الأربعاء 24 أبريل, 2024

الحياة رغماً عن الحرب

في الرسم والشعر:

الحيـاة رغمـاً عـن الحـرب

عاصف الخالدي*

pp6pp7

pp5خلود السباعي: نريد الانتصار للحياة 

نور نصرة: لا أريد إعطاء الحرب فرصة لتسلبني وجودي

   من المخيف أن تصحو فلا تجد أمام عينيك المشاهد الطبيعية لحياة كنت تحياها منذ بعض الوقت، أو حتى قبل انخراطك في النوم، لتصحو فتجد أن هذه المشاهد لم تعد موجودة إلا في ذاكرتك.

إن افتقاد الأمان يتجلى في هذا العصر، البيوت يمكن هدمها، الأرض يمكن تجريفها، الناس الذين يمشون في الشوارع يمكن إطلاق النار عليهم. يمكن فصل البشر عن حيواتهم الطبيعية وإلحاقهم ببرنامج للموت الضمني، حتى تحين اللحظة التي يموتون فيها فعلاً، والتي سوف تكون عادية، إذا أدرجت في قائمة، فالموت الجماعي لا يعدو كونه تجميع ذوات بشرية فوق بعضها البعض في حفرة، بغض النظر عن قيمتها الإنسانية، في هذه المساحة الجغرافية المسماة سوريا. قهي لم تعد تقاس بالأرقام ولا بالأحلام ولا بالجهة التي يقال أنها تنتمي إليها. إن “التفرُّج” على شيءٍ ينهار لمدة أربعة أعوام متتالية سوف يجعلك ترى العالم كله ينهار، لن تراه قائماً بعدها مهما أفرزت لك المدن من صور تتصدرها ناطحات السحاب، أو العبارات الكبيرة التي تتحدث عن أخلاقيات ما أو حاجات اجتماعية ما مقدسة أو غير مقدسة.

لأربعة أعوام متتالية لم أشاهد أبداً شاشة التلفاز أو أياً من وسائل (الميديا)، لم أستمع لقول أحد، ولا لحوار بين طرفين، بالمقابل لم أرَ كائناً جوهرياً واحداً ينتفض، حتى عناصر الطبيعة ظلت خاملة تستقبل الألم. إن أي انتفاضة لا تعدو كونها تغييراً في طبيعة العلاقات بين البشر واتفاقهم على عقد منظومة تفاهم جديدة فيما بينهم وبالتالي فرضها على الدولة والمجتمع، بطرقٍ أكثر إنسانية ودون عنف ولا تموضع. يبدو المشهد كله اليوم كمن ينثر الغبار، فيما يحاول آخر تنظيفه بلا طائل، في عملية تبادلية طويلة تتكرر وتتكرر وتدور حول نفسها بلا نهاية، ولا يشبه هذا شيئاً فيما يشبه، سوى الموت.

 لهذا السبب حاولت الاقتراب من ذواتٍ لم تجد نفسها في السياسة، ولا بالتطرف والتطويف والإنضمام.

 laoha1اخترت حديثاً مع الفنانة التشكيلية السورية خلود السباعي والشاعرة السورية نور نصرة لمعرفتي واطلاعي العميق على تجربتيهما والتي تابعتها أثناء الحرب كما قبلها تقريباً، اخترت الصورة والقصيدة، اللتين تبدوان منذ اكتشافهما في هذا العالم، من أبسط وأجمل الوسائل لتغيير هذا العالم، لكن معضلة العالم وسوريا اليوم، تتمثل في اختيار أسلوب غير إنساني وغير فني للتغيير، بدا أن الشعر واللوحة لم ينفعا، حتى أنني لاحظت التجييش الهستيري لعدد كبير من الفنانين والكتاب والمثقفين بوصف المثقف (عضوياً) وإنساناً !. وكان من المحزن لجوء المثقف أخيراً للإنضمام إلى عجلة من عجلات الحرب ليقوم بتحريكها، بعد عجزه المزمن عن التغيير من خلال التفاعل الإنساني والفني. يحيلني هذا مرة أخرى للقول بأن تغيير أي حالة سلبية منسوبة لدولة ما، لا يتم إلا من الداخل، من خلال مواطنيها وذواتهم، بغض النظر عن أي مشقة سيواجهونها، فالفساد أو الطائفية أو أي شيء آخر هي مجرد مخلوقات اجتماعية في الأخير، يمكن نزع جيناتها السلبية من المجتمع والسلطة.

 عندما سألت الفنانة التشكيلية خلود السباعي كبف تقرأ المرأة وعلاقتها بالحرب بادرت بالقول: إذا اتصلت بأم، أيِ أم في هذا العالم، وقلت لها بأن ابنها قتلَ أو مات، فإنها غالباً لن تتذكر السبب بعد حين، حتى لو قمت بتكراره أمامها كثيراً، سيظل عالقاً في ذهنها بأنها فقدته فقط.. في النهاية كل الأمهات سوف يتشابهن عند حفرة القبر، سيكون لحزنهن لون واحد، بغض النظر عن تلك الألوان التي كان يرتديها أبنائهن، بغض النظر عما كانوا يفكرون فيه من صواب أو خطأ.  هذه الخسارة، عدم وجودهم في المستقبل. فالمرأة بطبيعتها كائن يميل للاستقرار. الحرب تحاول تصنيف الكائنات إلى قاتل أو قتيل، سواء كانوا نساء أم رجالاً، فيما نحن نريد الانتصار للحياة. 

وبالنسبة للأولويات كفنانة وإنسانة تعيش مع الألوان والريشة، قالت خلود السباعي بأن الأولويات اليوم تتعلق بتفاصيل صغيرة، التأقلم مع الوضع العام والعيش، المحافظة على مساحة بيضاء صافية في الذات لا يلوثها الألم، مساحة يمكن رسم الحياة والأمل عليها بطريقة ما. إن عيش أيام صعبة فيما يشبه العزلة والتعود على انقطاع الكهرباء المتكرر في ليل مظلم إلاّ من إضاءة بدائية، لا يخفف منها سوى انثيال شريط الذكريات عن أبسط الأشياء الجميلة، كلها صور تحمي من أثر الواقع الحالي وتساعد على إحياء الأمل بأنه واقع مؤقت، يخفف من وطأة هذه الوحدة وجوه تبتسم، ألوان ولوحات، الأصدقاء، العائلة. وكل شيء آخر نتذكره ويمكِّنُنا من إدراك وجودنا بشكل طبيعي وجميل رغم الحرب. إن كنت تقصد بالأولويات نجاتنا من هذا الواقع الحالي، فإنها نجاة متعلقة بالوطن بأي حال، كل الوطن، لا أظن أن موت جزء منه سوف يدفعنا للاستمرار بالعيش بشكل سوي.

  عندما سألتها عن مكان الوطن في لوحتها اليوم؟. أجابت بأن الوطن هو كل اللوحة وأن أي محاولة للاقتطاع منه أو تجريف مكوناته من بشر وطبيعة وتاريخ لن تتم داخل اللوحة يوماً، بل خارجها. إن اللوحة ولو احتوت على مشاهد من آثار الحرب، فإنها في الأخير تنتصر للوحة مستقبلية، يظهر الوطن فيها مبتسماً.

مع الشاعرة نور نصرة

  بخصوص الكتابة توجهت إلى الشاعرة نور نصرة بالسؤال عن تأثير الحرب عليها كامرأة وشاعرة وعلى أولوياتها في الحياة.

 ـ هذه الحرب غيّرت كل شيء، بل حتى المستقبل، أو بالأحرى نظرتنا للمستقبل وكيف سيكون أو إلى ماذا سيؤول بنا الحال، هذه أسئلة باتت تجول في بال كل سوري، تطرق مخيلته بعنف. سُرقت أحلامنا تقريباً وهُدمت طموحاتنا، وبتنا نحتال على التفاصيل اليومية كي نجد مهرباً من صِدام  مع مفردات الحرب التي تلوّح كل لحظة أمام وجوهنا.

شخصياً كامرأة وشاعرة لا أستطيع أن أكون بمعزل عن المجتمع الذي أعيش فيه، لذلك، فإن ما رافق هذه الحرب من تردي في الأوضاع، الاقتصادية والاجتماعية، جعل أغلب الناس يعيشون في يأس وكآبة وفي عزلة أحياناً، بات الهم الاقتصادي ثقيلاً وخانقاً، عدا التبعات النفسية للعائلات السورية التي اضطرت لمغادرة مدنها ومناطقها والنزوح لأماكن أكثر أماناً، عاشت تجارب قاسية وتكبدت معاناة مؤلمة.

 سألتها عن مصطلحات الحرب، عن كلمات مثل: موت، دمار، هدم، ماذا يمكن أن تعني لها وللشعر؟.

 ـ  لا شك أن مفردات الحرب وما تحمله من تبعات، استوطنت عميقاً في نفوسنا وأدلت بشهاداتها الصريحة والقاسية، مشاهد الدمار اليومية حلّت محل الجمال وهدمت معظم معايير الحس الجمالي داخلنا، مشاهد من الوحشية الغير مسبوقة في التاريخ، حجم الدمار الذي لا يوصف، ومع هذا الكم الهائل من البشاعة تتلاشى معظم معاني الشعر ومعاني الحياة الآمنة المستقرة. نجد ذلك واضحاً في نصوص الشعراء السوريين الذين عاشوا هذه التجربة المؤلمة ولامسوها عن قرب.

 * ما رأيك إذن بتشويه الذاكرة، الحالية والتالية، أي كائنات سنكون وكيف سنتذكر ما مضى بعد أن نصير في المستقبل ؟.

ـ الوطن هو وجودي وكياني، هو وجودنا وذاكرتنا كسوريين، لا فضاء ولا سماء لنا خارجه، حتى السوريين الذين أرغموا على الهجرة، لست خائفة منهم على الوطن الذي حملوه في قلوبهم وذاكرتهم، أظنهم سيعتنون به جيداً. يجدر القول بأننا مهما احتفظنا بصورة بلدنا الجميلة في داخلنا، فإنه يتوجب علينا أن ننظر في عين هذه الحرب ونواجهها بكل قدراتنا الفنية والإنسانية، شعراء وفنانين و من مختلف شرائح المجتمع السوري، وأنا بدوري لا أريد إعطاء الحرب فرصة لتسلبني وجودي كشاعرة أو كإنسانة. عرفت عدداً من الناس صاروا يقبعون في الماضي متخيلين هذه الحرب مجرد كابوس فقط، منتظرين زواله، المستقبل في خطر، نحتاج أن تنتهي هذه الكارثة التي تمس الأرض والإنسان والفن. لنحاول إعادة بناء هذا الوطن بكل أبناءه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*عاصف الخالدي: روائي وكاتب أردني.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *