الجمعة 29 مارس, 2024

الحصاد الشعري

الحصاد الشعري خطوتان إلى الوراء خطوة إلى الأمام

عباس بيضون

abasالحصاد الشعري لهذا العام في لبنان ليس قليلاً، فهو بدرجة أولى يشهد إقبالاً من الشعراء الشبان الذين يتوزّعون بين مختلف طرائف الشعر، بعض المجموعات الصادرة تحمل طابع الابتداء والارتجال، لكن بعضها الآخر يبشر بولادة شعرية شابة وشعراء شبان ذوي أصالة وقدرة على التجديد والابتكار.

إنّها قراءة بضع عشرة مجموعة من إصدار دار النهضة التي نحيّي انصرافها إلى الشعر في وقت ليس فيه للشعر سوق. مجموعات من شعر التفعيلة والعمودي وشعر النثر. ما عليها للشبان ولن تستطيع مقالة واحدة أن تكون نقداً. إنما هي أرصاد وملاحظات وبحث عروض. هل يحتمل الشعر العروض وهل يسعنا أن نأخذه من جانبه، ثم إن هذا الكم من شعر الشبان غالباً يدعونا إلى التفكير بالشعر وإلى التمييز بين ما يشبه الشعر، بين مظاهره وبين وجوده الحقيقي، بالأحرى التمييز بين الشعر وبين تقليد الشعر وربما تقليد الأدب بعامة. ليس ما تفرّع إليه الشعر من عمودي وتفعيلة ونثر، وما تكوّن كتراث للشعر الحديث سوى باعث على الإجادة وحسن التصرف بالكلام. الآن وراء الشعراء الجدد تجارب في تصريف الكلام الشعري ونسقه ترفد بالتأكيد الأعمال الجديدة. ثمة تراث تتكئ إليه هذه الأعمال هو بالتأكيد نماذج يُقاس عليها.

نثر ونظم

برغم أني لا أجد الفارق واضحاً بين الشعر والنثر إلا أني لدى مطالعة هذه المجموعات فهمت أن الشعرية تحويل للكلام واجتراح فيه بدونهما يغدو الشعر بحت ركاكة وبحت بهلونة وتمظهر. فحين نقرأ ديوان أحمد بهجت بركات «عانقيني لا وأكثر». لا تكفي عمودية الشعر لشعريته.

هي وردة قد ألهبت سحرها

كأس الهوى، هي نشوة حمراء

قد أيقظت في داخلي نبض الغوى

وتفتحت في سرّها الأضواء

لا تكفي الوردة والسحر والهوى والداخل والأضواء لتكوين شعر. ليس هنا سوى مصطلح «شعري» وبناء من المصطلح، ما ينتهي بالشعرية إلى أن تكون فولكلوراً معاداً. ها هنا ليس الشعر العمودي سوى محاكاة من الخارج، سوى ثرثرة شعرية وما نلاحظه على هذا الشعر العمودي من نظم أجوف نلاحظه أيضاً على قصائد نثر. ففي مجموعة ليندا نصار «طيف بلا ظل» نقرأ

«وأتصفَّحك فجراً/ كي يطلع الفجر/ أستلقي ورصيفي منهك/ وفكري يتيم من وجع/ وفكري سقته الهموم».

لسنا هنا سوى أمام ارتجال، رصف على إيقاع، كلام ينتهي عند نفسه بدون أي مدى، وبدون أي إحالة أو تحويل، وبدون أي نفاذ. نحن مرة ثانية أمام مظهر شعري ليس إلا.

أما في «شبهة حب» لياقوت أحمد دندشي. فنجد في قصيدة النثر ما يبدو أحياناً تقفية، وما ليس سوى سيولة كلامية تجمع بين الخبر والبوح والاعتراف واليوميات. الشعر هنا كشكول مذكرات، واللغة عالية النبر، هدّارة، بقدر ما هي جوفاء، حتى أننا نصل أحياناً إلى نوع من الرطانة الكلامية.

«صرّح الرئيس المفتعل/ بعجز ليس يشوبه خجل/ أن الأزمة بخير والحمد لله» أي قبلة منك/ ستسقي عسر وحدتي.

ليس عنوان مجموعة هاني نديم الجميل «متحف الوحشة» والذي يذكّر بعنوان رواية أورهان باموك «متحف البراءة» ليس هذا العنوان بشافع للمجموعة التي تشعر في بعض جوانبها بمقدرة أكثر مما تظهر فيها، كأنما الشاعر ينظم على رسله وكما اتفق ويراكم ويجمع ويرتجل بدون أن يتأنى أو يركّز وبدون شفافية أو صوت خاص. حتى أننا نعثر في داخل المجموعة على سقطات أملاها الارتجال والسرعة.

«وللحياة الحياة/ عرس قديم/ وضيوفه رفات» «وكلما غادرتها/ ينهدّ سقف الموال على قدميه/ وأسمع البلابل البعيدة/ وكأنها إسرافيل ينفخ في الصور».

مجموعة محمد الرمال «تأتين من جهة الجنوب» تحوي أشعاراً بوزن وبلا وزن، لكنها تسترجع بشكل غير محكم وعلى نحو إنشائي بدايات قصيدة النثر، بإنشائها العاطفي وبوحيتها.

«أنا طفل التشرد والحريق/ أنجبت حزني من مليون عام/ وشب عشقي عن طوقه من مليون عام».

تجارب أخرى

غير أننا لا نقف عند هذه المجموعات فثمة مجموعات تخرج من قوالب الارتجال والتمظهر والإنشاء، مجموعة أسامة محسن «قفص قزح» تتصرف بعسر وتكاد تصل إلى حافة الوعورة. فالتركيب صلب إلى درجة التصلب والانتهاك اللغوي على مقربة من التشنج والإيقاع متوتر قاسٍ ومشدود ويصل إلى أن يغدو ترجيعاً بحتاً

«أنا الضريح المعافى المباح للريح المستراح الجريح» و»أنا أنا الجائع للحب المباح للعذاب المستباح في الضباب» «صلاة لراحة نفسي، لباسك بديع الزين» مرثية ذاتية هي من هذه الناحية جديدة على شعرنا والمجموعة التي هي قصائد نثر تحتفظ بالكثير من خواص النثر، إن لها وضوحه وتسلسله ومنطقه وتفسيريته وتوازناته. إنها هكذا قريبة من النثر الجميل، لكنها بالدرجة نفسها تبقى عالقة بين الشعر والنثر، بل تبقى على حافة الشعر «وحيداً/ يعد كل الملائكة الطيبين/ قاعة من أحياء مستجدين. لتنظر في شؤون أبدهم/ يؤرقهم كتابهم/ ويؤرقني الأبشع الفلك العظيم، لمحض سؤال».

الشاعر المغربي محمد العناز في مجموعته (عين نحات أعمى) هو بحق كما يستدل من عنوانه شاعر العين، ألفاظ الثقب والعين والحجاب التي ترد بكثرة في قصائد تجعل لها شبه حضور تشكيلي. القصائد تتمازج من تبدلات متلاحقة في اللغة والمشهد، وبخاصة في زواياه «ثقب في الجدار/ ظله في رأسي/ ورائحة الشارع تخرج من ذاكرة/ تطل عليّ/ كأني أقيم في بئر لا قرار له».

أما عبد الرحيم جيران المغربي أيضاً في «سيرة شرفة» فإن عنوان مجموعته تحيلنا على ما يبدو سيرة شخصية. إننا هكذا أمام نص من أساسياته «نحن هنا الآن/ وحشة الالتباس/ ينبغي أن نجد أسماء للقسوة».

يبدو فاروق شويخ فريداً وسط المجموعة ففي ديوانه «قناديل لحنين داكن» نقع على شعر عمومي وتفعيلي ليس أسيراً لابتداء، ليس متمكّناً فحسب، ولكنه يجدد القصيدة العمودية والتفعيلية ويبتكر من داخلها على صعيد اللغة وصعيد الفكرة وصعيد البناء «جسدي قصر من حلمي/ خيالي دمية خائرة الفتنة/ معراجي له أكثر من باب وميقات/ فمن يبحث لي عن خطوة وثانية».

نتوقف عند ربيع شلهوب في مجموعته «الكلمات سلاحف مقبولة» المشكلة من قصائد في أغلبها موزونة. تجد هنا أحكاماً ومتانة بالإضافة إلى سليقة حاضرة وتطغى أحياناً وقدرة على البناء وعلى الاستدعاء وعلى التركيب من إشارات شتّى قديمة وحديثة مع خيط يومي فلسفي كنّا نريده أن يتواجد أكثر «وهل هناك مستقبل لسلة بيضاء/ في حديقة ثمارها الفوضى/ هل لي بدون قصة أن أسكن الأرض».

محمد ناصر الدين في «سوء تفاهم طويل» يؤسس لنفسه لغة وتجربة خاصة. إنه يغرّب الشعر لكن التغريب الذي ينشأ من تحويل العاديات وينشأ من تعامل فريد مع اللغة ومن قدرة على تصريف الفكرة وإعادة بنائها وإدماجها في شعرية تحمل نهائياً بصمة صاحبها وحساسيته ولعبته الخاصة «التقيتُ الشعراء بأكملهم/ بعيداً عن هذا المكان/ بل حتى خارج الحياة الصغيرة/ شرحتهم في الضوء/ حيث يموت الجميع بكثرة/ ويعيش الجميع بكثرة وحيث ينشر الجميع ما تسرّب من الزمن/ على أرضية صغيرة.

هذه المقالة اختارت للظاهرة الشعرية منشورات دار النهضة التي تمثل في تعددها وتفاوتها مثلاً على هذه الظاهرة، بالطبع ليس هذا كل شيء، هناك أكثر من ذلك ولدى دور أخرى، يمكننا هكذا أن نلحظ مجموعة «فم الغراب» ليوسف بزي عن دار الريس التي تطرح بحد ذاتها تجربة فريدة هي كتابة قصيدة سياسية بمعطيات وروافد القصيدة الحديثة، إنها بذلك تعيد القصيدة إلى جادة أخرى. كذلك مجموعة فادي العبد الله عن دار الجديد «أشاطرك الألم برهة والود طويلاً» التي تقيم توازناً بين العمل الفكري والمعارضة الذكية واللغة الشعرية، أما مجموعتا مهدي منصور فهما تدلان بمغامرتهما اللغوية والإيقاعية. بالطبع لن نمر بسرعة على مجموعة شوقي بزيع «إلى أين تأخذني أيها الشعر» وكتاب محمد العبد الله «أعمال الكتابة» فوراء هذين الكتابين عقود من التجريب وعقود من البناء والاختبار ووراءهما تجربة عريقة لذا لا يصح أن نلحظهما بسرعة أو أن نتوقف هنيهة عندهما، فهما تستحقان بالتأكيد وقفات أطول ومراجعة أكثر تفصيلاً.

دار الشعراء

دار النهضة هي في الأصل دار جامعية تُعنى بالكتاب المدرسي والجامعي، لكن مبادرة مديرتها لينا كريدية منذ سنوات إلى نشر مجموعات شعرية بحكم انحيازها وهي روائية وكاتبة للشعر جعل إنجاز الدار الشعري يتجاوز من ذلك الحين المئة مجموعة وجعل الدار ترث سابقات لها كدار الجديد ودار العودة من قبل في دعم الشعر.

عام الشبّان

معظم الشعراء الذين تصدر لهم مجموعات من الشبان وهم يتوزعون مختلف الطرائف الشعرية فبينهم الذي يكتب الشعر العمودي كأحمد بهجت بركات وفاروق شويخ ومن بينهم مَن يكتب شعر التفعيلة كمهدي منصور وكربيع شلهوب ومحمد الرمال ومنهم مَن يكتب قصيدة النثر كليندا نصار وهاني نديم وياقوت دندشي وأسامة محسن وياسين بديع الزين ومحمد العناز وعبد الرحيم جيران (مجموعته الأولى برغم أنه في الستين) ومحمد ناصر الدين.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-12-29 على الصفحة رقم 14 – ثقافة

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *