الجمعة 29 مارس, 2024

“لمسات في معتقل الذاكرة”

“لمسات في معتقل الذاكرة”

بقلم: د. عبد الرحيم حمدان

3g3ef3e683746600xa[مدارك ثقافية]: لا شك أن في الإعادة إفادة، بخاصة لمقروءات أدبية لإصدارات وكتب قد يكون توالي الأيام على إدراجها في أعمدة المنابر الإعلامية، ونتيجة لزحمة الإصدارات، أبعدها عن عين القارىء رغم ما تتضمنه من متون أدبية يشتاقها المتلقي ويسعد بها من لم يتسن له الوصول إليها.

من هذه الإصدارات كتاب الدكتورة وداد الأيوبي الذي صدر في العام 2012، “لمسات في معتقل الذاكرة”، وقد طالعت قراءة لهذا الكتاب بقلم الدكتور عبد الرحيم حمدان كتبها بعد إصادر الكتاب بسنة تقريباً (٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٣)، ونشرت في موقع “ديوان العرب”. ونظراً لما تضمنته هذه القراءة من أهمية في التصدي لمضمون الكتاب، وللمنهجية التي اتبعها الدكتور حمدان، رأينا من الجميل أن نعيد نشرها في “مدارك ثقافية” لتكون ذخيرة يستفيد منها أهل هذا الفن من الأدب.

******

مضي زمن ليس بالبعيد في مقارباتي النقدية للأدب النسائي، فما زلت أذكر أن آخر ما كتبته في هذا المضمار دراسة عن “صورة اللاجئ الفلسطيني في شعر فدوى طوقان”، وقبلها بقليل تناولت بالدراسة موضوع”النص الموازي في تجربة فدوى طوقان الشعرية الخطاب التقديمي أنموذجاً”، وقاربت أيضاً “بنية الفقد في ديوان سفن الرحيل” للشاعرة سلافة حجازي.

ومنذ يومين أهداني صديقي الدكتور/ منصور الأيوبي كتاباً للشاعرة والأديبة الدكتوره وداد الأيوبي بعنوان:”لمسات في معتقل الذاكرة “، فأعاد إليّ شغفي واهتمامي بالأدب النسوي العربي، وامتلكتني رغبة جامحة لقراءة هذا الكتاب الذي يضم بين دفتيه مقالات أدبية نثرية، وقصائد شعرية صُبت في قوالب من شعر التفعيلة، ويقع الكتاب الذي يحمل غلافه الخارجي لوحة أنيقة للفنانة سونيا سبسبي، في(303) صفحة من المقاس المتوسط، وهو ذو طباعة فاخرة، وقد قمت بسياحة أدبية تجولت في دوحة الشعر والنثر، فألفيت مقالات تناولت موضوعات عدة: ذاتية ذات بوح وجداني، وأخرى واقعية، وثالثة إنسانية، عالجت قضايا تتعلق بالمرأة العربية ومشكلاتها وتطلعاتها التحريرية ومعاناتها النفسية وعواطفها الإنسانية، ووجدت أيضا أن ثمة مقالاتها قد كتبت ما بين الثمانينيات والتسعينيات، وقد عمدتْ الأديبة إلى تأريخ الكثير من مقالاتها وأشعارها؛ الأمر الذي يعين المتلقي على رصد تطور رؤيتها الفكرية، وأدواتها الفنية، إذ تبين للمتتبع لنتاجاتها الأدبية الأخيرة أنها راحت تميل إلى تكثيف الفكرة والمضمون الذي تولد من جنوحها لتكثيف العبارة وإيجازها، واللجوء إلى توظيف التقنيات الفنية الحديثة، ومقاربة المضامين الإنسانية، من خلال تناول المضامين الذاتية، إنها تنطلق من التجارب الذاتية إلى التجارب الموضوعية، ومن الذاتية إلى الجمعية الإنسانية، فجمعت على صعيد واحد بين النزعة الذاتية والموضوعية، وبين العام والخاص.

وكان من أقرب المقالات إلى قلبي مقال: “أبي لا يسرق مسابح الأتقياء”، والذي نشر في مجلة الأديب اللبنانية سنة 1997 م ، فقد نزل من نفسي منزلة عظيمة، وعلق بوجداني علوقاً عميقاً، فأحببت أن أقاربه محاولاًً الاقتراب منه؛ لأحاوره “…كما الجذور تحت التراب، كما الغصون فوق الشعاب، كما الظلال ترسل عضاضتها؛ لتحمي” دوريا” وجنات الأرض من لفح اللهيب”على حد تعبير الكاتبة ، واتخذت من هذا المقال أنموذجا لسائر المقالات الأدبية التي تضمنها كتابها السالف الذكر.

يندرج مقال”أبي لا يسرق مسابح الأتقياء” تحت موضوع النقد الوطني السياسي؛ بقصد الاقتراب من الواقع الوطني السياسي، وتتجلى فيه رسالة الأديب في تعرية هذا الواقع وفضح سلبياته وتوضيح آثارها في الإنسان والمجتمع، معبرة عن رفضها له، ورغبتها في تجاوزه إلى واقع آخر أكثر استقراراً وإيجابية واقع يحقق للإنسان والمجتمع النصر والتألق الوطني، ويتمحور هذا النقد الوطني السياسي في جانبين:

أحدهما: صورة زعماء الأمة وما يتصفون به من خنوع وذل وتضييع حقوق الأمة.

والآخر: صورة المستعمر الحاقد الذي يزيِّف التاريخ، ويطمس هوية الأمة ويسعى لنهب مقدراتها، وخيراتها.

ولكن كيف عرضت الشاعرة هذه الأفكار والخواطر، سؤال تحتاج الإجابة عنه إلى تتبع التقنيات التعبيرية التي وظفتها الأديبة في التعبير عن المغزى الكامن وراء هذه الرؤى والأفكار.

أول ما يتبين للمتلقي من تلك التقنيات الفنية عتبةُ العنوان، ذلك أن العنوان هو الذي يوجه قراءة المقال، فهو يحمل دلالات وإيماءات عدة تهب النص الأدبي سمات محددة بإطاراتها الاجتماعية والوطنية والنفسية، إنه يحقق هوية النص، حيث تنشأ علاقة بين العنوان والمضمون، لقد عولت على مبدأ التشويق والإثارة والترقب، بحيث لا يستطيع أحد أن يفهم مقاصد الكاتبة التي ترمي إلى تحقيقها إلا بعد قراءة المقال برمته، إن اختيار الكاتبة للعنوان في هذه المقالة لا يخلو من قصدية، وقد ترددت صيغٌ منه ضمن المقاطع النثرية تستحضر منطوق العنوان بطرائق مختلفة تؤكد هذه القصدية المعنية: “أبي لا يسرق مسابح الأتقياء”.

والتقنية الفنية الثانية التي عولت عليها الكاتبة هي تقنية التناص، إذ يعد التناص ملمحاً مهماً من ملامح تفاعل النصوص وتداخلها، ويقصد به” تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة أو حديثة شعرا أو نثرا مع نص القصيدة الأصلي، بحيث تكون منسجمة وموظفة ودالة قدر الإمكان على الفكرة التي يطرحها الأديب.

فالنص الأدبي محل التحليل والدراسة حول الواقع العربي المعاصر الواهي، الزمن الكسيح الذي تعيشه الأمة العربية، والذي يتسم بالضعف والذل والمهانة.

تصور الكاتبة في هذه المقالة أزمة الإنسان العربي المعاصر، ذلك أن أمور الوطن أسندت إلى زعامات قد انغمست في الترف والملذات، فبددت خيراته ومقدراته، في الوقت الذي يعاني فيه أبناء الشعب حياة الشقاء والعوز؛ ولإبراز هذه الحالة المزرية التي عليها الواقع العربي، فإنها تلجأ إلى أسلوب استدعاء الشخصيات التاريخية والأدبية التي تستحضر إلى ذهن المتلقي صوراً من التاريخ العربي المشرق الوضيء، والمجد الأثيل من أمثال: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، والخليفة العباسي المعتصم، وشخصيات أدبية من أمثال المتنبي بوصفه رمزاً للثورة على الحكام المتخاذلين، تقول الأديبة مخاطبة شخصية خيالية نحتتها من خيالها لتحاورها وتنقل من خلالها تجاربها ورؤاها الفكرية:

“لا تدع زمني الواهي يحتلني، يمزقني، ينتف الزغب، يوزع على أوكار البوم رحيق عطشي، ذوبني عشقاً وولها، أطفئ النار تحت قِدْر الحصى، لن يجوب ابن الخطاب على الرعية”.

إنها مفارقة صارخة بين زمن مشرق قوي، وآخر واهٍ حزين، بين زعماء الأمة المحبين لرعيتهم المخلصين في رعايتهم، وزعماء الأمة اليوم المنهمكين في ملذاتها وتحقيق رغباتهم الشخصية والتمسك بأذيال الملك، تاركين شعوبهم بلا رعاية واهتمام.

وفي مفارقة أخرى تبرز الكاتبة البون الشاسع بين تصرف الخليفة الإسلامي المعتصم وتصرف زعماء الأمة اليوم:

“لن يخلق صوت الزبطرية المستغيث معتصماً يتململ لوجعها… وينادي لبيك لبيك …، “آه” الندبة صارت مظلة عصرنا، ومخيمات الضعف والانهيار بأعماق الرعاة والرعايا… وقهقهة سخرية في ثغاء الشياه”.

وفي استدعاء ثالث تتوجه الأديبة إلى المتنبي مستحضرة بيتاً من الشعر له دلالاته ومغزاه العميق المكتنز بالطاقات الدلالية الثرة، قائلة “عاثت الثعالب في كروم الذهب النضير، وقد بشمن وما تفنى العناقيد”.

ضمنت الأديبة في جسد نصها الأدبي بيتاً من أبيات الشاعر المتنبي – التي لفتت بدلالتها أنظار الأدباء العرب المعاصرين فوظفوه في أشعارهم – وهو بيته الشهير الذي يقول فيه:

نامتْ نواطيرُ مصرَ عن ثعالبها

وقد بَشِمْنَ، فما تَفْنى العناقيدُ

المتأمل في سياق النص الأدبي يكتشف أن الأديبة عمدت إلى استثمار إمكانات الرمز ودلالاته، حيث رمزت بالنواطير إلى القادة والزعماء القائمين على تسيير الأمور، ورمزت بالثعالب إلى الزعماء المراوغين الذين نهبوا خيرات الأمة، وبددوها، وحرموا منها أهلها. إنها تذم النواطير؛ لأنهم ناموا عن ملاحقة الثعالب، وقد جعلتهم مشاركين تماماً قي الجريمة معها.

لقد كان الاستدعاءات السابقة المتراكمة والمكتنزة بالدلالات مادة أساسية بنت عليها الأديبة فكرتها المعاصرة، واستمدت منها عناصر صورتها التي تتمثل ملامحها في رسم صورة للواقع الراهن للأمة العربية، فالزمن العربي الحاضر هو الزمن الواهي الشاحب الذي سلب كل عناصر القوه والمعرفة والمجد.

إن توظيف التراث التاريخي والأدبي عبر عن نفسه من خلال آلية الاستحياء العكسي. وقد وظفت هذا الأسلوب ؛ لتبرز صورة قادة العرب الذين يرمزون للعدل والحرص على الرعية من أمثال: عمر بن الخطاب، فلن تجد حاكماً يعنى بأمور الرعية، وفي هذا استدعاء لحادثة تاريخية سجلتها كتب التراجم الإسلامية لخليفة كان يتفقد أحوال الرعية بنفسه ويطبخ الطعام للمرأة وأبنائها بدلا من الحصى عندما لم تجد ما تطهيه لأبنائها.

حاولت الأديبة أن تسقط على شخصية المعتصم أبعاداً جديدة من تجربتها المعاصرة، وتدخله في سياق جديد، إذ تخلق معتصماً جديداً معاصراً، تفارق ملامحه ملامح المعتصم التراثية الذي يُرمز به للقادة العرب في هذا الزمان، أنه معتصم جديد فقد النخوة العربية، والغيرة، وصم أذنيه عن صرخات المسلمات في فلسطين، المعتصم التراثي لبّي استغاثة المرأة المسلمة في زبطرة والتي ظلمت، وأهينت على يد الروم، سمع صرختها” وامعتصماه”!!، فلبي نداءها، وردّ لها كرامتها، وأطلق سراح ابنها الأسير، وهزم الروم في عمورية هزيمة منكرة، أعادت للأمة مجدها وكبرياءها.

أما زعماء العرب اليوم فقد ُسلبت عنهم صورة القادة الذين يمثلون الوجه العربي المشرق والتصقت بهم صورة الحاكم الفاقد للانتماء وللوجه العربي، إنهم يمثلون وجه كافور الإخشيدي حاكم مصر الذي نهب خيراتها وأوهن قوتها، وعمل على تحقيق مصالحة الشخصية، ومطامعه الذاتية.

وقد حقق التناص مع الشخصيات التراثية انسجاماً على صعيد المضمون والفكرة، فجاء متسقاً ومجسداً للفكرة المطروحة في السياق التعبيري.

وإذا كان استدعاء الشخصيات التراثية، إلى جانب توظيف المفارقة التصويرية هما الأداتان الأساسيتان اللتان استخدمتهما الأديبة في تشكيل البناء الفني لمقالها، فإنها دعمت هاتين الأداتين بمجموعة من أدوات الفن الشعري الجزئية من: صور فنية متناثرة على امتداد المقال، وتضمين للنصوص الشعرية، والرموز التراثية، واستثمار للقيم الأسلوبية البلاغية، فضلاً عن استخدام أسلوب السخرية القاتم، بيد أن الأديبة تترك هامشاً للخلاص حتى تتمكن من تجاوز هذا الواقع الأليم، في الوقت الذي ينوء فيه كيان الأمة كله منسحقاً تحت وطأة الهزائم والفجائع، وأن تستشرف النصر، وترهص به في أفق غامت فيه بيارق النصر، حيث تقول في خاتمة مقالتها:

“أيها الفجر الطالع من مقل الفراغ.. أتذكر آباءنا؟؟… لو يستيقظ التراب حول هامة أبي لأخبره أن المطر سقى الزروع، والشمس أدت حسابها، ووفت بديْنها وأن الربيع يغشي كل دروب المقبرة لأجل ثراه، لكن أختي الصغرى أضاعت قرطها الذهبي وسط الحشائش النضرة، وأمي انزلق خاتمها الفضة وهي توضب أغصان الريحانة العبقة. لكننا لا نقبل بالواقع الهشيم. لا نقايض عبق الروح النقي باللجين أو النضار”.

إن مثل هذه الاستدعاءات للتراث الإسلامي العربي في هذه القطعة الأدبية تنم على ثقافة واسعة، ووعى عميق، وانتماء أصيل للأمة وتاريخيها عبرت عنه من خلال توظيف تقنيات التناص التاريخي والأدبي الذي جاء بطريقة فنية غير مباشرة، وقد تحللت معانيه وذابت دلالاته في جسد النص الأدبي، فأنتج بذلك دلالات جديدة أوحت بعمق التجربة، وعمقت أثرها، وخلقت روح المشاركة الوجدانية مع المتلقين.

ويمكن تفسير توظيف الأدبية للتراث العربي بهذه الطريقة المكثفة بالعودة إلى المراحل المبكرة من عمرها. فاهتمامها بالتراث الأدبي يرتبط بمحيطها الأسري، فالأسرة يرتبط عدد كبير من أفرادها بالتراث ويتعلقون بأهدابه، إذ كانت مكتبة الأسرة تعج بكتب التراث الأدبي، لاسيما دواوين الشعراء العرب القدماء والمحدثين، فضلا عن الثقافة الأدبية التي تشربتها في مختلف مراحل تكوينها اللغوي، إلى جانب عن كونها متخصصة في الأدب العربي وتاريخه، فالموروث الثقافي للأدب العربي يتسرب إلى الأديب من حيث لا يدرى عن طريق اللغة العربية إلى أرضيته الثقافية، ليتجلى فيما بعد في إنشائه الفردي في نصه الذي ينشئه ـ هذا النص ـ الذي هو في نهاية المطاف حصيلة تراكم النصوص المستوعبة في نفسه.

أما الأداة الفنية الثالثة التي وظفتها، فهي استغلال إمكانات التصوير الفني بأدواته المتعددة من: تجسيم وتجسيد ورمز والذي أضفي الحياة على المعنويات والأفكار، فإذا هي مجسمة مجسدة، فالتاريخ رمز للإنسان القوي المتمرد الظالم الحاقد والحضارة الزائفة، الطامع في خيرات الإنسانية ومقدراتها، المستعبد للشعوب، والمحتل للأمم، الذي يسعى لتحقيق نزواته ورغباته، أما العاهرة، فهي الصهيونية العالمية التي تزين للتاريخ العدوان والاستبداد والظلم. وأما الجارية، فهي رمز للمتخاذلين من العرب الذين باعوا أنفسهم للأعداء، فأصبحوا عبيداً لهم، تقول:

“يتوسد التاريخ زند عاهرة ويسأل وردها الأنام، ينام التاريخ في مهد الوداعة، والجارية تعد له كأس الخروب، مزيناً بريش الطاووس وبيض اليمام …”.

ومن بين التقنيات التعبيرية التي استعارتها الكاتبة للتعبير عن مقاصدها مضامينها الفكرية، وتجاربها الذاتية وسائل الفن القصصي من أسلوب السرد المتدفق، والجمل القصيرة والمشاهد واللقطات الحية النابضة بالحياة والرموز الموحية، اللغة الموحية الشعرية المضمّخة بالعاطفة الصادقة الجياشة والإيقاع النغمي المنشود التوازن الموسيقي، القوافي الداخلية. إلى جانب توظيف تقنية الحوار الخارجي. تقول الأدبية مستثمرة أسلوب السرد:

” … وقف التاريخ جانب القبر، بيده مسبحة جدي سرقها من جيب أبي يوم الدفن، وكنا مشغولين بالحزن والبكاء. وقف يقرع حباتها أجراس تحدٍ، “ها نحن عدنا”، لكنما أبي صنع نصف التاريخ ، وشيد لك أبراج حمائمه، وشجر زيتونه وكرمته، وصاغ خمائل عاطفته والكبرياء، وأوسع للشمس درباً نحو مرابض الخيل، وحمى الكنيسة قرب بيتنا في عهدٍ سادت به وثنية القلوب، وصار الدين هدم الجوامع والكنائس. أبي أراد للتاريخ وجهاً نقياً، ويداً طاهرة لا تسرق مسابح الأتقياء، ولا تداهن في زيارة المقابر، وجها لا يُدخل رأسه في الإناء الضيق حيث ينكسر الإناء، ويبقي الطوق عالقاً حول عنقه للأبد.

تتكشف في هذا المقتطف من المقال المعاني الكامنة وراء العنوان، وهنا يتمكن المتلقي من إدراك المقصود بدال”الأب”، ويتبين له أن هذا الأب هو الإنسان الأمين المحافظ على التراث ومعطياته وإنجازاته الحضارية، ويتضح له كذلك السارق الحقيقي لتراث الأمة، إنه عدو الأمة وناهب خيراتها إنه الاستعمار وقواه المهيمنة، ويكتشف كذلك المقصود بـ”المسابح”، وهي لفظة دالة على مكتسبات الحضارة الإنسانية”، ويتجلى معنى آخر خفي يستكين تحت طبقات المعنى الظاهر، ألا وهو “أن الأب لا يسرق”، وإنما يحافظ على القيم الإنسانية الحضارية، ويعطى للحضارة إنجازات خالدة، ويحمل القيم الإنسانية للآخرين، في الوقت الذي انتهكت هذه القيم أيام الحضارة الغربية الزائفة، وهنا تستدعي الأديبة من التاريخ المعاصر موقفاً من مواقف الغرب المخزية التي تسري فيها روح التعصب والحقد والكراهية للحضارة الإنسانية، إنها تذكر المتلقي اليقظ بموقف” الجنرال “غورو” عندما دخل دمشق منتصراً بعد معركة ميسلون الشهيرة، زار قبر صلاح الدين الأيوبي وقال مخاطباً: “ها قد عدنا يا صلاح الدين!”

إن الأديبة تريد أن تقول لكل متلقٍ واعٍ وبطريق موح غير مباشر بعيدا عن المباشرة والتقريرية: ها هم قد عادوا.. وليتك يا صلاح الدين تعود!!..عادوا بعد أن ابتعدنا عن قيم ديننا وأخلاقياته، كان حريّاً بابتسامتك أن تضيء لنا الطريق، ولكننا أضعنا ببساطة ما أنجزته من انتصارات، فسالت دماؤنا، وعلت صيحاتنا، وتغوّل علينا الأعداء، وبتنا كالأيتام على موائد اللئام، وقد أعيانا الضعف، ونال منا الوهن، فبلغت دموعنا فيضها، وخشعت قلوبنا حزنا لفراقك..طبتَ حياَ.. وطبت ميْتا يا صلاح الدين ، ما زالت راية الإسلام موجودة تنتظر أن نرفعها معاً كما رفعتَها، فيعود العز لنا، ويبقى الأقصى شامخاً عزيزاً فخورا بنا.

وفي موضع آخر ترسم الأديبة بأسلوبها السردي مشهداً للقضية الفلسطينية التي هي بؤرة الصراع العربي الصهيوني مجسدة في غادة عربية قد استباح الأعداء شرفها أما أعين أهلها من العرب والمسلمين:

نامت فلسطين عارية. شقوا ثوب عرسها، وقد ضاق عن نهود خيراتها، ولا زالت أكف الليالي تحوك بمخالب سطوها، والنار تشهق في لجام قهرها .وفلسطين عارية لم تنم.. تسأل التاريخ أين وشحاها؟؟؟

وتمثلت الروح القصصية أيضاً في الحوار الدرامي الذي شاع في جسد النص الأدبي فقد بدأت به مقالها، وجاء بصيغة المخاطب، فهي تنحت من خيالها قارئاً مجهولاً أو متلقيا قريباً توجه إليه خطابها، أو تتوجه إلى الإنسان العربي في هذا العصر، وهذا الأسلوب يضفي على الكتابة جواً من الحيوية والحياة، ويمنح النص امتداداً وشمولاً وعمقاً، إنها تناجي الحبيب متخذة منه رمزا للصحوة العربية والربيع العربي قبل أن تهب نسماته على هذه الأمة:

“… نم يا حبيبي، لن تدخل الشمس كهفنا، ولن تسمح العناكب بعبور الخيل إلى شط العرب…”،

ولا بد للمتلقي أن يقف عند لغة المقال: المعجم اللغوي، والتراكيب والصور والحقول الدلالية، فالمتلقي يلحظ أن المقال كتب بلغة شعرية فيها الإيحاء والرمز واستخدام اللوحات الشعرية التي أسهمت أدوات البيان في رسم ملامحها وخطوطها وألوانها، وفيها تكثيف العبارة وتوترها، وشحنها بطاقات انفعالية، تقول في الفقرة الآتية من مقالها:

“… لن يورق قلبكَ بالهذيان حلم النقاهة في صحوة الخاطر من شجع التنكر. انهضْ إلى مرتع الشمس. عانقني خصر سنبلة في يد الحصاد.. ضمني زنبقة برية قي كف راعٍ، مقياس اللون عنده جلد الشياه.

تنغرس السنبلة قي شفاه الزنبق. تتكاثر آهات الضياع، وفراشات التمني. لا تلمني إن خلعتُ البُرد عني، جسدي تشقق تحت قناطر الحرمان، والريح ذئاب الجهات.. أبراجك بعيدة بعيدة لا تلامس وهني، وقوس قزح يموت ويحيا ما بين بريق عيني ورفيف جفني.

أصادح الطير في المساء، وأسقط في إغماءة الضوء مع بوح الضياء… الصدى الرادع بُحَّ في الهباء، فعلام نشدّ الأزر بالوهم والأصداء…؟!”.

ينفتح النص السابق على لغة شعرية موحية، وبوح وجداني شفيف، إنها تعيد المتلقي إلى لغة المدرسة الرومانسية العربية، من أمثال جبران خليل جبران، وفدوى طوقان، تلك اللغة الموحية الهامسة المكتزة بالعواطف الإنسانية السامية، ففيها الألفاظ المنتخبة المنتقاة، والألفاظ المأنوسة التي تتسم بالبساطة والرشاقة والرقة والتي تشعّ دلالات واسعة من المعاني والمضامين المتعلقة بالفكرة والسياق، فيلحظ المتلقي أيضاً الجمل والعبارات المكثفة التي تغدو بمثابة كلمات جامعة، وعبارات مأثورة تصلح أن تكتب على لوحات وتعلق في الميادين والساحات:

“وحده الداء يورث العدوى”

“لا نقبل بالواقع الهشيم”.

“إنما النور يقطف بالتحدي واكتساب المعالي”

” لا نقايض عبق الروح النقي باللجين أو النضار”

إن مثل هذه الكلمات الجامعة لم تأت منفصلة متفردة بذاتها أو منعزلة عن السياق؛ وإنما جاءت منسجمة متلاحمة مع أخواتها العبارات الأخرى، وكأنها نسيج متكامل تأخذ الواحدة برقاب الأخرى. إنك تلمح فيها كذلك الصدق الفني في تصوير الواقع الموضوعي، إذ تمكنت من تجسيد ذلك الواقع تجسيداً فنياً صادقاً ومؤثراً.

وينساب من المقال لحن عذب شجي يذكر بعودة الغنائية العربية، إذ تتدفق عباراته في رقة وغنائية وعذوبة، مستثمرة في ذلك القيم النغمية المنبعثة من التكرار النغمي من بعض الألفاظ، إلى جانب أن الأديبة قد مالت في بناء تراكيبها إلى التوازن الموسيقي الذي يمنح الأسلوب قيماً نغمية مؤثرة.

إن شيوع روح الشعر في المقال – ألفاظاً وتراكيب وصوراّ فنية – أمر طبعي ومنطقي ، فمبدعة المقال شاعرة، والشاعرة إن أبدعت مقالاً نثرياً يستحيل أن تتخلى عن أدواتها ووسائلها الفنية من لغة شعرية وخيال مجنح وصورة موحية، فكلماتها وتعابيرها يدركها القارئ العادي، وإن غمض عليه بعض تلك التعابير والكلمات، فإنه بلا شك سيقع تحت تأثيرها العاطفي وسحرها الوجداني، ويتمتع بنعومتها وخيالها الخلاب، إنها حقا “من السهل الممتنع الذي تسهل قراءته، وتسهل الإحاطة به، وبلوغ أسراره البعيدة”.

وهذه هي رسالة الفن الراقي، إنها رسالة تطمح إلى الارتقاء بالقارئ العادي، وتسمو به عالياً إلى المعاني الإنسانية الرفيعة، لا أن يهبط الأدب إلى مستوى العامة والأفراد العاديين، وهنا يحق لنا أن نتذكر مقولة أبي تمام الشهيرة حين قيل له:

“لِمَ تقول ما لا يفهم؟ “.

أجاب:” ولِمَ لا تفهمون ما أقول؟ّ”.

إن رسالة الأديب الحقة تتجسد في هذه العبارات في تناوله قضايا واقعه وهمومه؛ بقصد وصف هذا الواقع وتحليله وتعريته تعرية تكشف مساوئه، انطلاقاً من التزام واضح للأديب بقضايا أمته وعصره ومسئوليته تجاه عصره وواقعه بغية التبصير والتحذير.

وأخيراً، فإن ما حسبتُ أنه قراءة في كتاب الأديبة وداد الأيوبي ليس إلا مفاتيح قراءات أخرى آملُ أن تدْرُس جوانب أغفلتُها.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *