الثلاثاء 23 أبريل, 2024

الانضباط أبرز مراحل النجاح

الانضباط أبرز مراحل النجاح

السيد محمد رضا السلمان

p-1

[مدارك ثقافية] يسود في بعض الأوساط الاجتماعية إشكالية حول الالتزام بالعقود (والمقصود عقود العمل المستوفات الشروط والمحددة المطالب) البينية، بوجه عام، وأياً كان موضوع العقد. وبخاصة في قطاع التعليم والمدارس الحكومية والخاصة، وكذلك الجامعات. ومنها العقود بين مدرّسين وإدارات مدارس، ومسؤولية الطرفين في الالتزام بالعقد، من حيث استيفائه حقوقه المادية المنصوص عليها في العقود أو الاقتطاع منها. وما دفعنا إلى التصدي في تقديم موضوع عن هذه الإشكالية، أن بعض الأشخاص الموقعين لعقود بينية، بخاصة في قطاع التعليم، قد حاولوا العودة في تحكيم تنفيذ العقود والخلل في تقسيره، إلى المراجع الدينية ظناً منهم بأنهم يتجاوزون القوانين الوضعية التي لم يروا أن تفسيرها يخدم مصلحتهم. فكان هذا الموضوع الذي حصلنا عليه مستق محاضرة لسماحة السيد محمد رضا السلمان.                                                                                                                                                            

دور الانضباط في حياة الإنسان:

من أهم عوامل النجاح في جميع ضروب الحياة ودروبها الانضباط، والانضباط في اللغة هو الالتزام. وله مصدر واشتقاقات طويلة عريضة لا أرى في سردها واستعراضها وغربلتها منفعة كبيرة، لذلك أختصر الوقت وأصرف النظر عنها.

والذي يهمنا من أقسام الانضباط القسم الأقرب لحاجياتنا، والأكثر التصاقاً بنا، ألا وهو الانضباط الشخصي، الذي نحن اليوم في مسيس الحاجة له في جميع مشارب الحياة ومناحيها.

والانضباط الشخصي هو الالتزام بالقيام بكافة المسؤوليات الملقاة على عاتق الإنسان. فعليه أن يتأمل في تلك الأمور، أي الأمور التي جعل نفسه مسؤولاً عنها أمام جهةٍ ما، سواء كانت جهة خاصة كالمؤسسة الخاصة أم جهة عامة كما لو كانت في قطاع عام.

ثم إن هذا الالتزام الشخصي يشكل مقسماً قائماً بذاته تنحلّ عنه مجموعة من الأقسام، منها الالتزام الشخصي الوظيفي. وهذا القسم من الانضباط بسبب ما يتعلق به من أمور مهمة وضعت له تعاريف، بل وضعت القوانين وفق التعريف. وهو عبارة عن الالتزام بكافة اللوائح والقوانين السارية المفعول المساقة إلى جهتها. وهذا تعريف مهم يقرّب لنا ما يراد تقريبه. ولكن التعاريف تبقى من نوع الأمور التَّرَفية التي يتعاطاها أرباب الفن وأصحاب الصنعة، ما لم تجد لها تصديقاً في الواقع الخارجي.

الضمير والشرع هو الضمانة:

والالتزام يحتاج إلى ضمانة، وهذه الضمانة لن تكون العقوبة أو الجزاء المادي أو إيقاف الخدمات أو الإيقاف في السجون، إنما الضمانة الأساس في هذا المنحى هو الضمير، فمتى ما غابت حركة الضمير أو سكنت لا يمكن أن يشكل الرادعُ الجزائي الوضعي ـ وإن أُلبس ثوب التشريع ـ رادعاً ومانعاً فاعلاً، بل من البداهة أن نقول: إن في جميع الميادين على وجه الأرض، وفي كل المؤسسات العامة والخاصة خروقات كبيرة وتجاوزات واضحة وقفزاً غير مبرر على القوانين، بلغة المنفعة الشخصية، لأن القانون في أساسه يحفظ المعادلة بين طرفين، فمتى ما أُسقط وغُلّب أحد الجانبين على الآخر معنى ذلك أن لا قانون ولا ضابطة، وتبعاً لذلك سوف تصرف الكثير من الحقوق في غير اتجاهها وفي غير حقها.

إن حركة الضمير أيها الأحبة هي التي تؤمّن للإنسان الشعور بالمسؤولية، ويموت الضمير عندما تغيب الدوافع الشريفة والرغبات الصالحة، وعندها نخرج من دائرة الرقيب الأول الذي لا تخفى عليه خافية. فعندما ندير ظهورنا للقوانين والأحكام الشرعية أو الوضعية المسنونة للصالح العام، معنى ذلك أننا سوف ننتهي في نهاية المطاف إلى المحذور، وقد لا يكون المحذور في حدود دائرة ضيقة إنما يأخذ في الاتساع كلما عاود الإنسان الحركة خارج دائرة ضابطة الضمير.

ومما يساعد على حركة الضمير أن يكون الإنسان ملتفتاً إلى تلك القوانين والضوابط والعهود والمواثيق، ويقرأ ما تتضمنه ليتحرك ضمن حدودها، ويرتب الأوراق بناءً على معطياتها.

كيف يتحقق الانضباط؟

من هنا تتولد الحاجة للوقوف أمام نقاط عدة:

1 ـ قراءة العهود والمواثيق قراءة دقيقة بتمعن: فعندما يلتحق الفرد بالجامعة عليه أن يقرأ الشروط والقوانين والمواثيق والعهود، فإذا قرأها بدقة وتمعن استفاد منها غاية الفائدة، وأراح واستراح، أما إذا لم يقرأ تلك المواثيق والشروط والالتزامات تبدأ حالة من التمرد والنفرة والضياع. لذلك نجد أن الكثير ممن يدخل في هذا المجال يخفق عند السنة الأولى، بل حتى الثانية أو الثالثة، وربما حتى إذا اقترب من مرحلة التخرج، لا لشيء إلا لأنه لم يحسب حساباً للطارئ غير المرتقب بسبب الإخفاقة في قراءة القانون، وكم على ذلك من الشواهد.

وهذا الأمر عينه في المؤسسات الخاصة، فقد تلتزم في القطاع الخاص مع جهة لها شروط وبنود، فينبغي لك ويتوجب عليك أن تحكم على نفسك، وأن تعطي المساحة للآخر في اتخاذ الإجراء، وذلك كالعقد مع شركة لإنجاز عمل ما، والمقاولة اليوم أصبحت فروعاً وليست فرعاً واحداً، إذ تجد أن من يوقّع العقد ولا يقرأ بنوده، أو يقرأها ولا يتعمق، أو يتعمق ولا يستفيد من خبرة من تقدم عليه، تعترض المشاكل طريقه، سواء في منتصف الطريق أم عند جرد الحسابات.

وكذا الحال مع الجهات الرسمية، وهي المؤسسات الحكومية، فقلّما تجد طبيباً يقرأ ما له وما عليه، أو أستاذاً أو مهندساً أو جندياً. فبمقدور الإنسان أن يقرأ القوانين بتمعن ليعرف ما له وما عليه طوال مسيرته الوظيفية منذ اليوم الأول حتى التقاعد، أما إذا كان على الخلاف من ذلك فسوف تكون البداية كالنهاية، والنهاية كالبداية، لذلك لا يرتب أوراقه ولا ينظم أدوار حياته كما ينبغي، إنما يخبط خبط عشواء.

أقول: مع هذا التقدم الثقافي الكبير عند شبابنا، إلا أن هذه المعضلة لا تزال تلقي بثقلها على كواهلهم، وهم لا يعذرون في ذلك، فالإنسان اليوم يعطي للجوال (الهاتف المحمول) الكثير من وقته، ولكن لا يعطي لنفسه دقائق معدودة ليقرأ ما له وما عليه، بل لا يتيح لنفسه الفرصة أن يقرأ البنود في العقود عن بصيرة، إنما تكون معظم التوقيعات عن عمى وعدم إدراك ووعي، وإلا ما الذي يجبر الإنسان أن يوقع فور تقديم الورقة له؟ ولماذا لا يترك له مساحة في التفكير يكفلها القانون في جميع القطاعات؟.

حتى على مستوى أجهزتنا المنزلية مثلاً، لا تجد من يقرأ ما له وما عليه عند الوكالات، فالبائع ينطلق من منطلق المنفعة، ولا يهمه حال المستهلك لا من قريب ولا من بعيد، فعلى المستهلك نفسه أن ينظر لمنفعته ومصلحته أيضاً. فقراءة العقود والضوابط والمواثيق مهم جداً.

2 ـ إدارة الوقت كما ينبغي: أيها الأحبة، لا سيما طبقة الشباب من البنين والبنات: أغلى ما في يد الإنسان ليس الرصيد في البنك، لأنه لا يدري متى يموت ويتركه، أو أن المبلغ لسبب أو عارض يسقط من حسابه خلال سويعات يسيرة. إنما الرصيد الضخم هو العمر، ولا أحد يدري كم يستمر العمر، وها [نحن] نرى أن الناس يموتون فجأة، فكم من صحفي يسقط فجأة ويموت أثناء إجراء المقابلات، وكم من مذيع يقرأ الأخبار فيقع ميتاً ليكون خبراً من الأخبار. بل أحياناً تحدث شخصاً وإذا به لا يجيبك، وما تلتفت إلا وهو في عالم آخر.

فالعمر يمشي ويمر مر السحاب، وهو مخزون محدود مجهول، والوقت كحد السيف، فلا بد أن نتعامل معه على أساس قوله تعالى: ﴿وَلا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا(1). وهذا النصيب ليس الأموال فحسب، إنما نصيبك من الدنيا في تربية العيال وخدمة المجتمع والتطور في ضروب العلوم والمعارف والثقافات والآداب والفنون وغيرها.

إن فن إدارة الوقت يعتبر اليوم علماً قائماً بذاته له مختصون وعلماء. فالساسة يديرون العالم بناءً على إدارة الوقت. فتجد رئيس الدولة في دول العالم المتقدمة يضع خطة عمل تتناسب مع مدة بقائه في السلطة، مع عدم احتمال التجديد لولاية جديدة. وفي الانطلاق لعالم الفضاء الخارجي تجد أن الحساب تنازلي وليس تصاعدياً. فيجب أن نجعل من هذا الحساب الرياضي التنازلي قبساً نرتب عليه بعض أوراق حياتنا.

3 ـ الإدارة الجادة الواعية للملفات المتشابكة المتناثرة: فلكل منا في حياته مجموعة من الملفات، قسم منها يتفق وقسم يفترق، فكيف نجمع ونرتب ونستخلص؟

إن البعض يتصور أن الأمور تمشي في الحياة ببركة الله، وهذا صحيح من حيث الأصل، فلولا الله لما وجد شيء، ولولا بركته لما استمرت الحياة، ولكن ليس معنى ذلك أن نتقاعس ونترك الأمور على عواهنها، فالله تعالى يقول: ﴿وَامْشُوْا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوْا مِنْ رِزْقِه﴾(2). فالطلب والسعي وابتغاء الرزق من تكليف العبد، والله تعالى يبارك في السعي، ويهيئ الأسباب، أما التواكل والاتكال على الآخرين وانتظار البركة فهي قراءة خاطئة صادرة عن غير وعي مطبق.

4 ـ غرس روح الأخوّة والاحترام المتبادل: الذي يتولد عنه روح الشعور بالمسؤولية ثم التعاون بعد ذلك، فإذا أدرك الفرد ما له وما عليه، وما للآخر وما عليه، شعر بالمسؤولية وسادت روح الأخوة بين الأطراف. أما إذا تحولت الأمور إلى التمييز على أساس الجماعة أو الطائفة أو الزمالة والصداقة، فإن الأمور سوف تتخذ منحىً غير محمود. فهناك من تقابله فيدير لك ظهره، بل كأنه لا يراك أحياناً، وكأنك لست ابن بيئته وتشترك معه في همٍّ مشترك.

إن النهوض بالواجبات تجاه أصحاب العلاقة أمر جيد، وهناك دفع بهذا الاتجاه، لكن على أن لا يكون على حساب الآخرين، فأنا أخدم صديقي ولكن ليس معنى ذلك أن أركن ملفات الآخرين، فلهؤلاء حقٌّ أيضاً يكفله القانون.

5 ـ طرح نماذج الانضباط في المؤسسات والدوائر: وقبل ذلك في داخل البيت، بأن نقدمهم على أنهم القدوة. فلو كان لديّ ولدان أحدهما منفلت والآخر منضبط، فلا بد أن أقدم الولد المضبط على أنه قدوة لأخيه، وليس معنى ذلك التمييز بينهما، إنما معناه حثّ المنفلت أن يكون في دائرة المنافسة مع ذلك المنضبط. وهنا نحتاج للرجل الواعي في داخل البيت، والأم الواعية، وليس الأم التي لا تعرف سوى شؤون الطبخ والنوم والزيارات العائلية أو حضور مجالس الذكر، لا تقليلاً من شأن مجالس أهل البيت (ع) فمن يقرأ هذه القراءة ساذج لا يستحق أن أعيره سمعي، إنما عملاً بترتيب الأولويات، فمجلس الذكر مستحب لا ينبغي تقديمه على الواجب. وحقوق الزوج والأبناء الواجبة إذا تعارضت مع المستحب وجب تقديم الواجب.

إن طرح نماذج الانضباط أمر مهم لكي تتولد القدوة، فإذا تولدت القدوة سار الآخرون على منهاجها، وأصبح المجتمع كله منضبطاً، وهذا هو المطلوب.

6 ـ ضبط إيقاع الرقابة: فالرقابة مطلوبة على الأبناء والموظفين والتلاميذ، على أن لا تكون رقابة منفرة، إنما هي الرقابة المضبوطة بالحد الشرعي، وما تؤمنه التكاليف الشرعية، وكذلك الحد القانوني، باعتبار أن هنالك عقداً وميثاقاً بين طرفين.

ورب قائل يقول: لم الحديث اليوم عن الانضباط، وما هي المناسبة؟ أقول: أنا ابن هذا المجتمع وهذا الوطن، ويسوؤني ما يسوء المجتمع والوطن. فعندما أرى التسيب في المدارس من قبل المدرسين فذلك يسوؤني، ويسوء مجتمعي ووطني.

قد يقول قائل: إن الطلاب اليوم ليسوا كما كان عليه الحال من قبل، ولكن ينبغي لهؤلاء أن يقولوا: إن الأساتذة اليوم ليسوا كما كانوا عليه من قبل. فالبعض منهم لا يأتي للمدرسة إلا للتوقيع فقط.

رأي المرجعية في رعاية القوانين:

قبل أن أختم حديثي أقول: هنالك استفتاء للسيد المرجع [السيستاني] حفظه الله تعالى يشتمل على فقرات منها:

1 ـ إذا أنهى المعلم أو المدرس واجبه أثناء الدوام هل يجوز له الخروج قبل الوقت المقرر؟

2 ـ هل يلزم للمدرسين الحضور قبل بداية الدوام، وإن لم يكن عنده دروس لأدائها، كأن تكون محاضرته في الدرس الثالث مثلاً فهل يستدعي له الحضور في بداية الدوام؟

3 ـ إذا لم يكن عنده أي واجب في المدرسة في يوم ما، هل يلزمه الحضور ؟

4 ـ على فرض عدم الجواز في العروض المتقدمة هل هناك إشكال في أخذ الراتب بنسبة تلك الفترة الزمنية؟

الجواب: باسمه تعالى، لا يجوز للمدرس ولا لغيره من الموظفين أن يخالف الأنظمة التي التزم بتلبيتها حسب عقد توظيفه بما لا يشتمل على محرم. ولا يملك الراتب المقرر له بمقدار ما تخلف عن أداء وظيفته. وعليه التصدق به على المستحقين من الفقراء في صورة استلامه له بالنسبة إلى الفترة الزمنية السابقة، ولا فرق في ما ذكر بين أن يكون الخروج بإذن المدير وعدمه إذا لم يكن له صلاحية الإذن في ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القصص: 77.

(2) الملك : 15.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *