الجمعة 29 مارس, 2024

«تموز» ينتظر من يكتبه

«تموز» ينتظر من يكتبه

مهدي منصور

mansor-1

الذين رقدوا بالأمس أفقياً، تحت جلد الأرض، كيف استيقظوا شجراً وأنصاباً تذكارية؟ والبيوت كيف كانت تكتسب بعداً جديداً بينما تخسرُ جداراً هشاً؟ كيف اتسعت لكل التلال المتاخمة عندما ابتلعت قذيفة واحدة؟ والناجون الذين كانوا يدلكون صدر الجبال بينما تقطف طائرة عائلاتهم الصغيرة كيف أصبح لهم صلات قربى جديدة؟ يتفكرُ جنديٌّ وهو يسحب آخر دباباته المعطوبة جنوباً وينعطف جهة الخيبة.

بعد عشر سنوات على الصيف الأكثر حرارة وخصوبة، لمّا تزل أغلب المشاهد ساخنة، كفكرة قصيدة تنتظر من يكتبها. أو ربما، كملامح وقرى كانت مرسومةً سابقاً على شكل لوحة عظيمة وقد خرجت لتوّها من القماش بعد أن غافلت الرسام.

يظل الأبد أدباً إلى أن يصير الأدب أبداً، كما تظل المادة الفنيّة ساخنة إلى أن تبترد على شكل فن. ولذا نلاحظ سخونة مسرح الأحداث على طزاجتها بعد عقدٍ من المجد. لا أعرف إذا كان هناك أسطورة وراء بقاء فكرة الانتصار هلامية وغير مطوّقة ومحصنة في قوالب فنيّة، أسطورة أخرى يمكن أن تضاف إلى الصمود الأسطوري للجنوبيين في وجه أقدم دموية في التاريخ. أم أنّنا لم نتجرأ بعد على الخروج من دائرة النشوة للكتابة عنها وموسقتها ومسرحتها وابتداع النصوص الجديدة من ثنياتها كما ينبغي. والأكيد في الأمر أن الوقت حان لدرء الضباب عن انتصار تموز وتقديمه بصورة مناسبة وأهميته، صورة أقرب إلى القصائد منها إلى السياسة والهمس منها إلى الخطابة.

لقد كتب المهزوم عن انكساراته أفضل ممّا كتبنا عن انتصاراتنا. ولمّا كان المقاومون يجترحون آفاقاً جديدة ويستقدمون أمتعةً وأدوات قتال حديثة، كان المبدعون منشغلين بتجويد ما جرت عليه الألسنة. لست مؤهلاً للدخول في تحليل تأخر الأدب خاصة والفن عامةً عن تألق الميدان إلى هذا الحدّ، ولكن كيف نفهم أنّ الفن الذي يتفاعل مع فكرة في أقاصي الكون، لمّا يتجلّ، برأيي، بعد في مدارج شهر نضج التين والعنب، آخذين بعين الاعتبار أنّ أسلافنا الشعراء طالما كانوا في صفوف المعارك الأمامية وقصائدهم كانت ظهير انتصاراتهم في التاريخ، ومواقفهم كانت الأصدق إنباءً من الكتبة والجلاوزة. هل ثمة شك في أنّ «فتح عمورية» هو فتح أدبي أيضاً؟ وأن «الحدث الحمراء» صارت حدثاً أخضر حين جرى جدولُ المجد من قصائد المتنبي إلى سيف في قبضة سيف الدولة؟ فلماذا تظلل القوافي كل حراك مجيد، منذ ما قبل فتح مكة إلى ما بعد فتح الأندلس ولا يطلع البدرُ علينا من ثنيات الجنوب؟ ليس عليّ هنا أن أحلل الأسباب ولكنها آخذة بالوضوح وقد لا نحتاج عقداً جديداً من الزمن لتشتعل الحرية بكل أشكالها في الأرض التي تتعطش لأغاني الحياة، حتى في مجالس شهدائها أكثر من حداء الرحيل في أعراس أبنائها.

القصائد مصابيح الوقائع. المجد الذي لا يُرى مجدٌ يتيم. الانتصار الذي لا يُقرأ انتصار ناقص.

تساءل مرة الشاعر محمود درويش، الذي تُصادف ذكرى رحيله مع ذكرى الانتصار هذا العام، عمّن يستحق الأرض أكثر: أصحابها أم من يكتب عنها بشكل أجمل. ويقول إن شعر «يهودا عميحاي»، وهو شاعر (إسرائيلي)، أحرجنا كلّنا. طبعاً لا قيمة قانونية للصور البيانية التي تتحدث بسخونة عن فلسطين في قصائد «عميحاي» أو غيره محاولاً إقناع العالم بالقصائد أن له ما ليس له، ولكن العالم الذي يقرأ القيم الفنية التي ينتجها أدب الكيان، ويسوّق لها، لا بد تشغله قليلاً عن جرائمه الكبيرة.

ولمّا كان الشعراء العرب عموماً والفلسطينيون خصوصاً غير منشغلين بمعاناة الجنوبيين تحت نير الاحتلال، بحيث إننا لم نقرأ قصيدة واحدة تنصف الجنوب في شعر درويش أو سميح القاسم أو حتى مقالة في أدب إدوارد سعيد، صار لزاماً على الشعراء الجنوبيين أن يحملوا قراهم على أكتافهم إلى مصافي البيان، ويذوّبوا أجمل شهدائهم في قصائد صالحة للحفظ ويجرّوا مياه ينابيعهم العذبة إلى روايات يباهي من قرأها كل من تأخر عنها.

ما جرى في «تموز» 2006 لم يكن حرباً بقدر ما كان ولادة. هكذا كان عهد هذه البلاد بـ «تموز» منذ أن أحبّ «عشتار» قبل ما يزيد عن ثلاثة آلاف عام وحتى الذكرى السنوية العاشرة لمجد شديد الوضوح لدرجة أنه لم يُرَ بعد، أو لم يُصدّق. «تموز» الذي يسكن في شيفراتنا الجينيّة وينتقل عبر السلالات على شكل تراجيديا، علّمنا أنّ الموت في حبّ عشتار حياة، وأن المراثي التي تقام على المروج لا شك ستصير أعراساً عابقة برائحة المطر الأوّل…

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-08-13 على الصفحة رقم 10 – ثقافة

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *