الجمعة 19 أبريل, 2024

تحيَّة لروح الشّاعر موريس عَوّاد …

تحيَّة لروح الشّاعر موريس عَوّاد …

باسم عون

bssam own

 

قُيِّضَ لي منذ أكثر من عشرين سنة حضور أُمْسيَةٍ شعريَّةٍ للشّاعراللبناني الكبير موريس عوّاد.

ولكن الليلة الفنية تلك لم تكن لِتَمُتَّ إلى المناخ الشعريِّ بِصِلة رُغم عبقريَّة الشّاعر وتماهيهِ المطلق مع ربَّة الشِّعر وعذارى القصائد ، وإليكُم الخَبَر:

mouris-1في فناء أحد الفنادق الجبليّة التي تغفو عند أقدام صنّين المهيب حيث راح الخريف يصْفر في جَنبات الحديقة  فينزعَ عن الأشجار لباسَها الصيفيّ  لِتَنْصاعَ في موكبِه عاريةً انصياعَ بنات حوّاء في عروض أجسادٍ فارقتها أزياؤها لإفتقار السوق للأقمشة وللحَياءِ مُجْتَمِعَيْن ، تفتَّقت عبقريَّةُ صاحب الفندق عمّا من شأنه أن يضخَّ الحياة في شرايين فندقِهِ الكئيب في هذا الموسم الحزين من السّنة.

وماذا لو لبِسَ الفندق لُبوسَ الثفاقة والشِّعْر؟؟

ألَمْ يكفي صاحبه ما طاله من الإشاعات في كيفيّة بنائِه من حيث مصادر التَّمْويل والزمنُ زمن حربٍ ودمارٍ وانهيارٍ اقتصادِيّ ! بَلى … سَيَتَسَرْبَلُ الفندق بِمطارفَ مِن شِعْرٍ وفنٍّ وثقافَة …

وهكذا كان… ودُعِيَ الشّاعر موريس عوّاد لِهَذِه المُهِمَّةِ الجَلَلْ…

وأزفَّت ساعةُ اللقاء . ها هو الشّاعِر مُتَصَدِّراً صالون الشَّرَف في الفندق .هامَتُه تحاكي هامة صنّين بياضاً وثورةٌ تتلظّى في العينين الصغيرتين إن دَلَّت على شيءٍ فإنَّما تدلُّ على ما في اللبنانيِّ من شموخٍ وعزَّةٍ وكرامَة .

الصّالةُ خاليةٌ إِلاّ مِن نَفَرٍ من الخَدَم يَروحونَ ويَجيؤون بأقداحِ المياه والمَفَارِش المُزَيَّنَة إحتفاءً بالمُناسبةِ الثَّقافية . وعلى المدْخل إنتَصبَ صاحبُ الفندق بقامتِه الفارعَةِ والقلقُ بادٍ في عينينِ جشعتينِ لَطالما مارسَتا سِحرَهُما على القرْشِ  فاجْتذبتاه من أَقاصي الجُيوب . أمّا اجْتِذابُ المثقَّفين فتِلك مسألة أخرى.

ولكنذَ المُضيف لم ييأس لعلمِه بعادات اللبنانيين في مثل تلك الظروف . فلطالما شعر اللبنانيُّ العنيد بأن ثَمَةَ ما يَنْتَقِصُ مِن كرامتِهِ إن هو جاءَ على الموعدِ المُحَدَّد دونَ تأخير. ورغمَ ذلك فقد عَمَد صاحِبُنا إلى حَلٍّ “كِتابيّ” في الصَّميم وعَمَلاً بخطَّةِ رَبِّ الدَّعْوة الإنْجيليّ أوفَدَ مِن قِبَلِه مَن دعا إلى الأُمسِيَة كلَّ مَن هَبَّ ودبَّ على قَدمَيْن غَيْر مُسْتْثنِياً من ذلك البوَّابين والحمّالين ورجال أمنِ الفندُق وُصولاً إلى الطَّباخةِ سَميرة….

قِيلَ قَديماً :” بارَكَ الله أرْضاً دَبَّت فيها الأقدام” .

ودَبَّتِ الأقدام… وتوافَد المدْعُوّونَ وفي العيون ألف سؤالٍ فِيما عَساها تَكونُ هذه الأُمِسية الخاليةِ من طعامٍ وشرابٍ وموسيقى…

وارتسمَت على وجِه الشّاعر بسمةٌ فيها بعضُ الرِّضى… واستوى على عرْشِ القصيدة فبدا كَ ” نَبِيِّ ” جُبران قَلباً وقالباً .

وكانت لحظاتٌ أومأَ فيها المُضيفُ بِرأسِه للشّاعر أَن أَبشِر فالسّاحةُ ساحَتُك . وابتدأتِ المعركة البَتْراء … واقتَحَمَ الشّاعر الضَّوْضاءَ بأُولى قصائِده…

“مِتْلِ العِطْر”

متل  ل عطر يا زهر قلبي فاح

جِسْمك أنوسي بس ما نطرتي

ت ل عطر يبعت…

وإِذا بالنّادِل قد اقبلَ، فوقَفَ على مقربةٍ من أنْفِ الشّاعِر وَراحَ يَفتحُ عُبْوَةً من المِياه المعدِنيّة ليملأَ لَه الكوب .فتململَ الشّاعر ورمى نادِلَهُ بنظرة استغراب ثمّ هَمْهَمَ ملتفتًا إلى صاحب الفندق : ” يا عمي صِرْت شِرْبان كبّايْتين… بَيْعدولي هادا مِن هون”

وابتعد النادِل مُتعثِّراً بأذيالهِ، فقهقه الجَمْعُ وكُسِرَتْ القصيدة.

وتابع الشاعر…

تل عطر يتعب فوحتو ويرتاح

لون الصبا ع وجك وصرتي :

يا حب وينك ؟ لوح التفاح!

وهنا زَقْزَقتِ العيون وتغازمت فاختال الشّاعرُ غير عالمٍ بأنَّ جمهوره الجرديّ مِن مزارعي الثمرة المذكورة وقد باتوا على موعد مع القطاق…

وتمِّك لْ كِلّو شْفاف خمَّرتي

وخصرك يا عمري ومن عيونك لاح

ب بحر لعيون تمايل كبرتي

فهتفت جَميلةُ إِبنَة السِّتّين وقد أخَذَ الطَّرَشُ مِن سَمْعِها حَيِّزًا كبيراً فتَدارَكَتْهُ بِرَفْع عَقيرَتِها:

” وْلِك يا سَميرة، هَيْأتو بْيِحْكي مِتْلنا ..قَوْلِك مَنُّشْ مِتْعَلِّمْ ؟”

فالتفت الحضور ناحية الصَّوت وَوَخزَت الطَبّاخة جارتَها الطَّرْشاء فأخمدَتها…

ورَدَّ الشّاعِر : “هَيْدي اللِغّا اللبنانيّي يا تُقْبريني. لِغِّة  سِتّي وْسِتِّك . وْهَيْك لازِم كِلّ الشُّعَرا  يِحْكو” …وتابَع :

بِ بيتنا وعْطيتك المفتاح

إنتي فْتحي. وِلبيت عطَّرْتي

وصرتي تِجي البوسات صارو جْناح

وياما ع تخت الليل مَزْمَزْتي

هنا افتتحَ المُضيف مَهْرجان التَّصْفيق للشّاعر “الجَغَل” وسَرَت الهَمْهَمات مِثل “منيحَه” أو “مَنّوش هَيِّن هالخِتيار ” إلى آخر المَعْزوفة من التعليقات المبتذلة…

وصاح الّشاعر:” يا عَمّي قْطَشْطولْنا القَصيدي مِيِّة شَقْفي… مَ بيصِرْش هَيْكي”…

وأكمل القصيدة بِشُقِّ النّفْس وقد أَخَذ منه الإجهادُ كلَّ مأَخذ … وعاد النادِلُ بِعبْوة المياه السالفة الذِكْر، فَشرِب الشّاعر وشكَرَ، وترَحَّمَ أيضًا…

…ءَصيدي جْديدي من ديواني ” حَفّ عَ الأيام “…

تسمّيني باسمك

أنا سمّيكي باسمي

سَماري عاجسمك

بياضك عاجسمي

سَماري قربانك

بياضك مدْبحي

فرشيلي نيسانِك ع الزّهر واشلحي…

فَسَرَت همْهَماتٌ وبَسماتٌ وَوَشْوشات …

…وتابع الشاعر

واشلحي غيابك فيّي

وكلي منّي وتناولي الحب

اشربي

اسقيني الي بقي

اركعيني ع مدبح غيابك

أنا قداس غيابك …

وهنا تنحنحَ الخوري الجالس في الصَّف الأماميّ وشمَّر وافقاً ، ثمّ خَرَج …فاستدْرَكَ الشّاعر: “لَه لَه لَه يا بونا ، هَيدا شِعر منُّش لاهوت ” .ولكنَّ المحترَم كان قد أصبح خارج الصّالة .

وأيضاً وأيضاً ، تابَعَ الشّاعر بانتظار القَفْلة المُنتظرة.

مين الكاس ومين الخمرا ؟ ما بيهمّ \ صرنا معتَّقين عَ الحبّ

البيهمّ دوقك وانداق…

وهنا دخلَ المُضيف يتبعُه نَفرٌ من الخدمِ وصاح :”إجِتْ القَهوي “، فكان هذا الدُّخول المباغِت كالقشَّة التي قَصَمت ظهر البَعير فما كان من الشّاعر إلا أن هبَّ واقفاً ،وقد طفحَ كيلَهُ من جمهوره الأرْعَن فضربَ على الطّاولة ،فتناثرَتِ الأَوراق على الأرض وطارت الكوب فبلَّلت المياه المفارشَ وأصابَ رذاذُها لِحْيَتَهُ فبلّلَتْها، وهنا أطلقَ الشّاعِر وبلغَّتهِ اللبنانيَّةِ المَحْكيَّة “قَفْلَتَهُ” غَيرِ الُمْنتَظَرَة :” إخْتِ الشِّعْر عَ إخْتِ الأَصايِد ع إِخْت هَاللَيْلي”…

وطَفَقَ خارِجاً “مُبَرْبِراً” وَسَطَ اندِهاشِ مَدْعُوّوينَ فاغِرِي الأَفْواهِ، صُفْرِ الوُجوهِ وقَد عَقَدَت الصَّدمةُ أَلسنتهُم..

أمّا أنا فقد تَمْتمْت في سِرّي : ” موريس عواد…هكذا أُحبّك” …

في 16 \ك1\2018

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *