الإيمان والصدق كفيلان بإنجاز ما يبدو عصياً

روعة يونس- دمشق

ليس كافياً ولا عادلاً، الاكتفاء بوصف قدس الأب الياس زحلاوي، بأنه الأب الروحي، والمرشد الديني والأديب المثقف والكاتب المؤلف، والمصلح الاجتماعي والمؤسس لمشاريع فنية ثقافية، كرّسته مفكراً فريداً من نوعه، شاملاً كل المناحي الإنسانية.

فالأب زحلاوي بعد ٩٠ عاماً قضى جلّها في العطاء اللامتناهي، ونصرة الحق، والدفاع عن قضايانا الوطنية والقومية بقلب وفكر وروح باسلة.. بات قديساً في القلوب. قديس الأخلاق والشجاعة وقول الحق.. هو قديس الكلمة، وفي البدء كانت الكلمة…

برحابة صدر ودماثة خُلق لا تخلو من ابتسامة مليئة بالمحبة، أجاب على اسئلتنا التي رغبنا طرحها عنده، بلغته المفعمة بروحه المعطاءة، وتلك هي:

  • بداية، كم استلزمكم من وقت وجهد وسعي وقراءات وتأمل وشغف، حتى وصلتم إلى ما أنتم عليه الآن من مكانة غالية في قلوب وضمائر الناس؟

ـ قبل كل شيء، دعيني أؤكد لك أني، إذ كنت من كنت، وكتبت ما كتبت، وأنجزت ما أنجزت، لم أسع يوماً إلى كسبٍ ما، كل ما فعلته، وحاولت أن أفعله، أن أكون صادقاً مع ذاتي ومع من حولي ومحباً لمن شئت أن أوقف له حياتي، الرب يسوع، ومحباً لكل من شاء الله لي، وشئت لنفسي، أن التقيهم على دروب الحياة، بدءاً من الأرض التي احتضنتني، سورية.

  • جرت العادة، إلى حد كبير، أن ينأى رجال الأديان، عن ولوج عوالم الثقافة العامة، والشؤون الوطنية والقومية، وأقصد تحديداً أنهم يتفرغون للجانب الديني الإرشادي (الوعظ). فهل لنا أن نعرف نواة شخصيتكم منذ عقود، التي أثمرت عطاءات وإنجازات نلمسها اليوم على كافة الأصعدة؟

ـ أريد أن أنأى بالإجابة عمن تصنفينهم برجال الأديان، وأقصر كلامي على رجال الدين المسيحي تجنباً لأي التباس، كلنا بغنى عنه. إن ولوجي فيما تسمينها عوالم الثقافة العامة، والشؤون الوطنية والقومية، لم يكن قطعاً خارجاً عما شئته التزاماً صادقاً ووفياً، للمجتمع الذي اختاره لي الله، والذي اخترت أن أشاركه حياته بكل أبعادها بوصفي رجل دين مسيحياً. أوليست هذه كلها شؤوناً يعيشها الناس جميعاً؟ فما الذي يمنعني من أن أعيشها بدوري معهم، صلاة، ووعظاً، ومقالاً، وقصيدة، ومسرحاً، وترتيلاً، وغناء، ونقاشاً حزاً، ودعوة لإصلاح، ولقاء مع مسؤول أو مسؤولين، وتذكيراً دائماً وصادقاً بكرامة الإنسان، كل إنسان، امتداداً حتمياً لكرامة الله؟.

  • ترأسون كنيسة “سيدة دمشق” منذ عقود، وهي مقر العبادة الروحية، التي ينظر الزائر إلى قاعتها على أنها منتدى فكري، ومركز أنشطة ثقافية وفعاليات إبداعية، فهل هذا التحول الهائل لدور الكنيسة، يعني أن تنمية الفكر والثقافة والإبداع، يرقى لديكم إلى مستوى العبادة؟

ـ اسمحي لي بتصحيح مطلع سؤالك إني في كنيسة “سيدة دمشق” منذ عام (1977)، حتى اليوم من عام (2024)، لم أكن يوماً رئيساً في أي شيء، حتى ولا في جوقة الفرح. فلقد أوضحت، منذ اللحظة الأولى، أولاً للعلمانيين الكثيرين والمتنفذين في كنيسة “سيدة دمشق”، الذين طالبوا بي كاهناً في هذه الكنيسة بالذات، ومن ثم أمام رئيسي الأعلى البطريرك مكسيموس الخامس حكيم، وفي حضورهم، أني أريد أن أتفرغ كلياً لخدمة الشبيبة والطفولة، تاركاً للكاهنين القائمين آنذاك فيها، جميع الخدمات الأخرى، وهكذا كان دائماً….

والمعروف أن المبادرات الكثيرة التي قامت في هذه الكنيسة، منذ ذلك الحين، مثل (جوقة الفرح، وأسرة الرعية الجامعية، وفرسان المحبة، وصندوق الأخوة، ويدأ بيد) وسواها الكثير، وخصوصاً إقامة القداس مساء كل أحد، قد غيرت الكثير الكثير على صعيد العلاقات والمفاهيم، والأدوار، وحتى الطقوس والترنيم، مما كان مألوفاً ورتيباً حتى القدسية، في الشأن الكنسي.

وأما عملية استصلاح قبو الكنيسة وتحويله إلى القاعة التي عرفت منذ ذلك الحين، بهمة شبان وشابات أسرة الرعية الجامعية، في عمل طوعي جبار، طوال سنة كاملة، فملحمة حقيقية…

وحسبي الآن ما انتهيتِ إليه من سؤالك هذا، إذ قلتِ:

هل هذا التحول الهائل لدور الكنيسة، يعني أن تنمية الفكر والثقافة والإبداع، يرقى لديكم إلى مستوى العبادة؟.

  • نجاح مسيرتكم الحافلة في شتى ميادين الإبداع (التأليف والبحث التاريخي، وتأسيس الفرق الإنشادية، المسرح، المحاضرات، رصد ظاهرة الصوفانية) وغيرها الكثير، يدحض المقولة الشعبية عن صاحب أكثر من بال. كيف قيّض لكم التميز في كل مجال طرقته؟ لعل إجابتك تكون دليلاً يرشد جيل الشباب؟

ـ يسعدني أن أسمعك تتحدثين عما ترينه نجاحاً في سيرتي هذه. وقد يشاطرك هذا الرأي بعضهم. وعسى أن يكون في ذلك ما يفيد بعض المترددين، أو حتى المتطلعين. ألا تعتقدين معي أن الإيمان والصدق كفيلان بإنجاز ما يبدو عصياً على الكثيرين؟.

  • سنعود بالزمن، حيث تلقيتم علومكم الأكاديمية اللاهوتية في فلسطين، فأي أثر كان للقدس بكل دلالاتها الروحية والتاريخية، في تشكيل قناعاتكم؟

ـ كنت طفلاً في الثانية عشرة من عمري، يوم حملتني الحياة في غفلة مني، إلى مدينة القدس الفريدة، عام (1945)، وقد سكنتني على نحو صاعق، يصعب علي أن أفسره حتى اليوم، أعيش هذا منذ اللحظة الأولى التي أطل فيها على القدس، الباص الذي كان يقلني مع تسعة من أطفال دمشق إلى مدرسة “الصلاحية”، عند المفرق المسمى “مفرق أبو ديس”.

وقدر لي بعد ذلك، عبر الأيام والأسابيع والأشهر، حتى صيف عام (1946) ـ حيث انتقلنا إلى لبنان ـ أن أعرف يسوع قليلاً…

إلاّ أن هذه المعرفة، كان عليها أن تمر بمراحل طويلة، وصعبة وقاسية، سنوات وسنوات، عبر دراستي في لبنان حتى عام (1952)، ومن ثم في القدس العربية من جديد ما بين عامي (1952-1955)، وعامي (1956-1959)، حتى سيامتي الكهنوتية في صيف عام (1959)…

ومنذ ذلك الحين، حتى اللحظة، أحاول أن أكون وفياً للرب يسوع، من خلال وفائي العنيد للإنسان في وطني، وعلى مستوى العالم، ولا سيما في فلسطين، واليوم في غزة.

  • أيضاً.. المتابع لتجربتكم الفكرية الشاملة، يتأكد له أن (الإيمان) أحد أهم منابعها، إنما ما يحدث من ظلم وقهر للشعب الفلسطيني، وتجاهل العالم لمعاناتهم في غزة ومظالمهم تحت نير المحتل الإسرائيلي، يدفعني لسؤالكم عما يقوله لك إيمانك بالإنسان والحب والسلام، باختصار: هل ترون خلاصاً مّا؟

ـ سؤالك هذا بالغ الأهمية. من ناحيتي، حاولت منذ عشرات السنين، أن أقول بعض الشيء، ثم طلعت بمسرحية المدينة المصلوبة عام (1971). وأنا حتى الآن إذ بلغت الثانية والتسعين بفضل الله، أواصل الجهاد بالكلمة…

إلاّ أنه يؤلمني أشد الألم أن أسجل صمت الكنيسة المسيحية، في أعلى مسؤوليها، إزاء ما حدث ويحدث من مظالم تجاوزت كل حد وقانون، في فلسطين عامة، منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً. وتجاوزت كل هول في غزة منذ السابع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام (2023)، وهو صمت يكاد يجار بالتواطؤ…

ورداً على سؤالك، وسؤال معظم الناس: هل من خلاص؟… أحيلك وأحيل جميع السائلين إلى حدثٍ ما كان لأحد أن يتوقعه على الإطلاق، وقد جرى بمرأى ومسمع عشرات الألوف من أناس عاديين ومسؤولين، وأطباء ولاهوتيين، وإعلاميين من سورية أولاً، ثم من العالم كله، في حي متواضع في دمشق، يدعى الصوفانية، بدءاً من يوم السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من (1982)…

في هذا الحدث، كلمات قيلت على لسان السيدة العذراء أولاً، ثم على لسان السيد المسيح، وفيها وعود قاطعة بقيامة آتية… وحسبي الآن أن أذكر منها اثنتين.

أولاهما، قالتها السيدة العذراء في دمشق، بتاريخ 1983/11/4، باللغة العامية:

“قلبي احترق على إبني الوحيد،

ما رح يحترق على كل أولادي”.؟

الثانية منهما، قالها السيد المسيح باللغة الفصحى، يوم الخميس العظيم من أسبوع الآلام، بتاريخ 17/4/2014:

“الجراح التي نزفت على هذه الأرض، هي عينها الجراح التي في جسدي، لأن السبب والمسبب واحد. ولكن، كونوا على ثقة، بأن مصيرهم مثل مصير يهوذا”.

***

قدم قدس الأب زحلاوي للمكتبة العربية نحو ٤٠ كتاباً. تُشكّل مكتبة بذاتها، وتُعدّ زاداً معرفياً للأجيال. أحدثها كتاب من جزئين “مواقف ورسائل مفتوحة” ضمّ رسائله الى قادة العالم من رؤساء ووزراء ورجال دين ومنظمات دولية، تتضمن مواقفه الشجاعة وقناعاته واعتراضاته.

وفي مقتطف من اَخر رسالة وجهها الى البابا فرنسيس- بابا الفاتيكان، بتاريخ ١١شباط ٢٠٢٣/ يقول:

“بوصفي كاهناً كاثوليكياً من سورية، تخطّى التسعين من العمر، ويدرك تماماً أنه قد يمثل في أية لحظة أمام العزة الإلهية، دعني أستحلفك بحق المسيح يسوع، هل تُراك تجهل حقاً ما يجري على الساحة الدولية عامة، وما جرى ويجري، وما يراد له أن يجري في سورية خاصة، أقله منذ اثنتي عشرة سنة؟ فلم تراك تتصرّف وكأنك لست ممثلاً للسيد المسيح، وخادماً له؟

حتام تريد أن تتجاهل، أن من يشنون الحروب المبرمجة، ويسنون “القوانين” و”العقوبات” اللاقانونية، بحق الشعوب كلها، ليسوا في حقيقة الأمر، كما يشهد على ذلك تاريخ الغرب الطويل والأسود، سوى قتلة، وكذبة وسراق، يحتاجون، قبل كل شيء، إلى من ينقذهم من أنفسهم أولاً، كي يسعى من ثم إلى إنقاذ شعوبهم وشعوب الأرض، من شرهم المتمادي؟

فلم تراك تصمت، وتبرّر بالتالي، صمت جميع المسؤولين في كنائس الغرب الكاثوليكية؟

وماذا ستقول للرب يسوع، إذا ما اكتمل مخطط تدمير العالم العربي، وتشتيت شعوبه، وتفريغه من مسيحييه، ولا سيما في فلسطين وسورية، أرضه ووطنه؟

الستَ خادماً له… يسوع إياه، الذي قال أحنّ الكلام في المستضعفين في الأرض، وأقساه في المتجبرين على البشر؟ أليس أضعف الإيمان أن يعيد الخادم كلام سيده”.؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush