الأمير عبد القادر الجزائري
الأمير عبد القادر الجزائري
تراث هائل في عاصمة الأمويين
د. جورج الراسي
عندما انتهت مقاومة الأمير عبد القادر المسلحة كان عمره حوالي أربعين عاما وما زال أمامه 35 عاما من الحياة ستشكل الوجه الآخر لحياته الإستثنائية.
السلطات الفرنسية لم تف بوعدها بأن تسمح له بالسفر ألى بلد عربي مسلم بعد إلقائه السلاح، بل جعلته أسيرا في فرنسا لمدة خمس سنوات من عام 1848 حنى عام 1852 مع عائلته وأقاربه وحاشيته الذين بلغ عددهم نحو 200 فردا من المقربين.
وبعد وصول نابليون الثالث آلى السلطة قرر الوفاء بتعهدات فرنسا وسمح له بالذهاب .
في 7 كانون الثاني / يناير من عام 1853 نقلته السفينة الحربية Labrador , مع عائلته وحاشيته آلى مدينة القسطنطينية التركية حيث استقبل استقبالا حاشدا واختار لإقامته قصر مدينة ” بورصة ” Brousse الذي اعلنته الدولة التركية فيما بعد أثرا تاريخيا وأطلقت عليه اسم ” دار الجزائر ” تخليدا لحلول الأمير فيه .
بقي الأمير في قصر مدينة بورصة حوالي ثلاث سنوات حتى أذنت له السلطات عام 1855 بمواصلة رحلته آلى دمشق المدينة التي اختارها لقضاء بقية حياته أي حوالي ثلاثين عاما حتى تاريخ وفاته عام 1883 وهي مرحلة لا تقل إشراقا عما سبقها فهي حافلة بألمآثر التي جعلت شخصية الأمير تشع على العالم بأسره .
في دمشق لم يكن عند الأمير هم مادي فقد وضع السلطان عبد المجيد قصرا فخما في الفيحاء بتصرفه وكان لديه مقر آخر في ضاحية دمر الراقية.
كما خصص له صديقه الإمبراطور الفرنسي منحة سنوية بلغت 300 الف فرنك فرنسي بما يكفي حاجاته وحاجات صحبه كتعويض عما لحق به من أذى .
أما اهل دمشق فقد استقبلوه استقبالا رائعا لم تشهد له المدينة مثيلا من قبل منذ دخول صلاح الدين إليها، وفق ما روى بعض المؤرخين فقد كان حامل راية العروبة والإسلام.
وكان قد سبقه إليها العديد من المهاجرين الجزائريين بينهم نحوالف جندي شكلوا حرسه الخاص وحامية تأتمر بأمره .
مذابح 1860 …وحقن دماء المسيحيين…
جعل الأمير عبد القادر من إقامته الدمشقية الطويلة فرصة لتعليم أبنائه العشرة، والكتابة والتأمل والعبادة، وقد دون خلالها كتاب ” المواقف ” الذي يقع في حوالي ثلاثة آلاف صفحة ويشتمل على رؤى صوفية جعلت الأمير يقترب أكثر من معلمه الروحي ابن عربي صاحب “الفتوحات المكية” الذي اسلم الروح في دمشق قبل قدوم الأمير إليها بستة قرون كاملة.
واول ما فعله الأمير عندما وطأت رجليه أرض الفيحاء كان زيارة ضريح ابن عربي والتبرك به. فقد كان تدرب على الطقوس الصوفية وهولم يبلغ العشرين من العمر، عندما قام بتأدية فريضة الحج بصحبة والده، وزار بلدان المشرق العربي في تلك المناسبة .
فالعلوم الدينية التي تلقاها في زاوية وادي الحمام وهوطري العود تركت بصمات عميقة على تكوينه الروحي والنفسي، وجعلته مرابطا ومحاربا وصوفيا في آن معا .
لكن اهم ما حفظه التاريخ من إقامة الأمير الدمشقية هوموقفه النبيل خلال المجازر الطائفية التي اندلعت في 5 آذار / مارس من عام 1860، وخلفت حوالي سبعة آلاف قتيل مسيحي، وكانت تكرارا مضخما لما جرى قبل ذلك ببضع سنوات عام 1845، إذ امتدت المذابح إلى سهل البقاع اللبناني حيث أودت بحياة نحوالف مسيحي آخر.
ويبدوأن احمد باشا حاكم دمشق التركي وعثمان بك الحاكم في لبنان قد تغاضا عما يجري، اوكانا متواطئين خدمة لأغراض سياسية محلية فلم يعيرا أي اهتمام للتحذيرات الداخلية والخارجية .
وعندما وصلت المجازر إلى أوجها يوم 9 تموز / يوليو هرع الأمير من مقره الصيفي في دمر بإتجاه دمشق بصحبة كوكبة من جنده ضمت حوالي أربعين فارسا يصحبه ولداه محمد وهاشم.
طاف أولا على القناصل الأجانب، بخاصة قناصل فرنسا وروسيا وأميركا واليونان، وإصطحبهم الى داره لحمايتهم فهي دار احد “الشرفاء” لا يجرأ أحد على مس حرمتها .
وينقل شهود عيان لتلك المرحلة أن عبد القادر وزع جنده من الجزائريين المقيمين في العاصمة السورية على وحدات تضم كل واحدة ما بين 30 و40 فارسا، وارسلهم يجوبون شوارع دمشق والمناطق التي اجتاحتها أعمال القتل والنهب والحرق والإغتصاب، فكانت فرائص المعتدين ترتعد لمجرد رؤيتهم، ويدب الذعر في نفوسهم، فيولون الأدبار هاربين تاركين ضحاياهم وراءهم .
وتقول تقديرات مؤرخي تلك المذابح أن الأمير وجنده أنقذوا ما بين 11 آلى 13 الف مسيحي في دمشق وحدها. وقد وجد 4 آلاف من هؤلاء مأوى لهم في قصر الأمير ذاته وكان من بينهم العديد من أعضاء الارساليات الأجنبية ورجال الدين المسيحيين، بخاصة الآباء العازاريين ورهبان “دير الأرض المقدسة” والعديد من الراهبات وحوالي 400 من اليتامى. ووعد الأمير بدفع 50 قرشا لكل من يأتيه بمسيحي لحمايته.
مذابح دمشق تلك هزت العالم، واجبرت الأتراك على التحرك فتم استدعاء احمد باشا وجرى اعدامه بينما انهالت التهاني على الأمير عبد القادر من شتى أرجاء العالم .
لماذا لا يكون ملكاً على العرب؟
صديقه نابليون الثالث ارسل له الوشاح الأكبر لجوقة الشرف من الدرجة الأولى تقديراً وامتناناً ووصلته صلبان وأوسمة التقدير من قيصر روسيا (وسام صليب النسر الأحمر) ومن بروسية ( صليب النسر الأسود ) ومن اليونان(صليب المخلص).. كما منحته الدولة العثمانية الوسام المجيدي من الرتبة الأولى، ووصلته من انكلترا بندقية مرصعة بالذهب. كما حصل على تكريم من سردينيا ومن البابا بيوس التاسع….
وقد رد على تكريم نابليون برسالة مطولة جاء فيها ان ما أقدم عليه هومجرد القيام بالواجب، وفقا لما تقتضيه الشريعة الإسلامية والضوابط الإنسانية ..
ومن الرسائل التي تركت أثرا بالغا في نفسه تلك التي وصلته من الإمام شامل بطل الإستقلال في القوقاز الذي نفاه الروس وقد مهر رسالته بتوقيع “شامل الغريب”..
وفي أعقاب تلك الفتنة خاطب الأمير علماء ووجهاء دمشق قائلا لهم : “آن الأديان وفي مقدمتها الدين الإسلامي، أجلّ وأقدس من أن تكون خنجر جهالة أو معول طيش اوصرخات نذالة تدوي بها أفواه الحثالة من القوم. أحذركم أن تجعلوا لشيطان الجهل فيكم نصيباً أو يكون له على نفوسكم سبيلاً”...