الجمعة 29 مارس, 2024

اليقين ـ الضال

اليقين ـ الضال

د . علي راضي أبو زريق

ali rady-1

قبل أن أحظى ببرد اليقين، في ظل القرآن الكريم، عندما فهمته على ضوء قواعد اللغة وأصول قراءة النصوص الراقية. كنت قد عشت اليقين الضال المضل مرتين. الأولى عندما عشت حالة الأقلية أو خصوصية الطائفة. والثانية عندما عشت حالة التحزُّب الديني. ؤغبت في هذه المقالة السريعة أن أتحدث عن هذا اليقين الضال عسى أن يستفيد من تجربتي من يعيش مثل إحدى الحالتين وهو يراجع نفسه. وسبب اليقين أن الإنسان في الحالتين يتلقى معلوماته، التي تصنع يقينه، في جو خصوصي، ومنذ الولادة في حال الأقليات، ومنذ مرحلة المراهقة في حالة التحزب الديني، فأعضاء الطائفة يلقنون أبناءهم تراثا مركزاً بجو من الدفء العائلي ومع الحنان الأبوي والتكرار، وبالمقارنة مع جوٍ عدائيٍّ عشوائي يسمع عنه من أعز الناس قبل أن يواجهه في الشارع ومن العامة حيث تكون، مما يجعل لثقافة الطائفة الحميمة مصداقية استثنائية. وقبل أن يواجه الفتى العامة الفجّة غير المهذبة وسيئة الخلق، أحياناً، يكون قد انغسل دماغه وتشبع بعقيدة طائفته. وبما أن سلوك الأقلية يكون غالباً أكثر حذراً من العامة، ولما يراه من سوء سلوك العامة، يزداد تمسكاً بيقينه الخادع  وبشعوره أنه وطائفته، على الحق الوحيد في هذا العالم. ومهما أتيته من دليل يوظِّفْه لصالحه، حتى لو اضطر للتحليق في الجو على ظهر بعير يطير. وتكون قناعاته جزءا من كيانه، بل ألصق به من بعض جسده.

والحزبية الدينية لا تختلف عن هذا الحال إلا بالدرجة.

ويعيش الحزبي حالة يقين مريحة لولا ما يلقى في الشارع من العامة وأعضاء الأحزاب المنافسة. وتبدأ حالة اليقين الحزبي في مرحلة المراهقة تقريباً، فيحتاج المحظوظ إلى إرادة غير عادية وعون من الله وعقل راجح  وضمير ناضج للتخلص من اليقين الضال قبل أن ينتقل إلى برد اليقين.

واكتفي بذكر حالة واحدة مما أصابني كنموذج ليقين الحزبي الضال وما يسببه له من ألم.

ولا بد أن مثلها وأكثر يصيب كل حزبي جاد مخلص في مرحلة ما قبل النضج، والاعتماد على الذات في صنع تصور سليم عن مجتمعه الحزبي.

بداية التحرر من اليقين الضال

كنت دون الثلاثين عندما التقيت عَرَضا بخبير غربي. كان للقاء علاقة بالمهنة. ولا أدري كيف لاحظ الرجل انتمائي لحزب إسلامي. وإن كان الأمر سهلاً على خبير غربي واسع التجربة. فاستغل فرصة حديث شخصي وبعيد عن الجو المهني، وقال: كنت في الطائرة أجلس إلى جوار فلان ـ وسماه ـ وهو من قادة الجماعة التي كنت أتبعها، ومتخصص بأحد العلوم الشرعية. ثم قال: تحادثنا، ووجدته رجلاً متفتحاً، وشربنا النبيذ معاً. وكنت يومها أومن أن ما أسكر كثيره قليله حرام. وكان ذاك الفلان مقدساً عندي، فهو قدوة لي ولسواي من أبناء الجماعة. فغضبت وأنكرت على الرجل قصته، بل كذبته صراحةً. وفي بقية اليوم دعوت الله في كل ركعة من صلاتي أن يهلك ذلك الكافر الكاذب المدسوس من المخابرات الأميركية ليدمر سمعتنا. كذلك كنت أفكر. وتقدمت بِيَ الأيام. وعلمت أن بعض علماء الدين يبيحون لأنفسهم الشرب ما لم يَسْكروا بناء على فتوى لأبي حنيفة، وأن التحريم المطلق يكون على الآخرين من عامة الناس. فهل صاحبي كذلك؟ وعلمت أن هذه كانت إحدى فتن أبي العلاء المعري التي سجلها شعراً بقوله 

” يُحرِّم فيكم الصهباء صبحاً    ويشربها على عمدٍ مساءً “

ثم تقدمت الأيام واستلم أخي الكبير منصباً إعلامياً. فقدمت له اقتراحاً مع بضع نماذج ببرنامج حواري لغوي يخدم القرآن. ومضت أشهر ولم يجبني. وبعد حوالي سنة سمعته على إحدى الإذاعات بصوته الرخيم يقدم إحدى الحلقات التي سلمتها له على أنها منه. حزنت حزنا شديداً ليس لأنه سرقني بل لسوء ظني بذلك الخبير الغربي. فالسرقة أشد إثماً من شرب نبيذ لم يُسكر. وسرقته مني، وهو أخي الكبير، أشدّ قسوة من أي سرقة أخرى. فكان جديراً به أن يدعمني ويتعهدني ويقدمني للمجتمع ككاتب إسلامي واعد، كما يفعل اليساريون لرفاقهم الواعدين. ثم حمدت الله على فضحه، فقد صادف عمله ذاك بداية تحرري من اليقين الضال وعجّل في انفصالي من هوس التدين غير السوي.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *