الجمعة 29 مارس, 2024

الدّلاليّة الرّمزيّة للطّبيعة

الدّلاليّة الرّمزيّة للطّبيعة في قصة دكتور عبد المجيد زراقط*

دكتورة درّيّة كمال فرحات**

zarakt-1dorya-1قصّ أثره تتبّعه. يقول ابن فارس : ” القاف والصّاد يدلّ على تتبّع الشيء. من ذلك قولهم : اقتصصت الأثر إذا تتبّعته … ومن الباب القصّة والقصص، كلّ ذلك يُتتبّع فيذكر…”(1) . والقصة ” الأمر والحديث، وقد اقتصّ الحديث رواه على وجهه، وقصّ عليه الخبر قصصًا، والاسم أيضًا القَصص (بالفتح) وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه. والقِصص (بالكسر) جمع القصة التي تُكتب”(2) . والقاص هو الذي يتتبّع الأخبار ويتقصّاها بدقّة ويُقدّمها.

والقصة اصطلاحًا : تتبّع تفاصيل حدث أو أحداث… أو رواية / سرد حدث أو أحداث . إذًا القصة هي مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب / القاص وهي تتناول حادثة أو حوادث عدّة ، تتعلّق بشخصيات إنسانيّة مختلفة، تتباين أساليب عيشها وتصرّفها في الحياة، على غرار ما تتباين حياة النّاس على وجه الأرض. ويكون نصيبها في القصة متفاوتًا من حيث التّأثّر والتّأثير(3). يعرّف فؤاد إفرام البستاني القصة، فيقول: ” القصة هي تتبّع وتقصّي أخبار النّاس وفعالهم شيئًا بعد شيء أو حادثة بعد حادثة “(4) . ويقول جبور عبد النّور إنّها ” أحدوثة شائقة، مرويّة أو مكتوبة، يُقصد بها الإقناع أو الإفادة”(5) .

     يُفيد ممّا سبق أنّ مفهوم القصّة يتضمّن العناصر الآتية: تتبّع الحدث وتقصّيه. والحدث سعي شخصية إلى تحقيق هدف في مكانٍ وزمانٍ معيّنين، تناوئها شخصيات وتساعدها شخصيات أخرى، ويؤدّي هذا الحدث راوٍ من منظوره .ويُقيم الرّاوي من الحدث والشّخصيات بناءً قصصيًّا متخيّلًا. ويتّصف البناء القصصي بصفات تجعله مشوّقًا، مقنعًا، ينطق برؤية، فيكون ذا فعاليّة جماليّة دلاليّة(6) .   

والدكتور عبد المجيد زراقط جال ناقدًا في هذا الفنّ القصصي والرّوائي، من خلال كتبه ومنها: ” في القصة وفنيّتها” ، “في الرّواية وقضاياها” ، ” في بناء الرّواية اللبنانيّة “. وقد أتحفنا بنتاجه الإبداعي فقدّم لنا روايتين : ” آفاق أبو علي” ، و” الهجرة في ليل الرّحيل” . أمّا في الفنّ القصصي فقد أصدر ثلاث مجموعات قصصية : ” ذات عصر” ، و” مناديل” و” حكايات في البال”، ليعود وينشر قصصًا كتبها في أوقات متباعدة ضمن المؤلفات الكاملة لأوّل مرة تحت عنوان ” ضحكات الكروم” (7).

        والمتبحّر في أدب الدكتور عبد المجيد زراقط يرى أنّ الأديب قد أخذنا إلى عالم خلاب مذهل، نكتشف فيه الصّورة المشرقة عن جبل عامل وعن أبنائه بأعمارهم المختلفة بين كهل وشاب وطفل، أو المختلفي الجنوسة بين ذكر وأنثى، أو المختلفي المهنة بين فلّاح وعامل ومعلّم ورجل دين ، أو المختلفي الإقامة اغترابًا أو إقامةً في الوطن.

        والقضية الأبرز التي تناولها أديبنا في قصصه عمومًا هي قضية المقاومة والنّضال ضد العدو الصهيوني أو ضد الإقطاع أو الفساد. يؤكّد زراقط هذا الكلام في مجموعته القصصيّة (ذات عصر) والتي عنونها بكلمة أولى، فيقول : ” فكان عصر المقاومة .. تجسيد هذه التجربة، في نص قصصيّ فنيّ، هو طموح هذه المجموعة التي حاولت أن تحيط بالتجربة كاملة: زمنًا وأمكنة ومراحلَ، في الوقت الذي حرصت فيه على عدم التفريط بفنيّة النّصّ”.

        وأدب المقاومة هو الأدب المعبر عن العمل من أجل تفجير الطاقات الإيجابية الواجبة للمواجهة.  إنه الأدب المعبر عن وجهة النظر الإنسانية/الشمولية وليست العنصرية الضيقة. كما أنه الأدب الذي يسعى دائما لتهيئة الأفراد والشعوب والرأي العام لفكرة”المقاومة”.

و”أدب المقاومة”، أدب الحث على العمل، وهو ليس حالة ذهنية؛ لأنه يعلي القيم العليا بين الناس.  وهو ليس التعبير عن صراع “الأنا” الفردية خلال سعيها لتحقيق رغباتها، بل هو للتعبير عن”الأنا” الفردية الواعية بذاتها وذوات الآخرين لتحقيق أهداف مشتركة من هنا ينتقل عمل المقاومة إلى العمل الجمعي وتجسيد الوطنيّة التي هي نزعة اجتماعيّة تربط الفرد البشريّ بالجماعات (7)، وتظهر هذه النّزعة في أوقات الحروب والأزمات ، إذ تفرض الظّروف التّآزر والتّجمع، وهي إثبات الوجود في وطن يتحلّى بالإنسانيّة، وهي الحقّ لكلّ مجموعة بشريّة لها الانتماء التّاريخيّ والعرقيّ والثّقافيّ والسّياسيّ نفسه، بأن يكون لها هدف موّحد هو تشكيل وتفعيل أمّة مستقلة وسيدة نفسها.

وقد تجلّت ملامح المقاومة في أعمال أديبنا بعد رصد الشخصيات، رصده للأحداث ونقده المباشر وغير المباشر للواقع المعاش، من خلال الالتفات إلى جزئيات الحياة اليومية. هذا بجانب رصد تغيرات الزمن وانعكاسها على النص القصصي.

والتّساؤل هنا، كيف استطاع الأديب عبدالمجيد زراقط التعبير عن هذا الانتماء، وما هو المنهج الذي اتّبعه؟ وما هو دور الطبيعة في ذلك؟

الطّبيعة ومعالمها:

الطّبيعة مكّون جوهريّ في الوجود الإنسانيّ، وقد تعدّدت مظاهر الطبيعة التي تترك أثراً في حياة الإنسان، ويتأثر الإنسان بهذه المظاهر حسب الموقع الجغرافيّ الذي ينتمي إليه. وبما أنّ عبد المجيد زراقط ينتمي إلى جبل عامل هذه البيئى الجغرافيّة التي تتميّز بطبيعة خلاّبة، فإنّ قصصه تحيل إلى هذا الانتماء المكاني، فكان للطبيعة حيّز كبير في قصصه، فأطلق على مجوعته الأخيرة التي نشرها في مؤلّفاته الكاملة عنوان (ضحكات الكروم) ، ويبدو واضحًا هذا ما يحمله العنوان من دلالات تضمينيّة تعبّر عن الفرح بهذه الطّبيعة، والكروم هي من النباتات الأكثر انتشارًا في بيئته الجغرافيّة، وقد تعوّدت هذه الكروم الضحك منذ أن جمعت البطل المقاوم بحبيبته يقول زراقط : ” هبّ نسيم الوادي… طريّ بارد.. أوه .. هو نسيم ذلك الصّباح نفسه، يوم ابتسمت لي لأوّل مرة ، فضحكت تينات كروم الوادي ودواليه كأنّها تبارك لي ..” ، وهذه الكروم هي التي شهدت المعركة مع العدو : ” اقترب أزيز.. هذه طائرة حوّامة تحاول أن تحطّ قرب النيران .. لا لم تحط. كان رصاصنا يطاردها”. وكانت الكروم تشارك هذا النصر والفرح : ” وكانت تينات كروم الوادي ودواليها تضحك كما تضحك في كلّ يوم” . ( ص 660)

وظهور الطبيعة لم يقتصر على الكروم فلو قمنا بمسح إحصائي في قصص عبد المجيد زراقط لوجدنا تواتر مفردات الطبيعة بشكل لافت ما يكوّن حقلًا معجميّا بارزًا في قصصه ، وعلي سبيل المثال لا الحصر: التراب/ المطر/ إقحوان/ ياسمينة/ وردة/ الشمس/ الغيوم/ الغابة/ ريح / الأرض/القمر/ العبق/ الغيمات/ الخريف/ أزرار الورد/ الأشجار/ الندى/ الفجر/ كرم الزيتون/ الصخرة …. ولقد أردت بالطّبيعة كلّ ما يتصل بالمجال الطبيعيّ سواء ما يتّصل بها بالطّبيعة الحيّة أو الجامدة ، فتواترت المفردات التي تكمل هذا المشهد الطّبيعي من الطبيعة الحيوانيّة، والطبيعة غير الحيّة كالبرق والرعد والمطر والشمس وغيرها.

وتحوّلت الطّبيعة وشبكتها المعجمية إلى وسيلة تبرز الأبعاد الرّمزيّة للطبيعة بشكلٍ حيويٍّ ومؤثّر، وللتّعبير عن مفهوم الانتماء وعلى ترسيخه من خلال عمليّة الصّمود والمقاومة. فما هي أشكال هذه الأبعاد الرّمزيّة؟

البعد الأول : الطبيعة القوية / التحدّي والتّمرّد:

        إنّ الهمّ الوطنيّ والهمّ الاجتماعيّ، جزء من الاتجاه القصصي المقاوم، وقد عاش الدكتور زراقط هذا الواقع، واستمدّ تجاربه منه، فالحياة الجنوبيّة شغلها الصّراع في ظلّ الاحتلال بشكلٍ خاصّ، والحياة اللّبنانيّة بالتّالي بشكلٍ عامّ. وأهدى زراقط في مجموعة ” حكايات في البال” بكلمة أولى عمله إلى المقاومين الذين اختاروا النضال طريقًا لهم لمواجهة الاعتداءات المتكرّرة عليهم وعلى مر الزمن من الاحتلال العثماني إلى الاحتلال الصّهيوني، وقرن ذلك بعطر التراب، يقول ” عطر التّراب يفوح فضاءً من الجمال والجنى.. يحميه أبناؤه ويحرّرونه من محتل طامع به، ويسطّرون حكايات تبقى في البال.. وتُحكى للأجيال الآتية والأحفاد..” .

        ولماذا كانت هذه الحكايات في البال؟ لأن فيها مواجهة للظلم والاستبداد، فكانت الريح الهوجاء تهبّ في الغابة الواسعة، وظلّت تعصف على الرّغم من نداء الأوراق الصّفراء الهزيلة: ” أنت حمقاءُ وظالمة أيتها الريح… أنا ما آذيتك يومًان فلم تسعين إلى فنائي؟! ” (ص13). إنّه صراع بين حق الوجود واغتصابه. وتعود هذه الريح في قصة (وردة حمراء) لاغتصاب الفراشة التي تشكو أمرها للوردة : ” غضبة الرّيح عليّ شديدة ، فهي تريد أجنحتي” . فالرّيح هنا رمز القوة والبطش، لكن لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار معاكسة في الاتجاه، فإنْ كانت الريح/ العدو الفعل المغتصب، فإنّ مواجهة الظّلم مستمرة،  ، بل إنّ عدوى الثورة أو النضال قائم : “مسكينة أنت أيتها الريح، لا تدرين ما صنعته، فبذوري صارت الآن في كلّ مكان من الغابة، ولن يطول اليوم الذي تغدو فيه هذه البذور شجيرات ورد مثلي” . ومن هذا المنطلق، تعمل الرّموز الطبيعيّة المذكورة آنفاً على الإحالة إلى قوى الشّرّ المتمثلة بالعدو المغتصب لأرض عاملة خصوصًا وللبنان عموما، وردة الفعل ستكون كما يختم الدكتور زراقط في قصته (وردة حمراء) : ” لكنّ الورد صار بعد مدّة غير طويلة، يملأ الغابة، وصرتم ترون الورد في كلّ مكان منها..” . نعم إنّها المقاومة التي يجب عليها مواجهة كلّ ظلم واعتداء.

        وتتكرّر هذه الدلالات الرمزيّة في قصة (أغاريد)، فهذه هي الفتاة التي تهجر بيتها وأرضها لأن العملاء اقتحموا القرية، وقد تركت وردتها الحمراء عرضة للجفاف واليباس، لكنّ العودة باتت قريبة، كما ذكرت الأم “يا عزيزتي، فأرضنا لا تنبت الورد والياسمين فقط وإنما تنبت مقاومين أشداء ، أشداء..” (ص 47) . هكذا تتماهى الطبيعة عند الكاتب مع المقاومين وكما ينتشر أريج الورود الحمراء فالنصر قادم، ويشارك العصفور رسول الفتاة إلى وردتها في صنع العودة : “وفي كلّ يوم كان يأتي ويغرّد:  أنا عدت أغرّد في حديقتنا، اختبأ المحتلّون، ما عادوا يظهرون.. والنّدى لا ينفكّ في كلّ فجر يسقينا.. وإلى جانب الورود والأشجار نبتت بنادق تغرّد هي أيضًا..إنّنا جميعًا نغرّد في الجنوب يا صغيرتي” ( ص 50-51). هذا الانصهار أو التمازج أو الترابط هو انتشار صفات الطّبيعة على المقاومين أو العكس.

        وقد يصل الأمر في هذا الترابط بأنّ الطبيعة لا تيبس مهما تعرضت للقصف بفضل النضال، فأحمد بطل قصة (للأفعى وجوه فئران مذعورة) قد جلس إلى جذع شجرة اللوز المنخور بشظايا حادة كأنّها رؤوس حراب، وأخذ يناجيها وهو يفرك أوراقها ” ما زلت طرية .. أتيبسين وقد سقتك دماؤهم”. (ص 68)  وتتحوّل السنديانة في قصة ( يومان) إلى مخبأ وملاذ للبندقية، ” كبرت هذه السنديانة وعظمت ، وغدت أغضانها أكثر قوة وكثافة. لفافتي تغيب في عبّها، لا يراها أحد، لا تزال في مكانها منذ ذلك اليوم.. أخرجها بين حين وآخر لأتفقد بندقيتي .. ثمّ أعيدها” . (ص 74) 

        ونرى هذه الوردة الحمراء في قصة ( الصبي والوردة) من مجموعة (ذات عصر) ، تمثّل رمز صمود وبقاء، فالطفل جمال يصرّ على المكوث في بيته وعدم النزوح، فالغرسات صارت شجيرات ورد فكيف يتركها. ويتحوّل الموقف ليكون مسرحًا تجتمع فيه قوى متناقضة تفسح في المجال أمام كونه ساحةً للصراع، صراع للحفاظ على النفس بالنزوح  أو البقاء، فيكون النّصر للوردة الحمراء التي تثبت أحقية الانتماء إلى المكان. وكأنّ الوردة الحمراء تعني الكثير الكثير، فيكفيها فخرًا أنّ لونها الأحمر يرمز إلى الشّهادة . ومقاومة القصف تجلّت في تحويل البشاعة / القذائف إلى جمال خلّاب، فالطفل جمال يحبّ الورد ولأجل هذا كان عندما يتوقّف القصف يجمع ما تبقّى من القذائف ويعمل منها مزهريات. (ص 323)

        وتظهر الطبيعة بوجهها البشع من خلال استخدام بعض مكوّناتها لتصوير العدو، فكما كانت الرّيح الهوجاء عدوًّا نرى في قصة (للأفعى وجوه فئران مذعورة) تمثيلًا للعدو بصورتين. الصورة الأولى صورة الأفعى التي يحاول أحمد أن يرسمها على الرّغم من أنّ الشظايا قد مزّقت محفظته واخذ ” يبعد رأسه قليلًا ويتأمّل الأفعى المجنّحة ذات الرؤوس الكثيرة السابحة أمامه في الفضاء الأزرق، وعناقيد القنابل تنزّ من رؤوسها، وتبدأ بنشر دخانها..” (ص67). لكنّ هذه الرؤوس تبقى بلا وجوه، وظلّت هذه الأفاعى تبث سمومها في المكان إلى أن برز من يقاومها وانضم أحمد إلى المجموعة وإن لم يكمل التدريب، فهو يبحث عن الوجوه ليكمل اللوحة . وهنا تظهر الصورة الثانية للعدو / الأفعى ، إنّها صورة الفئران المذعورة بعد تدمير آليتهم وقتل الكثير منهم، فتكتمل اللوحة : ” وتطلّ منها الأفعى بوجوه فئران مذعورة كثيرة ..فئران شقراء سمراء سوداء حمراء تخرج من جحورها المدمرّة وتجري من دون وعي” (ص 72). فاكتمال اللوحة يصبح رمزاً حقيقيًّا لا للصّمود فحسب، بل للمواجهة.. لأنّ الاحتلال يكون أعجز من أن يوقف حركة النضال والمقاومة .

        وتظهر دلالية ورمزية الأفعى من جديد في مجموعة (ضحكات الكروم) بقصة عنوانها ( أفعى جديدة)، والرّمزية تطل منذ العنوان، فهناك أفعى جديدة ستبث سمومها في المنطقة، ينفتح النص في هذه القصة بقوله: ” في حكاية قديمة أنّ أفعى رقطاء انتصبت أمام مدن وبلاد وقراها. وكان ينبت لها رأسٌ كلّما ارتفع سقف بيت جديد” (ص 641). وتستمر الحكاية القديمة بسيادة الأفعى إلى أن يطلّ فتى أسمر وجد في الخزائن كتبًا وسيفًا ذا حدين، ليقضي على هذه الأفعى. لكن هذه حكاية قديمة، ففي هذه الأيام ” نبتت من جديد أفعى رقطاء في بلادنا أفعى ذات رؤوس كثيرة قتلت وهجّرت ، دمرّت…” (ص642)، ولهذا لا بد من عودة الفارس الأسمر ويرفع القبضة المقاومة. هذه القصة صغيرة في حجمها لكنها تحمل الكثير من الدّلالات، فاعتمد الكاتب على التكثيف الذي لم يكن ليؤدي إلى حالة من الغموض بل إلى هو تكثيف يؤدي إلى تخصيب المعاني. فجاء الرمز أداة للتعبير عن الدّلالة المخفيّة فالأفعى القديمة هي احتلال سابق قد يشير إلى العثمانيين، والأفعى الجديدة هي اسرائيل، لكن المقاوم واحد هو الفارس الأسمر.

        والأفعى هي ذاتها في قصة ( كيف ينام) من المجموعة نفسها، والمفارقة تكمن هنا بين الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة والصراخِ الذي يرتفع في الحقل المجاور ” حيّة لها رأسان”، وبغض النظر عن حقيقة الرأسين أو أنهما حيتان، فكيف يقتلها وقد نُزع بيته من السلاح. يلجأ الكاتب هنا الى التلميح المكثف، وإلى الخلط بين واقع الحية في الحقل المجاور واسرائيل الموجودة على حدود لبنان من جهة التلال الشّرقيّة. إنّ هذه القصة صرخة في وجه من يدعو إلى التخلّص من سلاح المقاومة والعدو ما زال يهددنا من فلسطين المحتلّة ويقفل النص بقوله: ” صحيح …كيف نقرأ ونأكل وننام و …، وتلك الأفعى الرقشاء في جوارنا منذ ولدنا” (645ص).

        ونلمح هذه الرّمزيّة للطّبيعة غير الحيّة  في قصة (دم قانا) من مجموعة ( حكايات في البال)، والأفعى هنا غول وحش لا يخاف، حتى أنّه صلب المسيح، ويحاول الطفل حسين رسم هذا الغول فيتساءل هل له رأس ووجه وعينان ويدان ورجلان ليتبيّن له أنّ هذا الغول الأسود مثل فحمة، والأزرق مثل ذبابة، بُعث في حظائر الحقد، الصورة مستمدة من طبيعة بشعة مكروهة، وهذا طبيعي من غول مغتصب في مواجهة دماء الأبرياء، هذه الدّماء هي دماء قانا الذي يلف العالم ويغرقه. وتحمل هذه القصة مضامين متعددة، بين العودة إلى الأسطورة بصورة الغول وإلى الإشارة الدينيّة ” المسيح عمل في مغارة ضيعتنا معجزة ! الغول يخاف من المعجزة” (ص 64).

وتتكرّر الالتفاتة الأسطوريّة في قصة (إلى متى) من مجموعة (ضحكات الكروم) : فالغول هو ” هذا التّنين الذي حكت عنه الأساطير؟ من أين أتى؟ هل من أساطير في زمننا؟ ألم يقتل الفارس الآتي من الحقول التّنين على أبواب المدينة ؟ كيف عاد ؟ لم عاد؟ هل نبقى إن بقي يرسل حممه؟ من يقتله ؟ من يصنع أسطورة هذا الزّمن ؟ من يعيد الوادي أخضر كما كان منذ بدء الخلق؟ ” (ص656). أسئلة تتكرّر تقدّم لنا الرّعب من هذا العدو القديم/ العثمانيين و الجديد/ اسرائيل، تعزّز الخوف وتبرز التّهديد الذي تفرضه ضدّ الإنسان بما تعنيه من امتلاك الاحتلال لموقف العلوّ، وللتّحصينات الشّديدة، ولوسائل القتل، في مقابل قيام مقاومة شرسة تنشد الحرية دائما ولعل السؤال الذي ختم به القصة ” إلى متى “؟ سؤال أصبح برسم قوى الممانعة في مواجهة اسرائيل، وبرسم الممانعين للنضال.

وإذا كان للطبيعة هذه الأبعاد الدلاليّة المرتبطة بالقضية الجوهريّة التي تناولها الدكتور عبد المجيد زراقط، أي المقاومة للعدو بكلّ أشكالها فإنّ الطبيعة اتّجهت عنده إلى أبعاد أخرى وإن كانت تدور في الفلك ذاته. 

البعد الثاني : الطبيعة رمز العطاء والوفاء

        الطبيعة مانحة الخير، وهي التي تضفي الفتنة والجمال وحبّها يرتبط بانتمائها إلى التّراب الذي يحتويها، أي تراب الوطن، فتداخل الحنين إلى الطبيعة بالحنين إلى الوطن. وبرزت هذه الدّلالة في مواقع متعدّدة من قصص عبد المجيد زراقط ففي قصة ( وردة حمراء) : ” كانت الوردة تعطي ولا تسأل، ولا تُخيّب لأحد طلبًا” (ص 19)، وهي الطبيعة المانحة والملجأ الذي يحمي من يقصدها فالوردة تجعل من قلبها مسكنًا  ومن أوراقها غطاءً للفراشة الهاربة من الريح. ويمتدّ عطاء الطبيعة لتنشر عبق رائحتها الذي به تواجه القوى العاتية كالريح : ” تهبين عطرك كلّه للنسيم فيتحلّى به. و لا تتركين لي شيئًا يحبّب الناس بي” (ص 20). ومن الواضح أن الطبيعة الناعمة تعطي في مقابل الطبيعة القاسية كالرّيح التي  رأينا رمزيتها في ما سبق.

        والطبيعة متمثّلة بالأرض هي الصديق الوفي للإنسان، ففي قصة ( الصديق) يترك أبو أحمد أثناء سفره المؤقت مؤنته عهدة بيد صديق مجهول في مقابل غضب النّاس منه لعدم وثوقة بيهم، ليكتشفوا في آخر الأمر أنهم السذج وأن الحق معه، فهو أودع ثروته لأوفى صديق، إلا وهو الأرض كان كلّ يوم يعطيها وهي تعده بالوفاء.

        والطّبيعة هي المعلّم الدائم للأنسان، ففي قصة (حكايات في البال) يُشير الكاتب إلى ما حدث مع العثمانيين : ” ظلّوا فيها قرونًا يقتلون ويُدمرون وينهبون .. ثم طردناهم ومضوا، وبقيت الدّيار لنا وبقيت منهم آثار تحكي حكايات غزاة مرّوا وفروا” (ص 35).  لكنّ الأجداد قاوموا العثمانين من الوادي فرحل العثمانيون وظلّ الوادي الذي سيعلّم الجيل الجديد المقاومة مع العدو الجديد وهنا إشارة إلى الاجتياح الأسرائلي في 1982

        فالطبيعة لا تجف طالما في الأرض ينابيع، هكذا يقرّ أديبنا ولأجل ذلك فهو يقدّم كلمته الأولى في مجموعته ( المناديل) إلى هذه الطبيعة المانحة ويطلب حمايتها: ” احم وجه كرمتي” (ص 419). والطبيعة هي الكنز المخبأ الذي احتفظت به الطفلة لنفسها ” أقفلت الطّفلة دُرجها المغمور بنور القمر الفضيّ، حيث كنوزها” (ص 465). ولم تسمح لأحد بأن يطّلع على هذه الكنوز.

البعد الثالث : الطبيعة رمز الانتماء

        هذا العطاء الذي تقدّمه الطبيعة يجعلها ترسخ ثقافة الانتماء إلى الأرض وإلى الوطن، وأشار عبد المجيد زراقط إلى هذا الأمر في أكثر من موقع ففي مجموعة ” حكايات في البال” يقول في (جرار المطر) : “تعودين إلى أمّك الحنون..تعودين إلى حيث يختمر الخصب” ، ويقول في ( اقحوانة صفراء): ” أعود إلى تراب حضن أمّي” ، وفي (ياسمينة خضراء) : ” اسقني، ودعه يذوب ويحتضن الجذور”. فهناك علاقة ترابط وتمازج بين الوجود والإنتماء إلى الجذور . هذا الأمر هو الذي يجعلنا نفهم عدم قدرة ملك من ملوك إحدى البلدان من السيطرة على هذا البلد الذي سمع به، فرئيس البعثة التي أرسلها للاستطلاع أخبره بعدم قدرته على تملّك تلك البلاد لأن أحد أبنائها قال : ” نحن لا نفرّط بحفنة واحدة من تراب بلادنا” ، فكيف الحال اذا بالوطن، وقد يكون هذا الاسقاط الأسطوري دلالة على موقف الكاتب المقاوم الذي يتمسّك بجذوره بتراب وطنه، وهذا حال أيضًا كلّ المقاومين الشّرفاء. 

        وفي ( رجال عرفوا الطريق) من مجموعة مناديل يتبين لنا أنّ كرم الزيتون ما هو إلّا رمز للانتماء والصمود، فعبدالله يتذكر حلم والده في بناء بيت في وسط كرم الزّيتون ويقول الأب :” هذا كرمنا” ، وهو دلالة على امتلاك الأرض. وفي هذه القصة ينتقل رحاب المدى عند عبد المجيد زراقط من أرض لبنان إلى فلسطين ويشير إلى نضال الشيخ عزّ الدّين القسّام والمجاهدين معه، وتكتمل صورة الأنتماء إلى الأرض مع بيارات الليمون التي ستظلّ راسخة لترمز إلى أصحاب الأرض .

        إنّ للطّبيعة في العمل القصصي وظيفة جماليّة إلى جانب وظيفتها التفسيريّة، إنّها في العمل الأدبيّ تتحوّل من واقعها كحقيقة موضوعيّة إلى واقع تخييليّ. ، وإنّ توظيف الكاتب للطّبيعة في العمل القصصيّ أهمية كبيرة ، فهي تبين لنا اتّجاه القاص، وتظهر لنا قدرته على رسم صورته وطرائق استعانته بعناصر الطبيعة التي تصبح قادرة على تحريك الشخصيات في رسم الأحداث وإبراز المعاني والأفكار.    

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1)    أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللّغة ، تحقيق وضبط عبد السلام هارون ، لا.م، لا.ن ، 1404ه، ط. 5.

(2)    محمد بن أبي بكر الرّازي، مختار الصّحّاح ، بيروت ، دار ومكتبة الهلال، 1988، مادة قص ، ص 537.

(3)    محمد يوسف نجم، فنّ القصة، بيروت، دار الثّقافة ، 1979، ط. السابعة، ص 9.

(4)    فؤاد إفرام البستاني، دائرة المعارف، بيروت، 1969، مادة قصّ.

(5)    جبور عبد النّور، المعجم الأدبيّ ، بيروت، دار العلم للملايين، 1979، مادة قصّ.

(6)    عبد المجيد زراقط ، في القصة وفنيّتها مفاهيم وقراءات، بيروت، مركز الغدير، ط. الأولى ، 2010.

(7)    عبد المجيد زراقط ، المؤلفات الكاملة، بيروت، الفارابي، ط. الأولى ، 2015.

(8)    السيد نجم :ملامح أدب المقاومة في روايات نجيب محفوظ. www.metatemi1.sg-host.com

* نُشرت المقالة في مجلة المنافذ الثقافية .

** أستاذة متعاقدة مع الجامعة اللبنانيّة / كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة الفرع الخامس – صيدا.

   المؤلّفات:

-كتاب بعنوان ” التّمرّد في شعر الشّاعرات البحرينيّات ” المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر – الطبعة الأولى 2014.

– كتاب بعنوان ” طرق تدريس قواعد اللغة العربية ودورها في تنمية التحصيل اللغوي .دار رشاد برس- الطبعة الأولى 2014.

– كتاب بعنوان ” الرغيف وطواحين بيروت نموذج لوطنية توفيق يوسف عواد “.  دار المواسم. الطبعة الأولى 2006.     

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *