الخميس 28 مارس, 2024

مئذنة عمران!

مئذنة عمران!

ابنة الجنوب

نص روائي

كنت أقرأ كما يفعل الأنبياء أول نزول الوحي… أقرأ وفي روحي رجفة تشبه هزة الفجر ساعة السحر… أنصتُ قليلاً لوحيٍ يندسّ في غياهب مناجاتي، وأسمع طقطة السماء! أسمع هاتفا ينادي من بعيد ” بمثل هذا يعرف الله” أسمع مناجياً من بعيد، يؤذن من فوق التلال ” الله أكبر… الله أكبر”… لونٌ برتقاليٌ تشربهُ ضفاف التلال، وفي رئتيَّ تتسع هوة بحجم درب الجبال والوديان… الوقت يسخر من سمّار الليل ثقلاء الظل! سقف غرفتي الخشبيُّ صار غيمة بنفجسية، وجدران بيتي المتشققة صارت عروقاً تنبضُ باسمها الوردي… الليل بحرٌ متوحشٌ يلتهم كل مريديه! لسان حالهِ يجأر مردداً صوتاً صوفياً غامضاً “لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار”…..

استيقظ عمران قبل أن ينتفس الصبح أول أنفاسه، والشمس ما زالت تواري جديلتها الشقراء خلف تخوم التلال اللازوردية… عمران يحب صوته وهو يؤذن معلناً مواقيت الصلاة! يشرب قهوته المرّة قبل موعد الأذان بنصف ساعة، ويبدأ يجرب صوته وكأنه يستعد لقدّاس مريم! تنهره زوجته كلّما سمعت صوته النشاز، مردِّدة عبارتها التي تشبه الحياة “ويحك يا عمران.. كم مرة عليَّ أن أذكِّرك أن صوتك يشبه رَحَى القمح… صوتك يشبه جاروشة جارتنا سلوم”… جسد عمران نحيل كقصب نخيل الحمراء! له ساقان برَتْهُما الريح والخُطى، وخطوط وجهه متعرجة، وعلى جبهته العليا نتوء غريب يشبه شكل الصليب! شعره أسود وكثيف، ورائحة عطره حديث حَيِّ غرناطة اليومي.

10024_largeيتوقف عمران قليلاً عن أداء الأذان في بيته، ثم ينظر للمرآة مرة أخرى ويبتسم وكأنه يريد أن يقول شيئاً لزوجته، لكنه يصمت بعد ذلك، ويرتدي عباءته الرمادية، ويحث الخطى صوب المسجد، فقد اقترب موعد الصلاة، وفي صدره أنين يشبه صوت الأرض المنهكة من أقدام جنود هولاكو. يترك الباب خلفه موارباً ولا يسلم على زوجته هذه المرة. وما أن يودِّع عتبات البيت حتى تقع عيناه على نافذة البيت الملاصق للمسجد.

فرحٌ مَّا يجتاح عمران كلما رأى شعرها الكستنائي من زاوية النافذة المطلة على المسجد، وهو يتموّج شمالا وجنوباً وكل ما يستطيع أن يلمحه عينين تشبهان الجحيم تلتهمان كل إنش من جسده المتعب. فرحٌ سرّي ينقضُّ على عمران ويجعله يصدح بالأذان عالياً كلما ارتقى مئذنة المسجد، وكأنه يريد أن يقول شيئاً غير ما تقوله عبارة ” الله أكبر” وكأنه يريد أن يقول شيئاً لا يمكن أن يقال! ينهي عمران الأذان ويخرّ أرضاً وهو يجهش بالبكاء.. الحيُّ بأكملهِ سمع عمران وهو يبكي، فظنّ الجميع أن عمران ينزف حباً لله! ظن الجميع أن عمران يبكي على طريقة المتصوفة، فعمران كان يردد كثيراً شعر تقي الدين السروجي في المسجد:

أنعــم بوصلك لي فهـذا وقتــــــه        يكفي مـن الهجران ما قـد أنفقته

أنفقت عمري في هواك ، وليتني        أُعطــى وصـولا بالــذي أنفقتــه

يـا مـن شُغلت بحبـــه عن غيـره        وسلوت كل النــاس حين عشقته

كم جال فى ميدان حسنك فارس         بالسبق فيك الى رضـاك سبقتـه

انت الذى جمع المحاسن وجهـه         لكن عليـه تصبُّــرى فرقتـــــــه

قـال الوشـاة قـد ادّعى بك نسبـة        فسـررت لما قلت قـد صدقتـــــه

بالله ان سالــوك عنـي قـل لهـــم        عبدي وملك يـدي ومـا اعتقتـــه

أو قيـل مشتـاق اليـك فقـل لهـــم        ادري بـذا وانـا الـذي شـوّقتــــه

انتشرت شائعة بعد أسبوع في حي غرناطة تقول إن عمران لم يأت للمسجد منذ أسبوع. لكن الغريب أن الأهالي كلهم صاروا يسمعون صوت الآذان متبوعاً ببكاء فيه بحة حزينة وهيبة غامضة لا أحد يعرف مصدرها.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *