الجمعة 29 مارس, 2024

“منمنمات دمشقية”

أبعاد التجربة الإنسانية في ديوان ليندا إبراهيم

“منمنمات دمشقية”

محمد الدسوقي

“إذا تحّول الشعراء الي مأجورين كُسر في أعماقهم شيءٌ جوهريٌ، وفقدوا القدرة على تخصيب الحياة إن باعوا أنفسهم، والمرأة هي الرمز لقدرة الشاعر، وهي الرمز للوطن الذي يدافع عنه، وهي التعبير عن الانتماء، وعن الشيء العزيز، وما يؤكد هذا بالمقابل روعةُ شعر الحب الذي يكتبه الشعراء في حالات الحروب والمقاومة ، فتتحول المرأة حينئذ، هي والوطن، إلى شيء واحد، وتوحُّدُ الشاعر مع حبه، توحُّدٌ مع نضاله من أجل وطن يخشى عليه.”

والمتتبع لتاريخ الحركة الشعرية السورية بعد ثورات الربيع العربي ، سيجد أنها جابهت موقفا متوترا ، وبخاصة من أولئك الذين بقوا في وطنهم ولم يهاجروا ، إذ رأوا  في الهجرة  خيانة ، ولهذا وجدوا أنفسهم في المسافة الفاصلة بين الحب والحرب ، ومنذ هذه المفارقة ، بدأت  تظهر هذه الجدلية بشكل واضح وجلي في تجاربهم  ، ربما أشبه بالدور الذي يلعبه المجاز في الشعر ، أو الذي تلعبه الحرب في الواقع ، الحرب بمجموعها الشامل هي الأساس المادي الذي لا يمكن أن ينحو الإنسان بعيدا عنها ، وربما لا تتحقق إنسانيته بمعزل عن وجوده داخلها ، فنار الحرب تحل محل نار الحب ، والعكس ، في هذا المناخ الجدلي تظهر التجليات الإنسانية في جوهرها الأصيل ، ويتحول الإبداع في حياة الشاعر السوري إلى نوع من الرسالة ، وهو ما لمسته عند شعراء كثيرين في السنوات العشر الماضية ، ومن بين هؤلاء ما قرأته مؤخرا للشاعرة ” ليندا إبراهيم ” في ديوانها ” منمنمات دمشقية “

القمرُ في الأعالي…

و”النجمة” هبطت لتنام بحضنِ الشهيد…

لا الشمسُ ينبغي لها أن تغيبَ …و لا ليلَ بعدَ الآن…

شامُ الشرفِ و الشُّرفاءِ أ مُّ الضِّياء تُولدُ من جديدٍ ..

وأبناؤها الشُّهداءُ يُضِّوؤون فجرها الآتي ..

الشهيدة و الشهيدُ على ” الأسكي”..

و بواباتُها بواباتُ الارجاء و الفرج لخلاصٍ قريب، باتت

مشرعة للسماء السابعة.. والمآذنُ تؤَذِّنُ :

أشهدُ أن لا حُب إلا للشام…

أشهدُ أن الشامَ حبيبة الله…

حَي على الشآااااام..

حَي على الشآم ..

إن كل من يتأمل الشعر الجديد-الراهن- يجد أن الشعراء استطاعوا –لأول مرة- أن يتمثلوا الحرب لا صورا وأشكالا وقوالبَ بل جوهرا وروحا ومواقف ، وأدركوا فيها أبعادها المعنوية ، ولعل أول ما يلفت النظر في النص السالف الذكر هو لفظ الشهادة الذي يسيطر لفظا ومعنى على النص ، وهو يشير إلى حالة استمرار الحرب ، لهذا تتكرر الشهادة كظاهرة لغوية لها وظيفة نفسية جديرة بالانتباه فهي تعكس الحركة النفسية الداخلية لدى الشاعرة ، وتؤكد انفعالها ، وتجسم إحساسها وتبرزه ، وقد تساعد على جمع ما تشعث في نفسها وتوحدها ، باعتبار رمز الشهادة هو الفرج لخلاص قريب ، للدرجة التي تنام فيها النجمة بحضن الشهيد ، وفي ظل كون شمسه لا ينبغي لها أن تغيب – فلا ليل بعد الآن ، والشام أ مُّ الضِّياء ستُولدُ من جديدٍ ، و لهذا جاء استلهام الشاعرة لنداء الصلاة  :

” أشهدُ أن لا حُب إلا للشام…

أشهدُ أن الشامَ حبيبة الله…

حَي على الشآااااام..

حَي على الشآم ..”

وهذا يعني أن ليندا إبراهيم تصطفي لنفسها ، أو لشعرها – رمزها الخاص ، وتوظفه توظيفا بارعا ، وكأنه الصوت والصدى في آن معا ، والصوت هنا هو عالم الشهادة / الحرب ، أما الصدى فهو عالم الغيب / الحب ، عبر هذه الجدلية تتكشف طبيعة المعاناة التي تعيشها الشاعرة ، فلا هي تعبر عن واقع يستغرق نصها ، ولا نصها يغرق في غموض يقصيه عن رسالته ..

أيتُها الكامنةُ في روحي..

القصية القصية حتى الشِّغاف …

لما يئِنْ ميقاتُكِ ، ولما يحِنْ موعدُكِ بعدُ ..

ما زلتُ ألوِّنُكِ، أشكِّلُكِ ،أنسجُكِ في اللاوعي والوعي أيتُها

الأثيرةُ الغالية…

ما زلتُ أحتاجُ الكثيرَ من السكينة ، و الجَمالِ ، و

الحُبّ ، و الوطن و اللحظات العالية الكثيفة …

ما زلتُ أحتاجُ الأكثرَ من البياضِ في روحي.. الأبعدَ من

النقاء فيها.. لأتأتى بك.. لتتأتِّي إلي ..لأستدرجَكِ إلى

مكامِنِ رغبتي الوَلوع ، فتتضمخي بوشاحها الشهيِّ

الشذيِّ و لتتغامسي بأنينِ طيني..

و لكي تأتي ، أحتاجُ وطناً لأغيبَ فيهِ عن روحي…

لأغيبَ و روحي فيه..

وطناً لا أرى إلا سحابَهُ و اليمام ..

حينها ستأتينَ على سجادة صلاتي..

لأجل  راحة روحي في زمنِها الضرير:

يا قصيدةَ القصائد..

إن فكرة الوطن / الذات ههنا جديرة بالتمعن العميق فهي التي تحقق للقصيدة تماسكها وانسجامها ، وهي التي تعيد للتجربة الإنسانية اتزانها ووحدتها ، وتخلصها من انقسامها الوشيك ، والشاعرة قادرة على وضع قارئها في مناخها الخاص ، بين الإحساس بوطأة الحرب وضراوتها ، وبين الإيمان بوجود الحب  ، وهي حالة تعكس مزاج الراهن وتعبر عنه ، وكأن قصيدة الحرب هي التجسيد المادي لقصيدة الحب ، وهي بالفعل  تيمة شكلية أساسية في نصوص الشاعرة كلها ، تظهر لنا في طبيعة لغتها ، ووظيفة نصها ، وأناها التي تحاول بعثها وإثبات وجودها ..

تماما …

كأيامي المهروقَةِ على عتبَاتِ اشتهَائك..

كَعُمري المصلوبِ على خشباتِ انتظا رك…

تأتي فارساً من ملاحمِ روما ..أو إلياذاتِ الإغريق…

بحنطة وجهِكَ التي لا تخطِئُها روحي..

و هناك.. في علاية الحُبِّ .. حيثُ شرفاتُ الرغبة.. و

بيتُ الفتنة المسور بالبياضِ المُشتهى … المؤثثِ

بخوابي اللذة…حيثُ مَدَارتُ دهشَتي..!!

راحت يداكَ تُراَوداني ..

و روحانا ترقُصَان بهجة…

وتبدو فكرة البحث عن الذات أصيلة في موقف ليندا إبراهيم ، فهي تلح على ذلك في جل نصوصها ، ولا تزيد وقائع الحرب إلا إيمانها بالحب ، كما أننا أمام شاعرة معاصرة توظّف ثقافتها في شعرها ، وتصّور من خلال هذه الثقافة المتنوعة موقف سوريا ، أو لنقل إنها تعبر تعبيرا عميقا عن حالة الافتقاد ، لدرجة الحلم بأسطورة حرب طروادة  ، وكأنها المعادل الموضوعي لدمشق في زماننا الحاضر ، وقد داهمها الخطر من كل صوب ..

كنتَ متوجاً بالحب…

تحفُّ بكَ خيولُ الرغبَة.. و تصهَلُ لأجلكَ أفراسُ الشوق

.. و روحي تتبعكَ قبراتِ لهفة … و عصافيرَ نشوة…

كنتَ “أوديسيوس” الذي انتظرتُ ..

و كنتُ “بينيلوبي” حارسةَ وقتِ غيبَتِكَ ..التي حاكَت لكَ

عمرَها كلهُ على نَولِ الانتظار…

كم نسجتُ ثوب اللقاء…لتأتي…!!

كم أعدتُ نسجَه … واذا بي أعيدُ تكوينكَ و أبعثكَ إلي…

خالقتُكَ أنا.. واهبتُكَ  اللذةَ و الاشتهَاءَ ..مانحتُكَ الحنين ..

إن محاولة اثبات الأنا وإعادة صياغتها ، سيجعلنا نلاحظ  العالم الإنساني الذي تنتمي الشاعرة إليه ، فهو عالم متعدد ، فهي امرأةُ الحزن الشفيف  ، وامرأة الغبطة ، وامرأة المر ا يا..

أنا “هيلين”…أنا “أثينا”…أنا “بديعة” “محمد عمران”…

أنا “المجدلية”…

أنا “زليخا”…عاشقةُ الله …عاشقتُك..

أنا “البتولُ ..امرأة “لوط” … جارية “سُليمانَ “… قِدِّيسَةُ

المَعبَد … عَرُوسُ الازمان..

سأرفُو روحيَ المتهرِّئَةَ منْ عذابِ انتظَاركْ …

و أنضُو عنها الثوبَ تلوَ الآخر…

لا يهمُّني البِلَى…بلْ تهمُّني ريحُكَ المُستَحيلةُ

الاشتهَاءْ ..و عيناك الشذيتان..

يا رجلَ الرُّوح ..

و سيِّدَ الرغَبَاتِ الغَامضةِ السِّرية ، و الأعشاشِ الموغلة

في السِّرِّ .. و العِتقِ .. و القِدَم.. و الفتنة..!

وهنا ينتقل الموقف من البحث عن الذات إلى البحث عن مخلّص ، عن رمز حقيقي ، فوق طاقة القلب والروح والعقل ، فتوغل الشاعرة في أحلامها ورؤاها حتى توهمنا أنها انقطعت عن العالم إلا من وطنها ، وتصوراتها عنه ، تصوراتها الشعرية التي لها عذاباتها وعذوبتها ، إنها حالة خاصة من اليقظة الشعرية الفياضة تعبر عن عالم الأحلام والرؤى ، عالم الحقيقة والخيال ، عالم الحرب والحب  ، وتوحي بهما الشاعرة أكثر مما تحددهما ، أو تسميهما، وعلى امتداد الديوان تظل الشاعرة تتحدث بضمير الأنا ، أي بصوتها الخاص ، وفي كل نص – تقريبا – نقرأ حوارا جدليا بين الأنا والأخر ، الأنا والوطن ، الأنا والحرب ، الأنا والحب ، وهو خطاب سما بالشعر ، بل وقرّبه من مشارف الروح حتى كاد أن يلتحم بها …

لا تُجدِبِي…فرَحمُكِ خصبٌ ، يا ولادةَ الفُصُول…

لا تعقُمي…فيَمُوتَ رَشيمُ الحَيَاة في قلبِ الحِنطَة..

تَمُّوزُ أُحْرِقَتْ مَوَاسِمُه ..و “أدُونيسُ “قتلهُ “الخنزيرُ البرِّيُّ ..

و “بَاربَار ا ” هامَت في الحُقولِ إثرَ إلهٍ “علِي “…

مُنذُ أنْ حاصروكِ ..أحرقُوا يابِسَكِ الناضج.. وأتلفُوا

أخضَركِ  اليانعَ ، وَ الأرضُ تضيقُ ببنيكِ يا أم

المَسَاكينِ ..

يا إلهةَ الازمانْ ..

هُوَ ذا تجَل آخَرُ لحبيبي…

بينَ جنباتِ كرومِكِ القصِية..

فَهبيني خصبكِ وقولي لهُ أن ينتظرَني خلفَ مَواسِمِ

الازمان…

بعد أن يقطُفَ الكرمُ العناقيدَ ..و يَعْكُفَ على تقطير

النبيذِ المُقدسِ ..

و نقيمَ الصلوات لراحةِ رُوحك في ليلكِ الآدمي الحزينْ

آمينْ ..

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *