أوّل البحر… آخر البحر
أوّل البحر… آخر البحر
لا تخافوا الفاضل الجعايبي
سهام عقيل شعبان*

يروي عبد الرحمان منيف في كتابه “لوعة الغياب” حزنه الخالص حول ما حدث له بعد موت وفراق أصحابه وأصدقائه الأبديين، أصحاب النصوص التي حركت في جوانيته المغتربة سؤال المعنى واليقظة، في لحظات تاريخية حاسمة من التاريخ العالمي والعربي.
في سباق المسافات الطويلة التي قطعها مع أصحابه الأبديين ضد ممالك النفط والنسيان، كان منيف يتأذّى من أفول المعنى والجحود العلني. وحين أبّن في “لوعة الغياب” أصدقاءه كان منيف يكتب تأبينه الخاص .
مطلا على النهايات، كتب منيف بلوعة قصوى عن الذين مروا داخل الجرح العربي معترفا بأفضال سعد الله ونوس ونزار قباني ومحمد شكري أي كل من جاءه خبر نهاياتهم قبل نهايته هو. كتب عنهم لأنهم اقتسموا جراح التأسيس والبناء والمقاومة والجمال النازفة في زمن عربي تحوّل معهم إلى تاريخ مضاد لسلطة عربيّة تصادر الخير السعيد، أي الممكن من الحرية.
اجترح منيف وأصحابه الأبديين نصوصا أدبية تدافع في جوهرها على حرية متحررة من كل قيد سياسي. وصرخوا من نفس الحنجرة. كانوا مثل موسيقى القيامة أو ربما كانوا الموسيقى وحدها خالصة ضد كل أشكال التبعية.. بحقدهم الجميل مثل نصوصهم التي تكمن أرواحهم فيها شهيقا فقط.. كتبوا وصوروا شخوصا خالدة ومتمردة رغما عن أنف التاريخ الحاضر في ذاكرتهم المتعبة والمرهقة من صراعات السلطة السياسية التي تمتهن العنف والقهر والتعذيب والتجويع والتشريد ضد كل من يقول “لا” أو يفكر أو يدحض أو ينقد أو يبدع أو ينشئ أو يجرب المقاومة الشعرية للطغيان والقمع العربيين. سكنوا في اللغة وفي الحرف إلى أن قررت السلطة أن تمارس عليهم الوصم الأخلاقي ( كأن يصبح محمد شكري كاتبا قليل الأدب)، وأن تخنقهم باللغة، وفي اللغة، البيت الذي يقيمون به.
عندما ورد إلى منيف خبر موت محمد شكري، كتب عنه في لوعة الغياب قائلا “مات أمير الصعاليك بهيبة سلاطين”. حزن منيف كثيراً من الفقدان المضاعف: فقدان الشخص وفقدان نصّه المتمرد. فلن يكتب أحد مثل محمد شكري عن شوارع طنجة الاستعمارية وما تحمله من أسرار الصعاليك. ولن تكون للصعاليك هيبتهم بعد أن سُرقت أو أطفأت قناديلهم في المدينة.
الدولة لا تفزع ولا تحزن ولا تحلم. الدولة متعالية، تملك عصا ومواخير، وتطارد النور.
تتربّص السلطة في بلدي بالفعل المسرحي، لأنّه فعل حر وحي وثابت ومقاوم ومتمرد بطبعه ضد كل ألوان الطغيان، يملك نبله الخاص وتقشفه المعلن ضد ميكانيزمات الاستهلاك السريع ودهاء تقنيات الاتصال السياسي المبرر للجريمة الكبرى : اضمحلال الخير وقيام الشر بمقاييس خاصة تضعها الدولة – السلطة كمبتغى على طريق الدين والآخرة والثقافة المهرجانية التي ترضخ تحت آليات أجهزة الدولة ذاتها بنفس الطرق والحيل عن طريق قواديها الذين يبيعون اللذة الرخيصة في سوق الأجساد على حد عبارة نجيب محفوظ.
لن تهزم الثقافة الوطنية. قدرها أن تقاوم روح الهزيمة، تقاوم ضد الإشهار وابتذال الإنسان لإنسانيته ولعقله ولفؤاده ولغده القادم ولسيرورة وجوده في أتون حرب دامية تتفّه الفعل والعقل والشعور بأنّ شيئا ما يحدث في العالم ما كان له أن يحدث كموت طفل تحت القصف دون ذنب لم يقترفه بعد.
قرّرت الدولة بامتيازها الخاص أن تحرم الفاضل الجعايبي من أن يقدم عرضا مسرحيا على ركح الحمامات.. آخر البحر..تخترع دولة بعد الثورة طرقا أخرى سالبة لكل أفق.. سالبة للحلم وكل امكانيته، وتستعيد عصاها وتسلب المسرحيين، بوصفهم حالات حالمة، أحلامهم بالممكن.
نعرف تلك العصا. نعرف وصفات المنع والمحاصرة والتجويع والترهيب وسياسة ضرب الرأس بالرأس؛ من خلال إبداع زلزال متواصل داخل جسد المسرحيين في حد ذاته. لا تزال الدولة – السلطة تراهن على مقايضة الحرية بالجوع والزج بالمسرحيين داخل جرحهم. لا تزال السلطة تحتقر المسرحيين، ليزيد حزنهم، وشكّهم في أصالة وجودهم. وتعيد استثمارها في تفقير كل المؤسسات والمسارح وأشكال الاحتفال بقوانينها الخارجة من ذمة الدولة العميقة التي تخاف التنازل للمسرحيين فنكتشف كلنا عورتها البالية المهترئة التي تواصل التطبيع مع العقل التونسي التي أرادت صناعته كعقل قاتم وتافه وجاحد ومفرغ من علاقته بالحركة الوطنية و من مشروعه بإنشاء البديل المقاوم لما يحدث في عصرنا اليوم .
.. هاجر المسرحيون إلى بلدان أخرى… ذهب أصدقاء العمر المسرحي الصغير الذين شيّدوا الحلم .. حلم المقاومة المسرحية.. بقيت وحدي في شوق متزايد لهم… غادر أغلبهم الركح التونسي هجرة أو تعباً أو حزناً أو قلقاً أو لوعة من عصا الدولة..
ومنذ منع عرض مسرحية آخر البحر للفاضل الجعايبي في مهرجان الحمامات، والكل يتربص بالفعل ويشكك أو يساند أو يريد استثمار العنف ضد شخص المخرج.. الفاضل الجعايبي وريث الشك الدائم في بحثه الجمالي، والخائف الأزلي من لحظة مسرحية قد تفوت ولا تخصب كلحظة مفارقة تتجاوز قسوة الخوف. ينشئ الفاضل الجعايبي شخصياته وخرافته في فضاء خانق. ثم يبعث النداء للعقل قصد شحذ الهمة نحو الشك في الإنسان التونسي كجزء وخلاصة متفردة داخل بنيان حضاري يمتد من اللامتناهي في الكبر ثم يعود إلى اللامتناهي في الصغر قصد ترميم ما يمكن إنسانيا. قصد الشك في ذاته المفتوحة على العالم المجحف بطبعه وعلى الوطن المهزوم. لكن الدولة بمؤسساتها تحبط كل شيء، فعوض أن تنتج كل لحظة شقية في الدوامة المسرحية التمرد على كل قيد سلطووي سياسي، تتحول فجأة إلى نعيق غربان توحشت، غربان تشتاق خفافيش الدولة ؛عسسها وقواديها، الذين يبيعون الدم والأفق والحلم في سوق الدعارة الاستهلاكية في كل المواسم الدينية منها والاشهارية المبتذلة الخاصة والمتخصصة في دحض كل القيم التي ناضلنا من أجلها وانزوينا نازفين من فرط جراحنا ومن فرط وحدتنا .
كم من اغتيالات وخيبات وانتكاسات أنتجتها الدولة وعودتنا عليها حتى بتنا جثة تستقبل الموت أكثر من استقبال الحياة من الأفق المضمخ بالنهايات.
فمن تقاليد الدولة – السلطة أن لا تعترف بالدم والجهد والحب والعرفان والوداع عند كل غياب فهي تتعامل مع المسرحيين كحافلة تنتقل للعزاء عند كل موت فقط في جهات الجغرافيا المعزولة.
هيأت الدولة مؤسسات للمسرح بغاية تدمير نكهة التحرر في الفعل المسرحي.. شجعت سياسات النهب وجشع اللصوص.. نظمت العنف داخل المسرحيين نقابيا.. قامت بترتيب الجائع الأول والجائع الأخير.. كممت الأفواه بملاليم ميزانيتها.. ومن يعتقد أن الفاضل العايبي صاحب التجربة المسرحية التونسية في حل من كل هذه الخيبات هو رهين دولة – السلطة المتدافعة ورهين الجحود واليأس.. اليأس من مسرح مرفوع الرأس.
المسرح التونسي مثلما درسته في المعهد العالي للفن المسرحي نقطة متحولة ومهمة في تاريخ الحركة الوطنية وجزء لا يتجزأ من بناء وطننا تونس، ويتأكد لنا اليوم أنّ السلطة لا تريد لنا سوى الهاوية سكنا. فهي تمنع وتقصي كل نفس مسرحي يتوق لبناء شيء ممكن داخل المؤسسات أو خارجها.
هذه الدولة – السلطة لا أخلاق لها ولا أفق ولا سياسة غير تحقير المسرح التونسي، حتى يكون تابعا لها في سباقات الغدر الطويلة. في كل حالات المسرح التونسي، المنتكسة والمنتصرة، كان ثمة أمل ويقين فيما يجب أن يكون. ما كان المسرح التونسي أبدا صحراء, وأمسك دائما بخيط الأمل الرفيع والدقيق كخيط ضوء الفجر..
على المسرحيين الانتباه إلى ضرورة السؤال والتفكير والجدل حول ما يحدث بيننا وخارج أطرنا.
لا تخافوا الفاضل الجعايبي فهو رغم قسوته الرديفة عضويا بقسوة المسرح، لا يزال الحي بيننا مدافعا حرا وذكيا وشاعرا رغم الحدود والجحود.
لوعة الغياب التي دونها منيف عن أصدقاء الفكرة الحرة التي أنبتوها في سوق النخاسة، تحوّلت إلى فعل شعري مقاوم لم يستسلم للانتقام المراهق ضد طغيان الظلام وعودة الظلمة.
لأجل من سيأتي غدا ومن بينهم بناتنا وأبناؤنا في أوطاننا وكيانات العالم.. يجب أن نظل على وعد الشعر ونبله المطلق رغم كل ما سيحدث، وكل ما يحدث لن يكون نهاية التاريخ مثلما خاطب سعد الله ونوس موته القريب والغريب في خطابه المسرحي الأخير
..لن نذهب بأحلامنا إلى آخر البحر كغرباء على الوجود بل كقرابين لحرية مرتقبة، تنتظرنا وننتظرها نصرا أو استشهادا لأرض ستستقبلنا كأحرار لا كماشية في حقول الدولة – السلطة أو قرابين مكتبية أكل العنكبوت من خيوط روحها.
وسيظل المسرح التونسي برموزه وألوانه وصراعاته الحقيقية وأجياله ودفئه وصرخاته وبرده الجارف العدواني والمجاني، جزء لا يتجزأ من حركة التاريخ التقدمي والمتنور. رغم النكران والقبيلة والشريعة وكل الأحقاد سيكون قمرهنا في بلدنا وضوء في المدينة والعالم البعيد، حيث يصيرالأطفال نجوما في سماء الكون ووعدا بالحرية من النهر إلى البحر.
نحن كمسرحيين من تونس أخرى تنتصر للخير، الخير الممكن، لا نرى
تونس إلا من داخل روح الشعر، من داخل البهجة . ومن داخل مدينة المسرح سنحرس خرافتنا وقداستنا، كي نطلّ على أول البحر.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* نقلا عن صفحة الكاتبة