسرى البيطار الإنسانة والشّاعرة؟
يسرى البيطار ابنةُ القريةِ اللّبنانيّةِ الشّماليّة كفيفان. أستاذةٌ للّغةِ العربيّة في #الجامعة_اللبنانية. أمّا الشّاعرة فهي ابنةُ الموهبة.
– متى تفتّحَت براعمُ تجربتِك الشّعريّة؟
الموهبة الشّعريّة تولَدُ مع الشّاعر، لكنّها تظهرُ في لحظةٍ ما. لطالما كنْتُ أكتبُ النّثرَ، وما يسمَّى أحيانًا “النّثرَ الشِّعريّ”، لكنّني لم أنشرْ قصائدَ إلاّ سنة 2014، عندما اقتنعْتُ بأنّ ما كتبْتُه يستحقُّ النّشر. وقد كانَ ذلك لسببٍ وظرفٍ وأزمة فجَّرَت «الدّواخل»، ولأنّ هامشَ حرّيّتي كانَ قد اتّسع، وأعرفُ أن لا إبداع من دون الحرّيّة.
– هل للطفولة أثرٌ في موهبتك؟
ربّما تحدِّدُ مرحلةُ الطّفولةِ بعضَ اتّجاهاتِ الموهبة، لكنّها لا تصنعُ الموهبة.
– لِمَ تتّكئين دومًا على التّراث؟
كلُّ تجديدٍ يجبُ أن يتأسّسَ على التراثِ والأصالة وينطلقَ منهما، وإلاّ فهو إسقاطٌ سطحيّ؛ لذلكَ أكتبُ القصيدةَ العموديّة، وقصيدةَ التفعيلة كما فعلَ شعراءُ الحداثة. فالفرقُ بين الحداثةِ المنطلقة من الأصول والتحجّر فرقٌ شاسع. الإنسانُ الأصيل هو مجدِّدٌ وحداثَويّ. أمّا المتخلِّفُ المتحجِّر، والغوغائيُّ في التجديدِ المُسْقَط من الخارج، فهُما وجهانِ للسّطحيّةِ الواحدة؛ الأوّل يقلِّدُ القدماءَ تقليدًا أعمى، والآخَرُ يقلِّدُ الغربَ تقليدًا أعمى كذلك.
– يلاحَظُ ازدياد جمهورك بشكلٍ لافت؛ إلامَ تَعْزين السّبب؟
جمهورُ الشّاعر مثلُ جمهور الفنّانين، يدفعُه الحبُّ فقط. ولكنْ أنْ يحبَّ الجمهورُ شاعرًا فهذا أصعب. سأعترفُ بالأسباب، وأوّلُها التواضُع واحترامُ النّاس، واحترامُ النّفس. ومن أوجُهِ احترام النّاس أن لا أتوجّهَ إليهم بأيِّ نصٍّ كان وأقولَ لهم هذه قصيدة؛ فالنّاس يصعبُ استغباؤُهم وإنْ كانوا أمّيِّين. علينا أن نقدِّمَ لهم ما يُبْهِجُ ويُدهِش. ثمّ علينا أن نحترمَ مشاعرَهم. والإنسانُ الذي لا يراعي مشاعرَ الآخرين لا يمكنُ أن يكونَ شاعرًا حقيقيًّا.
– كيف استطعْتِ خرقَ الاحتكار الرجوليّ للسّاحة الشعريّة؟ وما رسالتُكِ للشّاعرات؟
من المؤسف أنّ المجتمعَ الشّرقيّ يُثْقِلُ كاهلَ المرأة بكلِّ أنواع الضّغط، وهذا يدفعُها إلى الاستسلام. المجتمعاتُ العربيّة مجتمعاتٌ راضخة حتّى في السياسة. رسالتي إلى الشّاعرات هي المضيُّ قُدُمًا في النّضال من أجل كلّ النّساء في العالم العربيّ. والمرأة لا تكونُ قويّة إلاّ إذا بقيَت مثالاً في الاحترامِ والأخلاق.
– هل للشعر حدودٌ طائفيّة أو مناطقيّة؟ وكيف استطعْتِ خرقَ الحدود اللبنانيّة والطائفيّة؟
لا حدود للشِّعر، أبدًا. كلُّ فنٍّ حقيقيّ وأصيل هو عالميٌّ.
ـ ماذا يَفرضُ عليكِ العمل الشعري؟
يفرض بتعاظم الطّموح والمسؤوليّة.
– هل لشعرك نكهة تنتمي إلى الأدب النسويّ؟ ما رأيك بهذه التسمية؟
الشِّعرُ تعبيرٌ عن المشاعرِ والفكر، سواء أكتبَتهُ امرأةٌ أم رجل. والأساس هو الموهبة وليس جنس الكاتب؛ لذلكَ أعتقدُ أنّ مصطلحَ “الشِّعر النّسويّ” هو من باب التّصنيف تحت عنوانٍ ما، كأنْ نقولَ مثلاً “شعراء الشَّمال”. هي مجرَّدُ تسميات.
– هل تقبلين النقد؟ وما رأيك في من يغترّ بشعره أو لا يقرأ سوى نفسه؟
أقبَلُ النّقد لكنّني أرفضُ التفلسُف. ومن شروطِ النّقدِ العلميّ أن يُبنى على أبحاثٍ معترَفٍ بها أكاديميًّا، وأن يكونَ موضوعيًّا. أمّا التفلسُف فيعني ارتجالَ الآراء وإطلاقَها على شكلِ أحكام. هؤلاء المتفلسفون يَكيلون بمكيالَين فإذا سمعْتُهم أبتسم. أمّا النّقّاد فأحترمُهم وأحاولُ الاستفادةَ من آرائِهم الرّصينة؛ لأنّها كَسْبٌ للشّاعر. مَن يغتَرّ بشِعره يبدأ بالهبوط. والقراءات روافد غنى وثراء، لكنّ بعضَها يضيّعُ الوقتَ فأجتنبُه.
– ما رأيك بالحركة الشعريّة في لبنان والوطن العربيّ؟ وما رأيك بالأمسيات والندوات ووسائل التواصل الاجتماعيّ وأثرها في الشعر؟
الحركة الشعريّة نشطة وحيويّة، وهذا أمرٌ يبشّرُ بالخير. أمّا وسائل التواصل الاجتماعيّ فهي ذات وجهَين، فهي من جهة تفتحُ منبرًا مجّانيًّا لكلِّ المتطاولين على الكلمة، كما تفتحُ مجال السرقات الأدبيّة؛ لكنّها في وجهها الإيجابيّ توصِلُ الكلمة المستحِقّة أيضًا، وتتيحُ الفرص للتّواصل بين المثقَّفين. وأظنُّ أنّ هذا الوجهَ الإيجابيّ هو الأهمّ، لأنّ المتطاوِلين على الكلمة يصفّيهم الزمن عاجلاً.
– لمن تكتبين؟
أكتبُ أوّلاً لنفسي، للتّعبير، وأكتبُ أيضًا للجمهورِ الذي سيَقرأ، وللشعوب. لسْتُ أكتبُ الشعرَ لأشخاص، لأنّ الذي يحتاجُ قصيدةً للتواصلِ معه هو شخصٌ بعيدٌ، بعيد.
– ما إنتاجاتك الشعريّة؟
لقد أصدرْتُ مجموعتين: “عطرٌ من الشوق” وَ “أكادُ من المحبّةِ أسقط”، أمّا المجموعةُ الثّالثة فهي قيد الطّباعة.
– إلى أيّ مدرسة تنتمين؟ وما مظاهر التجديد عندك؟
بعض الشّعراء لا تحدُّهم مدرسة. أمّا التجديد في شِعري فهو برسم الباحثين.
– ما رأيك بقصيدة النثر؟ والشعراء الشباب، والمواهب الصاعدة؟
“قصيدة النّثر” مصطلح يُقصَدُ به نوعٌ من النّصوص الأدبيّة شديدُ التّعبير بالصّورة مع الاستغناء عن معايير الإيقاع التقليديّة.
قلْتُ أعلاه إنّ الإسقاط على أدبنا من الخارج ليسَ حداثة، وعلى المجدِّدين أن ينطلقوا من الأصول، ليتجاوزوها.
أمّا المواهب الصّاعدة فأفضّلُ أن لا يتسرّعوا بالنّشر، لأنّ ما يُنشَر يلتصق باسم صاحبه إلى الأبد.
– ما الجوائز والتكريمات؟
أفخرُ بأنّني حصدْتُ “جائزة ناجي نعمان الأدبيّة العالميّة للإبداع 2016″، وبترجمة بعض قصائدي. كما كرّمَتني جمعيّات أدبيّة كثيرة في لبنان وفي المملكة الأردنيّة الهاشميّة، مشكورة.
– ما دور الإلقاء في شعرك؟
الإلقاء إضافةُ تميُّزٍ إلى منبريّة الشّعر العربيّ، فالشِّعرُ العربيّ بامتدادِ أصواتِه، وموسيقاه، وحروفِه، شِعرٌ جماهيريّ. لكنّ الإلقاء لا يزيدُ من قيمةِ الشِّعر. قيمةُ الشِّعر هي في ذاتِه، وهي تتأكّدُ بالقراءة وليس بالإلقاء.
– أيعوِّضُ شِعرُكِ عن نقصٍ أو حرمان؟
الشِّعرُ تعبيرٌ عن الحبّ، أو الحزن، أو الفرح، أو المواقف الكبرى. فإذا عبّرَ عن الحبّ الموجود وعن الفرح الموجود فليس تعويضًا. أمّا إذا عبّرَ عن الحزن أو الغياب أو عن حبٍّ أو عن فرحٍ غير موجود، فهو تعويض.
– هل يُعَدُّ الشّاعر نرجسيًّا؟
في اعتقادي أنّ الشّعراء يشعرون بالتفوّق والتميّز، وبأنّ لديهم قدرة على نقل الجبال، لذلك تراهم واثقين إلى حدّ الكبرياء. لكن علينا أن نميّز بين هذه الثقة والمباهاة من جهة، وبين الغرور أو النّرجسيّة التي تودي بصاحبها إلى الوقوع بطريقة تراجيديّة.
وتختم يسرى البيطار هذا الحوار قائلة:
إنّي سأبقى في ضفافِ الرّيحِ،
إنِّي أستلذُّ الرّيحَ كالنّسرِ…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ في الجامعة اللبنانية
المصدر: “النهار” 28 كانون الثاني 2019