ثقافة

«مسرحيات نجيب محفوظ»

«مسرحيات نجيب محفوظ»

فلسفة تغوص في ضباب اللاوعي

نسرين بلوط

إنّ تحقيقَ الفعل بالمطلق لدى بعض الكتّاب يتطلّب صيرورة موضوعية تَلِج آفاقَ العقل وينتج عنها منعطفات حلزونيّة تكاد تجزم بأنّ الفعلَ متولّدٌ عن ردّة فعل لحظية تتبع النظرية الديكارتية التي تبنى على أعمدة التحليل والترتيب، ولكن ضمن علاقة ديالكتية بين الفكرة والواقع.

وقد استطاع نجيب محفوظ في مسرحياته التي كتبها كمشاهد درامية تحيا من صلب الحياة أن يجسّد قيمة الانسان وصراعاته الانطوائيّة الذاتية والخارجية الظاهرة مع الكون، وتَعطّشه لسفك المشاعر على محراب السراب كي يحصلَ على مراده ويحصد أطماعه بلا شريك.

هذه المثالية الهيغلية التي يتّبعها محفوظ، تجسّد الفكر الأساس الذي يتشكّل على أساسه العالم، وقد عرف محفوظ بفرط دقّته ومُعايشته لحياة البؤساء ومخالطتهم، مزدرداً ماء السرد من كؤوس معاناتهم وأفراحهم الضئيلة وأتراحهم الثقيلة.

هذا الضباب من اللاوعي واللاعقلانية الذي يقلّص سماء الحياة النابضة بالتقلّبات، يسخّرها محفوظ لتقريب الهوّة الفاصلة بين الحياة والموت، موازناً بين الخلاعة والدماثة في الخلق، والبذخ والتقتير في المشاعر، والطمع والرضا في النفوس الملوّنة، ويلخّص الحياة على أنها مسرحية تضمّ نماذج مُختلقة من الخير والشر والتقوى والاجرام، كما صنّف في مسرحية «مشروع للمناقشة»، أرواحاً متأزّمة تضيق بالتهميش وتسعى للظهور المفرط ولو كان على حساب شرفها. فالمشهد يضمّ الممثل والممثّلة والناقد والمخرج الذين ينتظرون وصول كاتب مسرحيتهم الجديدة بأعصابٍ مشدودة وتشوّقٍ مُبهر، وبعد وصوله يعلن لهم عن فكرة مسرحية خرقاء، تضمّ امرأة ورجلاً يلتقيان في رحاب غابة واسعة بعد أن يضلّا طريقهما فيبحثان عن مأوى لِيتّقيا شرّ البرية وكائناتها المتوحشّة، مع اصراره على موت البطلين في النهاية. يعترض الممثّل على دوره مشدّداً على ضرورة افساح الدور الأهم له في استعراض بطولاته، وتعترض الممثّلة على عدم وجود مشاهد حُبٍّ ساخنة تحرق فيها مشاعرها الدفينة وتُلهب معها حواسّ الجمهور، كما ينتقد المخرج اصرار الكاتب على ترتيب المشاهد كما يحلو له والنهاية المحزنة للقصّة، ويعتري الناقدَ الحنقُ الشديد لأنّ المسرحيةَ لا تفسحُ مجالاً للتعامل مع المكان والزمان بشكل حرفي. يتعارك الجميعُ ثمّ يقرّرون أخذ استراحة قصيرة. وخلالها، تحاول الممثّلة أن تلقي خمار الاغواء على احساس المؤلّف كي يلينَ ويخضعَ لمشيئتها، وتعرض له حبُها المزيّف رغم علاقتها مع الممثّل، وتمنحه شفتيها في قبلة حميمة، فيباغتهما الباقون بعد عودتهم من استراحتهم وينشب خلاف جديد بين الممثل والمؤلّف، ثمّ يسود الوئام اللحظي الذي ينتهي بمغادرة المؤلّف للمكان مع وعودٍ سخيّة من الممثلة لنفسها بمسرحية ناجحة تسلّط عليها مجهر الأضواء.

في مسرحية «المطاردة» يستعرض محفوظ الحياة المتمثّلة في شخصين يرنوان للمجد والمال، والموت الذي يلاحق الانسان منذ يفتح عيناه، متقمّصاً هيئة رجلٍ عجوز يلاحق هذين الشابين، يضرب الهواءَ بسوطه فيحدث قرقعة مخيفة، فينسلّ الاثنان هرباً منه ويتحاشيانه بمشقّة.

في المشهد الثاني يُضاء المسرح على صورة هذين الشابين وقد أصبحا رجلين وقرّرا الزواج سويّاً بامرأة من عائلة كبيرة كي يضمنا الثراء والراحة، ورغم غرابة هذا القرار الا أنّ العروس تقتنع وتتزوجهما معاً، ويظهر ذلك العجوز «الموت» من جديد وقد أسرع في حركته قليلاً عن ذي قبل، فيقومون بالفرار من وجهه.

في المشهد الثالث يقف هؤلاء الثلاثة، وقد طعنوا في السن وجنوا المال وتوسّعت معهم الأعمال وأنجبوا الأولاد، يتسامرون ويتذكّرون ماضيهم بحنين، ولا يلبث أن يظهر العجوز «الموت» أمامهم وكأنّه يقتفي أثرهم، فيقومون بالانسحاب من مكانهم وقد أخذهم الوجوم وخَيّم عليهم الاضطراب.

في المشهد الذي يليه يظهر هؤلاء وقد جَمّلوا وجوههم وزحف على آثارها بريق الشباب الذي ولّى، وقد خَمّنوا بأنّ الرجل «الموت» لن يتعرّف إليهم، ولكنّه يظهر لهم من جديد بحركة أسرع بكثير من أيّ مرّة. فيقرّر الرجلان الزواج رغم كبر سنّهما بفتاة صغيرة يافعة كي تتغيّر هيئتهما ويضلّلا ذلك المطار الملحاح، وتعترض الزوجة ولكنّهما يلحّان في الطلب ويتمّ لهما ما أرادا.

في المشهد الأخير تظهر العروس الجديدة اليافعة الحسناء الى جانبهما جريئةً طليقة، تنضح بالفضول والخفّة واللامبالاة، وتجهل معنى الخجل وتزدريه. يظهر العجوز «الموت» سريعاً وحازماً وجازماً، فتقترح العروس عليهما تجاهله والافراط في الشرب، لكنّ حركته المخيفة تهيمن عليهما فيسقطان ثمّ يزحفان على أربع إلى الخارج، والرجل «الموت» يقف فجأة أمام العروس وهي ترقص وحدها أمامه.

نجيب محفوظ مدرسة فلسفية تجمع بين الفلسفة الوضعية، معانقاً بأفكاره نظرية كانط المنتمي لعصر الفلسفة المثالية، والذي آمَن بإصلاح النظرية الميتافيزيقية وغمرها بالمعارف والادراك، وقد كان محفوظ في أعماله فيلسوفاً وعالم اجتماع ينتقد مغبّات الانهيار الانساني على جميع الأصعدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى