السبت 20 أبريل, 2024

برهان شاوي: أحبُّ الكتابة

برهان شاوي: أحبُّ الكتابة التي تغوص في أعماق الشخصيات

نازك بدير

e83c7e31-e3a3-43f4-9311-0d759a241c7fبعد أن مارس الشعر أربعين عاماً انتقل إلى الرواية التي لم يكن بعيداً عنها في قصائده. كتاباته، لا تغوص فقط في أعماق المرأة، ولكن أيضاً في أعماق الرجل. سلسلته الروائية «المتاهات» تحمل شخصياتها آدم وحواء. هذه الرواية تعالج الثالوث المحرّم: الجنس والسياسة والدين وهي روايات معرفية بمعنى أنها تعتمد على مكتبة كاملة وتعالج الفلسفة والأساطير وعلم النفس، لتشكّل السينما ملهماً لها بحيث أن بعضها عبارة عن سيناريوهات مكتوبة. حول هذه التجربة المتنوّعة، والممتدّة، يتحدّث الروائي العراقي (المقيم في المانيا) برهان شاوي حول «ارتعاشة النص الخفيّة» التي أخذته إلى «المتاهات»..

*  ما هو تأثير تجربتك الشعريّة في أعمالك الروائيّة؟

ـ لتجربتي الشعرية تأثير جوهري على تجربتي الروائية، ليس من ناحية شاعرية اللغة، فأنا لا أميل إلى الرواية الشعرية المليئة بشطحات الشعر وتهويمات اللغة والاستعارات والاستطرادات التي تبعد السرد الروائي عن تتبع الحكاية وأحداثها، بل أقصد بالشعرية تلك التي تكمن في ارتعاشة النص الخفية. شاعرية الحدث والشخصيات والطقس الروائي.

كما هو معروف، فإني توجّهت إلى الرواية بعد أن أصدرت سبع مجموعات شعرية، وكتبت الشعر لما يقارب الأربعين عاماً. توجّهت إلى الرواية كلّياً بعد بلوغي الخمسين عاماً. توجّهت إليها بروح الشاعر الذي يرى في الرواية والسرد الروائي الوسيلة الملائمة للتعبير عن القلق الروحي، والأسئلة الفلسفية والفكرية، والضجيج الذي لم تعد القصيدة تتحمّله، وتضيق به. لكن البعض يرى أن هذا التأثير يمكن تلمّسه في نصوصي الروائية على مستوى اللغة أيضاً. لا أعلم حقّاً.

*  يبدو أثر السينما واضحاً في «المتاهات الستّ». إلى أيّ حدّ تخدم الخلفيّة السينمائيّة العمل السردي؟

ـ درستُ السينما وعلومها أكاديمياً في أحد أفضل معاهد السينما في العالم، «فكيك» في موسكو. أعرف ما معنى السيناريو. كتبتُ دراسة طويلة قبل سنوات بعيدة بعد تخرّجي عن السيناريو باعتباره شكلاً جديداً من الأدب. عندما كتبتُ روايتي الأولى «الجحيم المقدّس»، وضعتُ على غلافها تعبير «رواية سينمائية»، كتجنيسٍ جديد، لأني كنتُ أستخدم كلّ تقنيات السيناريو السينمائية عند الكتابة، من مونتاج متوازٍ إلى القطع والانتقالات المتوازية في الزمان والمكان، إلى طبيعة اللقطات. أي توصيف الشخصيات والأحداث. حتّى أن أحد الباحثين التونسيين، الذين بحثوا في الرواية السينمائية، اعتبرني أول من استخدم هذا المصطلح أدبياً ونقدياً على رواية منشورة.

أثر السينما واضحٌ في أعمالٍ روائية عربية كثيرة. يُمكننا أن نرى ذلك واضحًا في روايات عديدة لنجيب محفوظ وإسماعيل فهد إسماعيل وإبراهيم نصرالله مثلاً. هناك كتاب وشعراء وفنانون كثيرون تأثّروا بالسينما بشكل غير مباشر.

الذات الإنسانية

*  تتوغّل في رواياتك إلى أعماق الذّات الإنسانيّة، لا سيّما النسويّة منها، ما يجعل النصّ مرآة تعكس النفس البشريّة في أحوالها وتقلباتها كلّها. كيف تفسّر هذا الأمر؟

ـ أميلُ إلى الرواية النفسية والمعرفية وتيار الوعي. أحبُّ الرواية التي تغوص في أعماق الشخصيات، وترصد تحوّلاتها النفسية التي تنعكس في ما بعد على سلوكها الروائي. أما «لا سيما النسوية منها»، فأعتقد أني توغّلتُ في عالم الرجل أيضاً. ربما لأنّكِ امرأة، وجدتِ أني توغّلتُ في أعماق المرأة. لكنّي كرجل، أتوغّل أيضاً في أعمق أعماق الرجل. لا تنسي أني في «متاهاتي الست»، المنشورة لغاية الآن، قدّمتُ 162 شخصية، منها 92 رجلاً و63 امرأة، أي أن عدد الشخصيات الذكورية أكثر. ساعدتني دراستي علم النفس وانتمائي فكرياً إلى تياراته، لا سيما اليسار الفرويدي، في رصد تحوّلات النفس البشرية، مهما كانت تلك الشخصية عابرة وغير حاسمة في أحداث الرواية.

*  بالنسبة إلى شخصيّات «المتاهات»، فإنها كلّها تحمل اسمَي آدم وحوّاء. لمَ وقع الاختيار على هذين الاسمين؟

ـ لأني بذلك تجاوزت دلالات السماء دينياً ومذهبياً وجغرافياً، بل عمّمتُ التجربة إنسانياً. آدم هو آدم باللغات والأديان كلّها، وحواء هي أم البشر. إذا كانت أوروبية أو مسيحية، يكون اسمها إيفا، وهو المعادل التوراتي لحواء. آدم وحواء اختزال وترميز للجنس البشري كلّه.

*  هل تجد أنّ تكرار اسمَي آدم وحوّاء يبعث على الرّتابة؟ أم أنّ ترسيخ التّسميتين له دلالة تسهم في تنمية السّرد؟

ـ لا. لكن، بما أن السلسلة الروائية تحمل اسم «المتاهات»، وكلّ رواية تحمل عنوان «متاهة…»، فإني أُدخِل القارئ المتلقّي في متاهة الأسماء قبل متاهة الأحداث والبناء السردي للرواية. تكرار الأسماء له علاقة بجوهر المتاهة. نحن أمام متاهة الأسماء أيضاً.

*  في رواياتك، تُقارب غالباً التّابوهات الـ 3: الجنس والدين والسياسة. ما الدافع إلى هذا الحفر في المحرَّم؟

ـ ما جدوى الكتابة إذا لم تواجه التابوهات والتحريمات، لا سيما التابوهات الشرقية والبشرية بشكل عام، التي سمّيتِها أنتِ. شخصياً، لا يمكن الحديث عن أي فعل تنويري للكتابة، إذا لم تتوغّل في مواجهة تابو المقدس وتابو الجنس وصراع الطبقات الذي يتجلّى في السياسة. أعتقد أنه تجب إعادة النظر بهذا الركام من الأساطير المقدّسة، وأنسنة النص المقدس، ووضعه في إطاره التاريخي، وتفكيكه. وكذا مع الحرية الاجتماعية، التي تبدأ من الحرية اللافردية والذاتية، والتي تنطلق من مركزها وجوهرها، ألا وهو الجنس.

المعرفية

*  يمكن تصنيف أعمال برهان شاوي الروائية ضمن مجال الرواية المعرفيّة. فهي تبحث في مختلف جوانب المعرفة، وتبتعد من التسطيح. هل هذا الأمر يجعل أعمالك موجّهة إلى شريحة معيّنة، أم أنّها ترفع مستوى المتلقّي العادي، وتجعله في دائرة المثقّف؟

ـ أنا لا أكتب لأحد، ولا أفكر بأحدٍ، أو بشريحة من القراء. قد يبدو هذا الكلام لدى البعض مبالغاً فيه، لكنه حقيقي. عندما أجلس لأكتب رواية، لا أفكر بأي أحد. أكون منجذباً إلى عالم الشخصيات وتناقضاتها، وإلى سير الأحداث. ربما عندما أنتهي من الرواية وتصدر في كتاب، أفكّر كيف سيتمّ استقبالها.

أما الحديث عن طبيعة رواياتي بأنها معرفية، فأنا أعترف بذلك. أكتبُ الرواية المعرفية التي يجد القارئ فيها كلّ شيء. هناك حكاية متوترة، وأفكار فلسفية، وتفكيك للأساطير، ومشاكسات للمقدّس. هناك جنس، ونقد أدبي، وموسيقى وفنّ تشكيلي وأغانٍ وأفلام. بل هناك مكتبة من الكتب والروايات التي تتمّ مناقشتها أو الإشارة إليها، أو التناصّ معها في رواياتي. هناك أغانٍ، إلى درجة أنّ أحد الأصدقاء اقترح إصدار قرص مدمّج يضم الأغاني التي يرد ذكرها في رواياتي. لكني، كما قلتُ، لا أتوجّه إلى قارئ محدّد. بالمناسبة، هناك قرّاء من الجنسين فهموا الروايات وحلّلوها واكتشفوا فيها أشياء لم يستطع المتابعون من النقاد اكتشافها.

*  هناك توثيق دقيق للأمكنة في المتاهات. فأنت ترسم مسرح الأحداث بدقائقه وتفاصيله كلّها. ما دور المعاينة الجغرافيّة في عمليّة السرد؟

ـ هذه ملاحظة دقيقة. عادةً، أحتاج إلى 6 أو 8 أشهر لكتابة روايتي. لكنّي أقوم بالبحث والتوثيق لما يقارب هذه المدة أيضاً. أذهب إلى أماكن الأحداث. سافرتُ إلى فلورنسا، وبقيتُ فيها شهراً كاملاً لكتابة «متاهة إبليس»، التي تجري معظم أحداثها هناك. سافرتُ إلى فرنسا لكتابة «متاهة الأرواح المنسيّة»، وزرتُ المتاحف التي تزورها البطلة. سافرتُ أيضاً إلى جزيرة «إسكيا» عند كتابة «متاهة الأشباح». زرتُ المغرب مراراً لكتابة متاهتي الجديدة، التي يجري بعض أحداثها هناك. جغرافية الحدث مهمة بالنسبة إليّ، لأنها تمنحني المصداقية أثناء الكتابة، وتساعدني جداً على تحريك الشخصيات أثناء الكتابة.

*  تحدّثت في متاهاتك الأولى عن تنظيم إسلاميّ لا تختلف جرائمه عمّا يقوم به «داعش» اليوم. هل كنتَ ترى ما وصلنا إليه؟

ـ في «متاهة قابيل»، تحدّثتُ عن وجود مسلّحين في بغداد. هناك مكانان لخطف المناوئين أثناء الحرب الأهلية الطائفية في العراق. تحدّثتُ في تلك الرواية أيضاً عما تقوم به الجهات الإرهابية من صراع. وكذا في «متاهة إبليس»، تناولتُ في أحد فصولها استعدادات تلك المجاميع الإرهابية لما سيقومون به. لذا، كانت كأنها نبوءة سوداء عن ظهور «داعش» والأحداث الدامية في سوريا.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-01-26 على الصفحة رقم 14 – ثقافة

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *