القاهرة: مقهى"ريش" الذي نتفوا ريشه..!!
القاهرة: مقهى”ريش” الذي نتفوا ريشه..!!

د. جورج الراسي
كان يفترض في القاهرة أن ترث الخلافة عن القسطنطينية، لكنها ورثت المقاهي بعد أن قرر اتاتورك أن المقاهي مضرة “بالسياسة”… وعرفت القاهرة كيف تطور هذا الميراث وتجعله قبلة للمفكرين والمبدعين… و” الثوريين “.
القاهرة “الكوسموبوليتية “
تعود “نهضة” المقاهي في القاهرة إلى أواسط القرن التاسع عشر، والملاحظ أن بداياتها كانت تتم دائماً بمبادرات من مواطنين “أجانب “..
عام 1875 أسس مهندس إيطالي يعمل في خدمة الخديوي إسماعيل على تطوير القاهرة، مقهى في وسط المدينة عند ما يُعرف بميدان “العتبة”، وأطلق عليه اسم “ماتاتيا” – ربما كان اسم حبيبته،- وعَرِف هذا المقهى الرائد إقبال النخبة عليه، وعلى رأسها جمال الدين الأفغاني….
وفي عام 1909 افتتح رجل الأعمال السويسري (جياكوم غروبي) مقهى آخر أسماه على إسمه “غروبي” في وسط العاصمة أيضا (شارع عدلي) وجعله مقصداً للضباط الإنكليز خلال الحرب العالمية الأولى، وللأرستوقراطية المحلية والأجنبية. ونظراً لنجاح هذا المشروع، فقد ألحقه عام 1924 بفرع ثانٍ في ميدان طلعت حرب (سليمان باشا سابقا) وزاد عليه مطعماً وباراً … وقاعة للرقص..!
تواصلت فتوحات “غروبي” القاهرية فأدخل السينما الصيفية إلى مصر، وكان أول من قدم الحلويات الغربية و”البوظة” وأنواع “الكريمة”..
أهم من هذا كله أنه كان على رأس رواده أم كلثوم وغريمتها آنذاك… اسمهان..!
في عام 1930 واصل الإبن مسار أبيه فافتتح مقهى “الاميركيين ” في شارع سليمان باشا، وجعله في متناول شريحة أوسع من الرواد من حيث الأسعار وتنوع المأكولات والمشروبات. وما لبث هو الآخر أن ألحقه بفرع ثان بشارع 26 يوليو…
بعد عام واحد في 1931 جاء دور المليونير اليهودي داوود عدس، وهو صاحب علامة تجارية معروفة – فافتتح مقهى Rex في شارع عماد الدين بوسط القاهرة أيضا، وكان صاحب رؤية مستقبلية إذ استورد من باريس كراسي المقهى الخشبية!
كان من أبرز رواد هذا المقهى نجيب الريحاني ..
وظل هذا المقهى محافظاً على مقتنياته ومعالمه طيلة أكثر من 60 عاماً بناء على وصية مؤسسه..
وجاء ينضم إلى هذه “الجوقة” مقهى “الحرية ” الذي شيد على انقاض منزل الزعيم احمد عرابي … وقد هرع إليه “المثقفون” لأنه كان مسموحاً له بتقديم البيرة (الجعة كما تقول الإعلانات والمسلسلات العربية)… وهم أحوج ما يكونون إليها لتحمل عاتيات الزمن، بخاصة وأنه يشوّقهم إليها بواسطة الإعلانات المعلقة على جدرانه… باللغة الفرنسية..!
يجب ان ننتظر العام 1960 حتى يُقْدِم شامي على افتتاح مقهى “سوق الحميدية” في “باب اللوق” تحية لقيام “الجمهورية العربية المتحدة”، وتشجيعاً للمصريين لتذوق روائع مطبخ “الإقليم الشمالي “..!
يقال إن الرئيس عبد الناصر حضر حفل الإفتتاح تشجيعا “لوحدة المأكولات”..
لكن الأكيد أن “الزعيم” عادل إمام كان من رواده الأولين، إضافة إلى عبد الوهاب مطاوع، ومحمد نوح، ويونس شلبي وآخرين…
وما ان حل العام 1962 حتى اكتسحت “الثقافة” مقهى “الندوة الثقافية” بباب اللوق أيضاً، حيث كان يتزاحم الأدباء والفنانون، لكنه ظل محتفظا بتقاليده “الوطنية” من حيث منع الرجال من تقبيل النساء – أو العكس طبعا – مما جعل البعض يبحثون عن مكان أكثر قابلية…
وما لبثت “الثقافة” أن رسخت وجودها في “المربع الثقافي” وفي “اتيليه القاهرة” (شارع كريم الدولة وسط المدينة) المفتوح لعروض الفن التشكيلي وللندوات الفكرية والثقافية في مساحة لا تتجاوز 50 متراً مربعاً كانت كافية لكي تخرج منها انتفاضة 1977 وثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وصولا آلى ثورة 30 يونيو/ حزبران 2013 …
ولا بد من ذكر مقهى “الغريون” المواجه في شارع قصر النيل حيث ترتقي الأمور آلى مستوى المشروبات الروحية… وكما “سوق الحميدية” فإن الملكية هنا لعراقي…
نجيب محفوظ: نوبل المقاهي.. وسيد “ريش”..
افضل دليل لمقاهي القاهرة هو بلا شك نجيب محفوظ.
البداية كانت في “مقهى زقاق المدق” القريب من جامع الأزهر والذي أعطى اسمه للرواية، ثم عرج على بعض المقاهي الجانبية كمقاهي “الحسين”، و”كازينو الاوبرا” حيث كان يمترس لويس عوض وسلامة موسى وفتحي غانم قبل أن تستقر الأمور في “مقهى ريش” الذي يعود تاريخ افتتاحه إلى العام 1911، ويقع هو أيضاً في شارع طلعت حرب..
كما أن أبرز مقاهي القاهرة افتتحه اجنبي، وهو مليونير نمساوي هذه المرة، كان من ضمن الجاليات الأجنبية العديدة التي تواجدت آنذاك في العاصمة المصرية في ظل الإحتلال البريطاني ( 1882 – 1956). كان اسمه “شتينبرغ”، لكن ما لبث أن باعه بعد ثلاث سنوات إلى رجل أعمال فرنسي يدعى هنري ريسان أعطاه اسم مطعم باريسي “ريش”.
لكن ما لبث هو الآخر أن باعه إلى تاجر يوناني اسمه ميشيل بوليدس كان محباً للفنون، فأحاط المقهى بحديقة غناء وأقام مسرحاً وكشكاً للموسيقى… وقد توافد عليه عدد من نجوم الفن والطرب على رأسهم السيدة ام كلثوم – التي يبدو أنها كانت من هواة المقاهي – إضافة ألى صالح عبد الحي وزكي مراد..
لكن “ريش” لم يصبح مصرياً خالصاً إلا في عام 1962 عندما اشتراه القبطي المصري عبد الملاك وورثه من بعده أولاده ميشيل ومجدي ومراد. وآل المقهى إلى رعاية مجدي ..
وهنا تبدأ سيرة طويلة هي سيرة مصر المعاصرة .
فقد جرى التخطيط لثورة 1952 في هذا المقهى حيث كان يلتئم شمل الضباط الأحرار وعلى رأسهم الضابط الشاب جمال عبد الناصر..
وفي الستينيات كان نجيب محفوظ سيد المقهى، وقد استوحى روايته “الكرنك” من أجوائه…
وفي “ريش” جلس صدام حسين مطلع الستينيات هارباً من نظام عبد الكريم قاسم.
وفيه أيضا كان الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي يستلهم بعض قصائده ..
ولا تقف اللائحة عند هذا الحد فقد كانت للمقهى أياد بيضاء على الكثير من كبار الشعراء والأدباء والفنانين : فيه تعرف محمد عبد القدوس على فاطمة اليوسف وتزوجها (وأصبحت فيما بعد فاطمة روز اليوسف)، وتعرف أحمد فؤاد نجم رفيق الشيخ إمام، على زوجته الكاتبة المسرحية صافي ناز كاظم، والتقى امل دنقل الكاتبة الصحفية عبلة الرويني وتزوجها ..
ومن مقهى “ريش” صدر “بيان الغضب” عام 1972، الذي طالب الرئيس انور السادات بالحرب التي ما لبثت أن وقعت بعد تسعة أشهر في أكتوبر/ تشرين الأول 1973 …
وفي عهد الرئيس حسني مبارك أُغلق المقهى عدة سنوات متأثراً سلباً بزلزال اكتوبر/ تشرين الأول 1992، ثم أُعيد فتحه في أواخر التسعينيات.. وظل منبراً للدفاع عن حرية الراي ..
وعندما سرت شائعة عن قرب بيعه أو إقفاله، تنادى ألأدباء والفنانون لتدارك الأمر وجَعْلِه إرثاً وطنياً لا يجوز التفريط فيه.