«كان غداً» لهلال شومان
«كان غداً» لهلال شومان: السردُ كإنذارِ أخير
حسن نصّور
«كان غداً» للروائي اللبناني هلال شومان (مواليد 1982) هو إصداره الرابع. نتحدّث، هنا، عن تجربة في الكتابة صار يمكن للقارئ أن يرى إليها من وجه كونها مسارا «متصاعدا» ومن جهة الانتباه إلى سمات خاصة في السرد وفي تركيب الشخوص من ضمن المبنى الروائيّ العام على نحو يسمح بتقرير التفاوتات والفروق بين عمل وآخر. نقول إن إصدار شومان الثالث «ليمبو بيروت»(2013، تُرجم مؤخرا إلى الإنكليزية) هو عمل لا يمكن إغفال تأثيراته عند الحديث عن تجربة شومان ككلّ، لا سيما بعد قراءة نصّ شومان الرابع هذا. على أن تأثيرات الليمبو ليست ظاهرة على السطوح السردية كما أنها لا توحي للمتلقي بسمة الطغيان على مقاطع العمل الرابع بل يمكن القول إن حدوسات في المزاج السردي أو في ما يتصل بمصائر الشخوص تظل مشدودة، بقدرٍ، بعضها إلى بعض بين العملين.
في الشكل ينجز شومان هيكله السرديّ الجديد فيما يشبه الإقدام على مخاطرة. ونعني عدم تقسيم نصّه الطويل نسبيا (381 صفحة) إلى أقسام معنونةٍ ومنفصلة على نحو تام كما يحدث عادة. بل إن البناء الروائيّ بمجمله هو عبارة عن مقاطع بعناوين تتصل مباشرة بما يجري الكلام عنه. هذا التقسيم يراد له، بحدودٍ، أن يلائم المغزى العام من طرائق شومان المعروفة في بناء نبره السرديّ. نبر تستثمر فيه كميات كبيرة من الهوامش أو الحكائيات أو الأحداث المروية والمأخوذة من غير وسيلة، التي تبدو قبل استثمارها مطروحة على نحو عشوائيّ في خطاب المدينة الظاهر والباطن، إلى أن تجدَ نفسها توازي في النسيج السرديّ أو فيما تبثه الشخوص الرئيسة، على وتيرةٍ واحدة من الزخم في تفعيل النصّ.
ضمان السرد
يقيم صاحب نابوليتانا (2010) شخوصه وكأنها توحي بأنها تتوالد من هذه المقاطع السردية / الأخبار/ الأحداث. أو كأنها تخرج منها ومن ثم تتأسّس بالانفصال النسبيّ عنها لا عن مزاجاتها العامة. شخوص يبرع شومان في إفراغ محمولاتها النفسية سرديا وفي جعلها تتوزان في تصاعدها ضمن السرد نحو ما يفترض أن ترسو القصصُ عليه. وإلى ذلك فإنّ العنوان «كان غدا» يحيل على فكرة التلاعب بزمان الحدث، أو هو الماضي البئيس الذي سوف يظلّ يتكرر في المقبل من السنين إنما على نحو أكثر بؤسا كأننا ندور في حلقة مفرغة. إنه العنوان الذي يعكس أيضا قلق العلاقات اليومية / العاطفية التي تنهش شخوص شومان (خالد/ سهى) التي تبدو، في كلّ منها شخوصا، عالقة في دوامة حدث ذاتيّ من الماضي. حدث يعيد تشكيل أو التأثير الجذري في مسار الراهن الشخصيّ.
تحضر الحرب الأهلية اللبنانية في هذا العمل من خلال قصة ضرغام الذي يبحث عن زوجته التي فقدت خلال الحرب. على أن ثيمة الحرب، على شياعها واتصالها بمجمل السرد، تبدو جوهرية، لا من حضور فكرة الحرب الأهلية ذاتها بل من جهة أسلوب شومان في بناء شخصية ضرغام براهنيتها وغموضها وكيفية تدوير كلامها أمام الجار/ المهتم «خالد». شخصية وإن كانت في الظاهر تحيل على اليأس والعجز والسكون في مواجهة الحاضر المؤسَّس على ماض مؤلم، فإنها تحيل، على نحو كأنه «ثاقب»، وتحديدا بعد الطريقة التي تكشف فيها قصة جانيت المفقودة، على فكرة أن سردَ وحكيَ ضرغام هو حاجة ذاتية لا تنشدُ الكشف أو الوصول إلى مكان أو جواب محدّد بالضرورة، وتاليا فإن السرد والكلام وبناء المرويات وإحياءها بثراء هي خبرة وحاجة وعزاء نفسيّ بحد ذاته في مثل هذه الحال.
هياكل الكتابة
لا نعرف على وجه التحديد الآلية العامة في تأسيس شومان هياكله، كتابةً، وآلية أعماله التفصيلية لتدخيل وإنجاز الشخوص في أطرها. ولكن يتضح من هذا النمط في تأسيس المقاطع والدقة في الانتقال بين الشخوص أن أشغالا حثيثة ومتأنية تجري في ما خصّ بناء السياق النفسيّ/ السردي للشخوص. نتحدث، مثلا، عن أحداث غرائبية تجري في بيروت. أحداث متصلة بشكل أساسي بثيمة الموت. ولكن الموت في هذا النص ليس «الموت» الطبيعي التقليدي الذي لطالما أقامتنا في مزاجاته هذه المدينة. إنما هو موت غرائبيّ وكارثيّ يريد له شومان أن يحيل على مستويات من الحاضر أو من الماضي المتاخم للحاضر، لم تعد تجدي فيها مع هذه المدينة حتى الإدانة أو الرغبة بالإدانة. موت متوقَّع وغير متوقّع في آن مها كأنّ الواقع صار ميتا/ حيا وثريا على نحو خصوصيّ بمثل هذه الأحداث الغرائبيّة «الإنذاريّة» التي تذكرنا بأنماط غرائبية فائقة الدلالة في أحداث بعض الروايات المصرية الصادرة في السنين الأخيرة، («استخدام الحياة» لأحمد ناجي مثالا لا حصرا).
«ما إن يعبر هذا الخاطر عقلي، حتى أنتبه للافتة إعلانية قربي، وأجد لوغو شركتي مكتوبا في زاويتها السفلية: ليوناردو. أتفقد اللافتات وراءها فأجدها كلها لافتات من شركتي أشعر بالضياع وتستولي عليّ الغرابة. أسمع صوت ريح آتية، فأفرح أني استعدتُ حاسّة السمع. ثم مع اقتراب الريح تستحيل الرؤية سوداء. أضع وجهي بين يدي وأغمض عينيّ. أفعل ذلك من دون الشعور بوجهي يلمس يديّ ومن دون التأكد أني أغمضت عيني. أخمن أني فعلت. وعندما أفتحهما أجدني واقفة حيث كنت لم أتزحزح وأرى الريح السوداء تقتلع السيارات من أمكنتها وتلقيها في البحر(…) أفهم ما يحدث ما إن تقترب الانفجارات مني. الصراصير تخرج من اللافتات الإعلانية. وتقفز على الزفت وهناك تبيض وتفقس وتتكاثر. في البداية أكتفي بالانتظار ثم أسمع نبضان قلبي يتعاظم. أتأكد من الطريقة التي تمشي بها الصراصير إنها تتجه نحوي(…)» ص (106)
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-12-07 على الصفحة رقم 10 – ثقافة