الجمعة 29 مارس, 2024

الأشجار التي تكتب على بطونها

الأشجار التي تكتب على بطونها

شوقي بزيع

12651232_556428241192741_5786447339664755077_n

غالباً ما يلجأ البشر إلى الاستعانة بالمفكرات و«الروزنامات» السنوية لتدوين المناسبات التي تهمهم والمواعيد التي يرتبطون بها، ولا يريدون أن تغيب عن أذهانهم. ذلك أن الذاكرة مهما بلغت درجة حضورها واتقادها لا بدّ لها أن تخون أصحابها، وأن تؤدي ضغوط الحياة المتراكمة إلى ضربها بآفة النسيان. وإذا كانت هذه الظاهرة مألوفة بالنسبة إلى القادة السياسيين ورجال الاقتصاد والموظفين والعاملين في مهن مختلفة، فهي مألوفة أيضاً في عالم الإبداع وبخاصة في مجال الرواية التي يحرص بعض المشتغلين بها على كتابة يومياتهم وتسجيل وقائع من حياتهم بالغة الأهمية بغية الإفادة منها في كتابة الروايات والسير والمذكرات. ومع ذلك فإن كتابة اليوميات لم تقتصر على هذا الجانب فحسب، بل تحولت إلى تقنية خاصة يلجأ إليها الروائيون كواحدة من حيلهم السردية، ويلجأ إليها بعض أهل الصحافة لتسجيل انطباعاتهم المختلفة حول شؤون السياسة والفكر والأدب والاجتماع.

قد يكون كتاب إدواردو غاليانو «أطفال الزمن» هو أحد أفضل كتب اليوميات التي سبقت لي قراءتها، وأكثرها غنى بالمعرفة واحتفاءً بقضايا الإنسان. فغاليانو، الذي ولد في غواتيمالا وتمّ نفيه إلى الارجنتين واسبانيا بسبب مواقفه المنددة بالطغيان، أراد من كتابه ذاك أن يتحول إلى وثيقة سوسيولوجية جامعة ضد الظلم والتعسف وإفقار الشعوب ومصادرة حقها بالحرية والكرامة. لكن الكاتب الذي تُرجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة لا يتوسل الخطابة الجوفاء والتبشير الأيديولوجي سبيلاً لتحقيق غايته، بل يدوّن على طريقته وقائع وأحداثاً من تاريخ البشرية تمكّن القارئ من إمعان النظر ملياً في حقائق الوجود والمجتمعات وفي طبائع الاستبداد وقدرة الشعوب الهائلة على اجتراح مصائرها. هكذا تتحول أيام السنة إلى ثلاثمئة وخمسة وستين مشهداً من مشاهد المواجهة بين البشر وأقدارهم العاتية، أو إلى وقفات ملحمية وشعرية ينتزعها الكاتب بذكاء من صفحات التاريخ المتباعدة. فقد يخطر لغاليانو أن يخصص أحد أيامه لحادثة راهنة لم يمر عليها الزمن، ليعود في اليوم التالي إلى حدث آخر وقع قبل آلاف السنين وما زالت أمثولته قادرة على شحذ مخيلاتنا بالعبر والخلاصات.

ليس صدفة بالطبع أن يشير المؤلف في اليوم الأول إلى أن الغالب هو الذي يفرض شروطه على المغلوب، حتى في مسألة قياس الزمن وتحديد معالم السنين. حيث إن تقويم السنة الميلادية قد اختارته روما الإمبراطورية بعد انتقالها إلى المسيحية، وباركه الفاتيكان بعد ذلك. ولا صدفة أيضاً أن يكتب غاليانو في اليوم الثاني عن سقوط غرناطة وقيام محاكم التفتيش وإحراق المكتبات التي صنعت في الأندلس إحدى أروع حضارات العالم وأكثرها تنوعاً واحتفاءً بالحرية. ولا هي محض صدفة أن ينتقل المؤلف في اليوم الثالث ليتحدث عن إحراق الرومان لمكتبة الإسكندرية أثناء هجوم يوليوس قيصر على كليوباترا. ذلك أن الكتاب برمّته يبث إشارات كثيرة وموحية حول الطبيعة البائسة لقوة الحديد والنار، وما يستتبعها من «إبادات» حضارية ومعرفية أشد هولاً من مثيلاتها المادية والسياسية.

يؤرخ غاليانو لمئات الأحداث والمحطات والمواقف الإنسانية المعبرة. لكن أجمل يومياته على الإطلاق هي تلك التي تمجّد الكتابة والشعر والفن، بما يظهر افتتان الكاتب بالإبداع أكثر من أي نشاط بشري آخر. ففي يومية قصيرة بعنوان «العهد» يكتب غاليانو «في سنة 1890 كتب فنسنت فان غوغ في رسالة إلى شقيقه ثيو: دع لوحتي تتحدث. انتحر الفنان في اليوم التالي وما زالت لوحته تتحدث».

وفي يومية أخرى بعنوان «ذكريات خضراء» يتحدث الكاتب عن الأشجار التي تربي حلقاتها في جذوعها، واحدة بعد الأخرى، لكي تخزّن ذكرياتها. وعبر هذه الحلقات يتم تدوين الطوفانات والحرائق والندوب والزلازل التي مرت على هذه الكائنات الحية. ثم يضيف ما حرفيته: «تذهب الأشجار الصغيرة إلى المدرسة وتتعلم الكتابة. أين تكتب؟ على بطونها طبعاً. وكيف تكتب؟ بالحلقات التي تستطيع قراءتها». وفي مدوّنة ثالثة ينسب غاليانو لأبي عبدالله الصغير مقطوعة شعرية له، قد تكون لآخر ملوك بني الأحمر بالفعل أو للمؤلف نفسه، حيث نقرأ:

«حين أرفع أذنيَّ كي أصغي

أسمع ألحاناً تأتي من بعيد

من أزمنة أخرى

من ساعات متلاشية وحيوات منقرضة

ربما كانت حياتنا مصنوعة من الموسيقى

وفي يوم القيامة

ستُفتح عيناي مرة أخرى في إشبيلية».

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-11-18 على الصفحة رقم 9 – السفير الثقافي

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *