هل تحب الشعر*
من الذائقة والذاكرة الشعرية:
هل تحب الشعر*
طلال السهيل
والذائقة تربّى ، والتنوّع مسار حياة .. فإذا تحوّلت الذائقة إلى نمط ، وتالياً إلى عادة ، دخلت في عالم الجبروت ، وعندها أسهل من تغيير عادة إزاحة جبل !
وأن تكسر “عادة” تدخل في ذاكرة أمضّها النسيان بقدر ما يريحها . أقصد ذاكرة سجالات و دونكشيات الصراع حول الشعر الحديث وقصيدة النثر في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت ..
وفي كل حال ، سنعد أنفسنا في هذا اللقاء (ندوة لأصوات شعرية شابة و جديدة) أن نلتقي حول وفي ميدان لا زال إشكالياً وسيظلّ إلى ما شاء “حماة الحِمى” ـ أعني ميدان قصيدة النثر .
ـ من أين أدخل في الذاكرة ؟ من بابها.. من باب النسيان ربما !
فقد كنت في اليفاعة ، نُحفّظ قصائد حافلة بالكلم الثقيل ، ومن كل العصور الأدبية (كمادّة استظهار) . و مرّة سُئلت هل تُحب الشعر؟ قلت لا.. فأنا آنس للنثر ! (وانتبهت مؤخراً ، ولم ينتبه الأستاذ ـ السائل إلى أنني كنت أقرأ “جبران” ، حيث أحببت “النثر” ، حين أجبت بحبّي إيّاه) .. وتوصّلت لاحقاً إلى أنّ ما كنت أفضّله على الشعر هو ما سيكون مرجعية لما عُرف من بعدُ بـ قصيدة النثر..
من أين أدخلُ في الذاكرة ؟
من ثغرة للذائقة السائدة !
في ندوة شعرية لأحد الشعراء الحديثين (شاعر تفعيلة معروف)، وكان تقريظ وكان حماس.. اقترب أحدُهم من الشاعر المنتشي، وقال له :”حلو وبديع ما سمعناه، لكن… لو كان ما قلته شعراً كان أفضل بـ كتير !!”
ـ في أواخر السبعينيات، كتب عادل فاخوري ( أستاذ اللسانيات والمنطق ، المعروف) القصيدة البصرية الالكترونية (أو ما سُمّي بالشعر الكونكريتي )، وذلك في تبرير له (أو في تجريب له) في أنّ الشعر ـ كما كان يقول ـ قد هرب !
هرب إلى الفنون الأخرى ، إلى السينما والمسرح ، إلى الصورة والميديا … [انظر إلى إعلان دعاية لسكاير المارلبورو : كاوبوي فوق حصان ، يشعّ بالألوان والحركة ، يصهل الحصان ويشرئبّان (الكاوبوي و الحصان) ، يصطفق موجٌ ـ رذاذ الماء ، ثم تظهر بين أصابع الفارس ، ونحو فمه علبة المارلبورو… فيما يحاكي قصيدة كاملة و طازجة ، وفي منتهى الشاعرية !]
ـ في السبعينيات أيضاً ، راجت مقولة “موت الشعر” في مواجهة التكنولوجيا الحديثة الصاخبة ، و كان سبقها مقولة نيتشه “موت الله” ، ثم تلتها مقولات .. موت المثقف و موت الأيديولوجيا … إلى آخره من “الانسان الأخير” وسائر النهايات .. بين المفهوم السائد والمكرّس ( حتى لا نقول المقدّس ) للشعر، والمقصود الشعر المنظوم الموزون والمُهندَس ، و بين “موت” الشعر في مواجهة التكنولوجيا “الغاشمة” … في هذه المسافة ما برحت قصيدة النثر تحاول حطّ رحالها ، و تحضّر لاستكمال المواجهة ، وعلى طريقتها!
ـ قصيدة النثر (أو باقي التسميات) عندنا ، ما برحت رغم مرور أكثر من ستين سنة على بيان “لن” لأحد أبرز مروّجيها و كُتّابها (أنسي الحاج) تواجه ذهنية التحريم ، ذهنية التمييز بين الأنواع ، والرغبة في أن يظلّ النظام الهندسيّ سائداً في الشعر وفي الفنون بشكل عام ..
وهكذا… كما لو أننا في صراع أجيال ، أو صراع طبقات بين قصائد أميرات و قصائد بنات الجواري !
بنات الجواري هؤلاء ، ولأنهنّ كذلك يواجهن كمّاً هائلاً من الاتهامات والمصادرة ، والتلفيقات النقدية من قبيل التأثّر بالشعر المترجم والتمثّل بالأجنبي ، وحتى العمالة للمستعمِر … ناهيك بتخريب التراث !
ـ لقصيدة النثر أعداء لا يُعَدّون .. لكن ، لها مؤيّدون ومريدون وشعراء مميّزون ، وهواة ، ونقّاد هادفون …
ـ قصيدة النثر حرَّة في اختيار شكلها (ما تفرضه تجربة الشاعرالشخصيّة).. هي حوارٌ لانهائي بين هدم الأشكال و بنائها ؛ موسيقاها ليست خضوعاً للإيقاعات المقنّنة (القديمة)؛ موسيقاها استجابة لإيقاع التجارب المتموّجة (إيقاع يتجدّد باستمرار ..) .
ـ كثر يستسهلونها لأنّها متحرِّرة من القوالب الجاهزة و القوانين الموروثة ، لكنْ يفوتهم أنها تفرض على شاعرها أن يخلق قوانينه الفنية الملائمة ، والخلق بحرّية أصعب جداً من الخلق بقواعد معيّنة _ كما يكتب أدونيس ، الذي يقول أيضاً ” إنّ قصيدة النثر خطرة لأنّها حرّة ” ؛ واللغة الشعرية هي مقياس التمييز ….
ـ لن نفصِّل أكثر .. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ قصيدة النثر بالرغم من استنادها إلى أكثر من جد/قديم هو ما سُمّي أحياناً بـ “النثر الفني” (كما لدى جبران) ، أو الشعر المنثور (كما لدى أمين الريحاني) ، و رغم اكتسابها لشرعية لافتة، عبر آلاف المنشورات منذ ارتهاصاتها الأولى و حتى اليوم، ! ماتزال لدى “حماة الحِمى” و”الشرف الرفيع “، ما تزال يُنظر إليها. مخلوقاً لقيطاً ، مشوَّهاً ومخيفاً .! بل أكثر .. لقد خضعت لـ “دائرة نفوس” كاملة من تعداد للأسماء والألقاب والنعوت ، فذكّروا لها أكثر من 45 اسماً ، ليس أقلَّها إجحافاً وامتقاتاً لفظتا : نثريدة ونضيدة !! كأنما أختهما البكر قصيدة ، امتلكت عصمتها بيدها و تبوّأت عرشها تماماً مع ذلك اليوم السابع حيث “استوى” ـ ودونما حيْدُ أُنملة ـ مالك الدهر العظيم !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- مداخلة افتتاحية في ندوة للشعراء الشباب في “الملتقى الثقافي اللبناني” شارك فيها ثلّة من الشعراء الشباب، ومداخلة مطولة للدكتور الشاعر محمد علي شمس الدين.