السبت 20 أبريل, 2024

طحالب ثقافية

طحالب ثقافية

د . محمد المارديني

بعد الترحيب بالحضورِ وإلقاء التحيّة،

بدأت ندوةُ تلك الأمسية “الثقافية” التي خصِّصَت لإلقاء الضّوء على إسهامات المرأةِ في ميادين الثقافة والإبداع.

رحّبَ مديرُ الجلسة بالحاضرين وقدّم الضيفةَ الاستثنائية – على حدّ تعبيره – لِما تملكه من صفات عظيمةٍ قلّ مثيلُها بين نساء العرب، فهي تلك الرائعة ذات الأدب الجمّ والسجايا الكريمة والبناء المعرفيّ والثقافيّ المتكامل التي قرأت مئةَ كتاب وكتاب!

ثمّ دعاها لتقدّمَ محاضرتها التي ستحكي فيها عن عصارة تجربتها في هذه الحياة.

صفق الجميعُ لها بحرارة وهي تصعد إلى المنصّةِ، حتّى لكأني خلتُ نفسي سأستمعُ إلى سيرة بطلةٍ من رائداتِ الزمان

وما لبثت أن أخذت مكانها و بدأت في قصّ سيرتها الذاتيّة !

كانت الضيفةُ شابةً لم تتجاوز الثلاثين من العمر ، بدينةً جداً لكنها جميلةُ المُحيّا ، وربما قد خضعت لعملية جراحية في الأنف لتصحيح

 انحراف الوتِرة، تلبس قميصاً أبيضَ اللون، وبنطالاً أسودَ قد ضاق على ساقيها وفخذيها فأوغل في إظهار بدانتها.

بدأتِ الضيفة بالتعريف عن نفسها بكونها مديرةً لأهمّ مؤسسة تُعنى بتربية وتعليم الأطفال.

وبالرغم من صغر سنها استطاعت أن تنهلَ من ينابيع الثقافة أغزرَها، ومن الأدبِ أكثرَه تميُّزاً،

فهي، مذ كانت طفلةً، لم تدَع قصةً أو رواية أو مسرحية، عربية كانت أو أجنبيةً إلا قرأتها، كما أنها تتقنُ لغاتٍ عدّةً كالانكليزية والفرنسية والإسبانية، بالإضافة إلى عملِها محررةً صحفيّة في بداية شبابها، كما نظمتِ الشعرَ وهي في سنّ العاشرة، وكتبتِ القصةَ القصيرة وهي في سنّ الثالثةَ عشرة، ومارستِ الرياضة بأنواعها المختلفة، وسافرت إلى بلاد الهند والسند فغرفَت من ثقافتها، واغتربت لمدة سنتين في أوربا تتعلمُ في أحد معاهدها علومَ الحاسوب.

و لم يمنعها كلُّ ذلك أبداً من إشباع شغفها الموسيقيِّ فتعلّمتِ العزفَ على العود والقانون والغيتار.

وكلُّ ما وصلت إليه كان بفضلِ أبيها ذلك الشخصِ العظيم الذي لم يتأخر لحظةً واحدة عن تلبية طلباتها وتحقيقِ رغباتها في المجالات كافةً.

لم أستسغ كثيراً هذا العرض المميزَ من تلك المُحاضِرة الشابة لأنّ صورتَها وعمرها لم يعكسا – تبعاً لحدسي- ما ادّعته أبداً حول هذا الكمّ الهائل من المواهبِ المتفرّدة ، كذلك كان كلامها باللغة العاميّة ضعيفةِ اللحنِ والتأثير على أذن المتلقّي، فلا شواهد شعريّة أو نثريّة، ولا تواريخ محفوظة، ولا أسماء أعلام أو مؤسسات عالميّة!

بدأتُ أكظمُ غيظي من هذه السيدة، وخاصة وأنا أرى ابتساماتِ الإعجاب من عوام الناس الذين تأثروا كثيراً إلى حدّ ذرف الدموع بما قالته، ناهيك عن بعض المراهقين واليافعين أربابِ منتديات القراءة الذين حاولوا الاقترابَ من المنبر، لالتقاط صور”السيلفي” معها التي قد تنفعهم يوماً في مسيرة إبداعهم الآتي !

بدأت أشعر بالضيقِ ممّا أرى فالتفتُّ في محاولة لتنفيس حنقي بتبادل حديثٍ مع الرجل الجالس بجانبي، فقلت له وهي ما زالت تتحدث إلى الحضور :

لا أظنّها تتمتع بكل تلك المواهب التي قصّتها علينا، ما رأيك ؟

رمقني ذلك الشخص بنظرة استغرابٍ تحولت إلى نظرة شجب مبدياً تعاطفَه المطلق مع تلك المحاضِرة.

صمتُّ قليلاً ثم عدت لأقول له: الله وكيلك أقسمُ أنّها مدعيةٌ إلى حدّ الكذب ، فالثقافة تقطر عادة من حاملها كما يتقطّرُ العسل من الشمع عند جمعه ، فلا منطقها بحميد، ولا كلامها يشي عن ثقافة وحسٍّ إبداعيٍّ تحاول، بتصنُّعٍ بالغ، أن تظهره .

وكل ما حكته لنا كان استعراضاً باستعراض، وسأثبت لك ذلك.

كشّرَ جاري في المقعد عن أنيابه، مبدياً انزعاجَه البالغ من مقاطعتي لإنصاته لها.

وما إن انتهت من محاضرتها حتى عرض مدير الجلسة على الجمهور الموجود أن يبدأ بطرح الأسئلة عليها، فرفعت يدي على الفور كأوّل السائلين، فأعطاني الميكروفون لتلك الغاية وباشرتُ قائلاً :

أرجو أن تتحمّليني أيّتُها المثقّفة البارعة ببضع أسئلة فلربما كانت أسئلتي محرجة.

قالت : لا إحراج البتّةَ، فأنا إنسانة طبيعية، الصدقُ عنواني، وسأجيبك بمنتهى الصراحة ، قل ما شئت واسأل ما يحلو لك !

سألتها أولاً:

هلّا أخبرتِنا ما آخر كتاب أو قصة أو رواية عربية قرأتِها ، ولكن أرجوكِ ألا تجيبي “فوضى الحواس”،

أو “الأسود يليق بك”.

قالت لي بعد أن ضحكت ضحكة مصطنعة:

والله وكأنكَ تقرأ ما بداخلي، هي فعلاً “فوضى الحواس” آخر ما قرأت لأحلام مستغانمي، وأستعدّ الآن لقراءة روايةٍ نسيت اسمها لكن هي لكويلو على ما أعتقد.

قلت لها: تقصدين باولو كويلو، وروايته الخيميائي؟؟

قالت: هي بذاتها

أعِدُّ نفسي لقراءتها خلال اليومين القادمين.

قلت لها:

لا أتوقّعُ أن تنهيها في يومين فهي طويلة، ومشاغلُك ما شاء الله كثيرةٌ كما عرفنا من محاضرتك!

قالت: أظنُّكَ لا تعرف أيَّ نوع من البشر أنا ـ وعقدت حاجبيها بانزعاج ـ أنا يا أخي الكريم مهووسةٌ بالقراءة، أو فلتقل : مدمنةُ ، إن شئتَ ، عندما أمسك بقصةٍ أو رواية لا يمكنني النوم أبداً ما لم أنهِها.

قلت لها: ما شاء الله.. ما شاء الله! واستدركتُ :

طيب.. ومن هو الشاعر الذي تفضّلينَ شعره ؟

صمتت قليلاً ثم ابتسمت واضعة سبابتَها على فمها وكأنها تتذكر اسماً ما ثم قالت: نزار.

قلت لها مستهزئاً بطريقة قولها نزار وكأنه صديقها : من نزار؟

قالت وهي تبدي امتعاضها من جهلي بنزار : أوَ لا تعرف من نزار قباني؟؟

قلت لها: طبعاً أعرفه !

وما أجمل قصيدة أو بيت شعر برأيكِ لنزار؟

فكرت قليلاً ثم قالت : هل هناك أجمل من …

إني خيرتك فاختاري

ما بين الموت على صدري

أو فوق دفاتر أشعاري

قلت لها:

ألا تسمعيننا شعراً لنزار لم يغنِّه كاظم الساهر؟؟

أنَّبني مدير الجلسة بأنني أطلتُ الأسئلة عليها، وأنّ عليّ احترامَ طلب الآخرين للحديث مع الضيفة وطرح أسئلتهم عليها.

قلت له: حاضر يا سيدي، سأنتقل لسؤالي الأخير.

قالت لي بامتعاض: تفضل!

قلت لها: ما دمتِ تتحدثين لغات عدة، كما قرأت العديد من المسرحيات والروايات لأدباء عالميين، فمن هو أهم أديب عالمي بنظركِ؟

قالت لي: وهل هناك أعظم وأهمُّ من شكسبير؟!

قلت لها:

إذاً أرجو أن تتفضلي علينا بقراءة شيء ما من شعره وباللغة الإنكليزية إن تكرّمتِ، فنحن نتمنى أن نسمعك أيضاً تنطقين بالإنكليزية فقاطعتني على الفور قائلة:

ألا تترك لغيرك الفرصة ليسأل؟؟ لم آتِ إلى هنا لأجيبك عن أسئلتك وحدك !!

ثم ضحكت ضحكة صفراءَ وكأنها تمازحني.

قلت لها: آسف جداً وشكراً من القلب لتحمُّلِك سماجتي ولسعة صدرك في الإجابة عن استفساراتي.

عدت فجلست على مقعدي ثم اقتربت برأسي من جاري الجالس أمامي فقلت له بصوت خفيض:

أرأيت ؟؟ ألم أقل لك إنّها شخصٌ مدّعٍ ؟؟

لا ثقافة لديها، ولا لغة أجنبية جيدة، ولا أيّ شيء يميزها عنا نحن الحضورَ الذين اضطُرِرنا أن ننصت إليها مضيّعينَ ثمينَ وقتنا بالاستماع إليها.

وأغرب شيء حديثُها عن أبيها بزهوٍّ واعتزاز، ونعتُه بالشخص العظيم، أين هو من هذه العظمة؟؟ لقد ربّاها على الكذب والثرثرة والتعالي على الناس.

نظر إليَّ الرّجلُ نظرة اشمئزاز، ثم انفجر في وجهي بصوت أجشَّ كصوت مدّخنٍ مخضرمٍ أفنى حياته بتدخين لفافات التبغ ، قائلاً :

كفاك ثرثرةً وغيبة للناس ، ابتعد عني أرجوك !!

كان بإمكانك الانسحابُ ومغادرةُ القاعة حينَ أزعجكَ حديثها لكنك مع الأسف لا تسمع ولا تدعُ أحداً يسمع !

اتركني يا أخي أرجوك.

اعتذرتُ منه أشدّ الاعتذار على التطفل، وأنَّبتُ لساني على كثرة الكلام بما يلزم وما لا يلزم ، واعداً إياه بإطباق فمي حتّى نهاية الجلسة.

وبعيد انتهاء الأسئلة وقفت المحاضرة الشابة وقالت : لا أملك في نهاية محاضرتي إلا أن أشكركم فرداً فرداً على حضوركم البهيّ، وأتشرف في هذه اللحظة بأن أهديَ كلّ نجاحاتي وتفوقي ووصولي إلى ما وصلتُ إليه إلى أبي الحبيب، ذلك الجنديّ المجهول الغائب الحاضر معي ، إنه في قلبي وفي عقلي..

يصحبني أينما ذهبت وأينما حللت،

وها هو الآن معي ماثلٌ أمامكم هنا

قم يا أبي

يا أعظم إنسان في الدنيا واصعد إلى المنصة وعرِّفِ الناس بك. وأشارت إليه، فإذا هو الشخص نفسه الذي يجلس بجواري.

استدار إليّ قبل أن يهبَّ واقفاً وهو يكزُّ على أضراسه،

فلم أملك سوى الانسحاب بسرعة من القاعة قبل ألا يحدثَ ما لا يُحمد عقباه.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *