قراءة في رواية الأرض المحروقة
المكان/ الموت ثنائية الركود الحركة
د. خديجة شهاب([1])
ندخل إلى الرِّواية بخطى هادئةٍ، واثقة من أنَّنا سنضعُ أقدامَنا على أرض صلبة هانئة، وسنعثر على حياة مستقرة لأهلهاعلى الرَّغم من العنوان الملتهب الذي يوحي بألف حكاية وحكاية.
نطأ عتبتها في بداية شهر الصّيف كما يقول الرّاوي، شهر الرّاحة والهدوء والاستجمام، فنقف مع العائلة على مكان راكد يتحرك رويدًا رويدًا باتجاه الاستقرار والأمان ولا يعكّر صفوه أي حادث. تطمئن العائلة في ظلاله إلى الأيام القادمة المليئة بالفرح والسرور، هذا ما يفصح عنه إذ يقول: “كان شقيقي صابر يجلس في طرف الحديقة، بالقرب من البركة ويشرب الشاي، بينما كانت شقيقتي مينا تُمسك أنبوب الماء البلاستيكيِّ وتسقي الورود الأطلسية التي عبق أريجُها في أرجاء الدّار…حينها سمعْتُ صوت أمّي من داخل الرِّواق يناديني: هل تشربُ الشّاي؟ اسكبي لي فنجانًا يا أمّي” ([2]) . فشُرْب الشاي، وسقي أشجارِ الحديقة، والهواء الرّطب، تغريد الأطيار، حوض الماء… مفردات” تكشف لنا عن الحالة الشعورية التي تعيشها”([3]) الشخصيات في الرِّواية، كما تبين لنا الرُّكود والاسترخاء اللذين يخيمان على المنزل والعائلة معًا.
في هذا السياق تصبح الأسماءُ والأماكنُ ذاتَ دلالاتٍ على أنّ كلّ شيء يشي باندماجها بالأشخاص الذين يعيشون فيها، يحملون صفاتها، وهي ( أي الأمكنة) تلك التفاصيل الصغيرة في حياتنا اليومية، وروابط الصلة التي تنشأ بين أبنائها وأهلها، هي مكتنزة بالزمن وبعلاقات القربى مع الأشياء والإنسان، ترواده عن نفسه فيأتيها صاغرًا طائعًا، إذ لا انفصام في الرّواية بين الزمان والمكان.
حين نتوغل أكثر في جسد الرواية يستحيل علينا العثور على مكانٍ راكد هادئ، ذلك أنّها تؤرخ للحرب العراقية الإيرانية، وقد اشتعلت الجبهات، والتهبت الحدود بدءًا من (خوزستان) مدينة النفط والمال، مرورًا ب(كمبلو) وصولا إلى(خرم شهر)، وتعرّج في طريقها على كلّ القرى والمدن والأحياء والشوارع، والأزقة الداخلية لهذه الحدود، إذ” الظاهر أنّ أمورًا تحدث هناك عند الحدود”([4])، تستطيع هذه العبارة أن تغيّر مجرى الأحداث في الرواية وتنقلنا من مكانٍ هادىء راكد، مليء بالحياة والناس، إلى مكان صاخب يعج بالحركة التي تؤدي إلى مكان واحد، وهو الموت.
يتحول المكان عن وجهته، فلم يعد مكانًا فارغًا مجرّدًا من الإحساس، بل أصبح المكان الحِسيّ الذي ينمو في وعينا السياسي، والذي ندركه بالتَّماس مع حُبيبات تراب بنكهة الكرامة، ومع رائحة أرض بعبير الموت.
يحلل أهلُ المكانِ الأسبابَ التي أدت إلى هذا التَّحولِ الذي حصل على الحدود، فيؤكد الجميعُ أنّ الغايةَ الرَّئيسةَ له هو القضاءُ على ثورة الإمام الخميني الذي نَقل إيران من دولة تابعة مستنزَفةِ، إلى دولة منافسِة على المستوياتِ كافة، أضف إلى أنّها( أي الثورة) لم تكن تحظى بتأييد عالمي، وهي بالتالي إن استمرت وترسخت ستشكل خطرًا على الدول التي تمسك بزمام الأمور العالمية؛ لذا قررت ألا تخوض الحرب بنفسها ودفعت باتجاه أن يتقاتل الشعبان العراقيُّ والإيرانيُّ.
يجد القارئ في الرواية “إنسانًا وإنسانًا يتصارعان فوق الأرض، ذلك المكان القابع في ذواتنا ولعله تلك الرّوح التي لا نستغني عنها”([5])، إذ إنِّنا نحسبه الجذوة الأولى في شعلة الذَّاكرة التَّواقة إلى الانفلات من عقالها، والتحرّر من كل ما يكبِّل نشاطها “النساء، الأولاد، الذكور، الإناث، كلّهم يجوبون الأزقة زقاقًا زقاقًا، ومنزلاً منزلاً، يجمعون الأكياس الفارغة رزمًا رزمًا… والشبان المتحمسون يتولون تعبئتها وهم يتصببون عرقًا”([6]). نعثر على الشعب وهو يناضل ضد الاضطهاد السياسي، العسكري، الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي والدِّيني، ما يعني أنّه يحاول” إعادة إنتاج التراث الوطني من خلال الحاضر، وتحديد إطار المستقبل”([7])، فتتحول الأزقّة والمنازل والشوارع إلى متاريسَ تحمي سكّانَّها وقاطنيها من الأذى، فنعرف عندها أنه حين” يتعامل قول النص مع الأشخاص ومع عالم الحياة، إنَّما يحملنا على أن نرى إلى الموقع على أساس من قدرته على الانفتاح”([8])، عندها تكشف لنا أفعال الناس مدى اتساع المنظور المتخيل.
في المكان نستطيع أن نتحرك، ولكن هذه المرّة باتجاه مغاير للحركة المعتادة، إننا نتجه بتحركنا نحو العدم، والسقوط في براثن القلق، والخوف، ومن ثَمَّ الموت والرَّحيل عن المكان الذي شهد لعبَنا وفرحَنا وحياتَنا، وسجَّل بالوقائع والأحداث نمونا، وأعاد شريط الذاكرة المليئة بالمشاهد التي تربطنا بعاطفة جياشة إليه ” ففي هذه الأيام أرخى الموت ظلاله على جميع الأمكنة. تصور أنّني لا أستطيع أن أطلب إلى عامل البريد نقل الرسائل الإدارية خوفًا من أن يُقتل…. إن أصابه سوء لا سمح الله، سأخبئ وجهي خجلاً من زوجته وأولاده طوال العمر”([9]).
إنّ المكانَ اللفظي من حيث هو طاقة ٌ يمكنه أن ينقل المكان إلى حيث يصبح مكانًا مرجعيًا متخيلاً ورقيًا ينهض على رؤى ثلاث هي:( رؤية القاص، ورؤية الشخصية، ورؤية القارئ)، وهو إذ ذاك “ينقل القارئ من عالمه الواقعي إلى عالم الرواية المتخيل فيقيم علاقة تعارف مع جميع مكونات الرواية”([10])، ” فجأة هزّنا دفعة واحدة صوت انفجار فانتفض شاهد من مكانه دفعة واحدة وصاح” اقصفوا!… اقتلوا الجميع…”([11])، قدّم لنا هذا المكان ساكنيه تقديمًا مميزًا فعلى لسان شاهد نتبين ما يعانونه على المستوى النفسي، وأصبح من السهل علينا أن نحدد موقفهم من الحرب التي فُرضت عليهم؛ وبالتالي علاقتهم بها.
ما بين العتبة والنهاية نصل إلى أنَّ” للمجتمعات من القِيم والمفاهيم زمن السِّلم غير ما لها زمن الحرب إذ لا استقامة ولا استقرار”([12]) عندها يتحول المجتمع بأكمله إلى مجتمع عسكري، وتنكشف الوجوه عن اللامعقول، الّذي يدفع المواجهة العسكرية إلى أقاصيها عندها “نهاجم العدو ولا نُقهر…. كانت الفتاة ترتدي سروالاً عسكريَّا…، وعلى صدرها من اليمين واليسار حمّالة رصاصٍ”([13]). يتحول الدّفاع عن المكان/ الوطن درسًا في الواجب والوفاء والتّضحية، فحَمْلُ البندقية للدفاع عن مسقط الرأس ومكان السكن لا يقلّ أهمية عن الجلوس على مقاعد الدِّراسة، ذلك أنّ دروس الحياة أبقى وأكثرُ أهمية للإنسان، إذ تدرِّبه على التحمل والصّبر، المؤآزرة والتعاضد.
تتهندس الأماكن في الرِّواية بأشكال وأنواع مختلفة، فيصبح لكل مكان منها مزاجه الخاص، مع ما له من مرجعية واقعية. نعثر على المكان المغلق الّذي يعبِّر عن “العجز، وعدم القدرة على الفعل أو التفاعل مع العالم الخارجي”([14]) وهو يتمثل بغرفة مظلمة داخل أحد المنازل حيث يحتشد فيها أهل الحيِّ احتماءً من القصف المدفعيِّ والصاروخيِّ؛ ومن ثَمّ يتمثّل بالمدينة التي لا تُنْتج إلا الجَلبَة، وإذا هيمن الاستقرار والركود عليها قليلاً ما يلبث أن يعود الوضع إلى الانفجار ثانية، وإنْ “خيّم الهدوء على مدينة الأهواز، لكن بين الفينة والأخرى كان يُسمع صوت انفجار القنابل وغالبًا ما تُقصف نواحي المدينة” ([15]) الأمر الذي يدفعنا إلى التفكير جدّيًّا في الانتقال منها إلى مكان أكثر أمنًا وأمانًا “فالمنزلُ والأثاثُ إلى الجحيم … هيا بنا لأوصلكم إلى مكان آمن…”([16]) . في رحلة الانتقال هذه نلمس تحولًّا في شخصيات الرواية ” ذلك أنّ تلك الرحلةَ مستمدةٌ من أسطورة البحث”([17]) عن مكان أكثر هدوءًا، وأقل عنفًا، “إنّما يا أخي إلى أيِّ حدٍّ يمكن أن يتحمّل الإنسان الذل والتشرّد؟ ثمَّ تُسرِّع بالسرد … مبتدئة من حادثة “مش ابرام” الذي أُصيب بسكتة قلبية, ومنتهية بقصّة” كاظم حاج علي” الذي ارتفع ضغط دمه في أحد الأيام، وما إن وُضع في سيارة الجيب التَّابعة للمخيم …. حتى قضى نحبه”([18])، يرى هؤلاء الأشخاص أن الالتصاقَ بمكان السكن والإقامة حياةٌ، والبعدَ عنه غربةٌ لا بل مذلٌة وهوانٌ، حتّى وإن كنتَ لا تزال داخل حدود الوطن، ما سيؤدي في مرحلة لاحقة إلى الموت المؤكّد، تُفصح ألفاظُهم “عن وصفٍ واعٍ للمكان بعامة، ولجزئياته بخاصة، وقد تدرّج في إيراد الأجزاء من الرؤية المباشرة، مرورًا بملكاته الدّاخلية، وتأثير التقاطها لنطاق المشهد العام فيها”([19]) ما يشلهم عن الحركة، ويقعدهم عن العمل، فيتجرعون الغصة تلو الغصّة.
نقف في طريقنا عند المكان المفتوح، الذي يتمثل بساحة المحاكمة زمن الحرب ما يشير إلى أنّ الفضاء” الزماني والمكاني يترابطان ويشكلان أحيانًا فضاءً مميزًا ينعكس على طبائع الشخوص الذين يحتويهم، فتبرز لهم سمات مرتبطة بخصوصية ذلك الفضاء”([20])، الأمر الّذي يمنحه وجوده الحسي المتغلغل في نسيج تكوين الناس أنفسهم ” تُبْعِدُ ” أم باران” الناس عن طريقها وتتقدَّم إلى الأمام ثمّ تقف وجهًا لوجه أمام” أحمد فري” و”يوسف بيعار” وتقول:- نحن سنحاكمكم! يسكت الجميع فجأةً، كأنّهم لم يصدقوا كلامها!… وها هي “أم باران” تعلن بدء المحاكمة. تسمّر الجميع في أماكنهم وسيطر الوجوم عليهم، وكأن الخوف، أرخى سدوله على وجوههم”([21]) يتحول المكان هنا إلى ساحة لمحاكمة السارقين، والذين خانوا الوطن، تَغيب الدّولة فيُحاكِم الناس بعضهم، وقد سادت الفوضى جراء الحرب الطاحنة، حيث طَحنتِ القيمَ والأخلاقَ، هيمن الفساد وعمّت الفوضى. يمارس الناس العدالة حسب زعمهم، وهذا مصير كل من تُسوِّل له نفسه سرقة أموالهم والاعتداء على ممتلكاتهم.
تختلف تجليات المكان بحسب الزَّمن الذي يرتبط به، فنصل إلى المكان المتوحش” الذي يضرب على الحرية القيود، ويقضي على النِّظام بالفوضى والتَّشويه، وينتهك حرمة القانون انتهاكًا، ليكرّس غطرسة القوّة ويُنحِّي عن الكائن البشري إنسانيته ليُخلِص له الحيوان القابع فيه”([22]). يستمد سطوته من ترهل سلطة الدّولة وانعدام وجودها، إنّه لا- دولةٌ، لا- وطنٌ، لا مكانٌ صالحٌ للعيش.
ينفتح المكان على آخر أكثر دموية وعنفًا فما إن يخرج المواطن الخائف من قبوه هربًا من القذيفة التي أصابت سطح منزله حتى يرى جاره وقد أصيب إصابة بالغة، إذ تناثرت شظاياها فوصلت إلى حدود منزله، ولا يجد نفسه إلا وقد احتضن “حميد العاري على المقعد الخلفي ثم جلس إلى جانبه،… وراحت زوجة حميد وابنه يركضان خلفها… لست أدري ما حدث! فقد بدأت تتقاذفني الآف الأنواع من الأفكار والتّصورات، هرولةُ خالد، نظراتُه….كلّ هذا جعلني أتخيل صورة فرخ طار فجأة من القفص”([23]) ، يبدو المكان هنا ” محدد بالزمن الذي تحدده الإشارات، والقرائن تحدد موقعه في عمود التاريخ”([24])، يصير المجتمع خلية عمل لاتهدأ ولا تستكين الكبير والصغير، المتعلم وصاحب المهنة، المرأة والرّجل، السليم والمصاب …كلٌ يتحرك بحسب قدرته لمواجهة الخطر الدّاهم .
نضع يدَنا على “الشارع من حيث هو فضاء اجتماعي وقد أفلس وداهمته الكروب من الدّاخل والخارج معًا، فشحُبتْ هيئته، وغاضتْ نضارته، واعتلَّ جسمُه كلُّه وحطَّ عليه القبح” ([25]) . ألحّت الرواية على غيبة كلّ ما من شأنه أن يُبقي على بقية من إنسانية وعافية كالمدارس والمقاهي والأقبية، والشوارع والمدن والشركات والمحال التجارية.
يربط الراّوي في مكان آخر بين الريح وموج البحر، إذ إنّها تساعد في ارتفاع الموج، وتُحرّك السّكون الذي يسبق ثورته جراء عاصفة ما ” تداخلت الأصوات وبدَتْ كهمهمة المدّ البحري الذي يسبق العاصفة، فتنقبض النفوس. في الوقت ذاته يعلو صوت أحد الأشخاص بقوّة فيتغلب على الصراخ العبثي- وعلى هبوب الرِّيح في حريق جامح – ويسقط كفرخ مصاب بطلق رصاص، ثم يرتطم رأسه بحائط الثكنة”([26])، يحمل هذا المكان هويته الخاصة كفضاءٍ انتقالي، من دون أن يعبأ برياح الاحتراق التي حصلت جراء الحرب التي اندلعت عن حدود الوطن وفي داخله، ويصبح المكان في هذا الإطار” نوعًا من القدر، يمسك بشخصياته وأحداثه، ولا يدع لها إلا هامشًا محدودًا لحرية الحركة”([27]) فتتمحور حول” أماكن مختلفة، في السوق، في المسجد، في الرّدهات، في كلّ مكان يشهد ازدحامًا بشريًّا تنفجر فيه قنابل يدوية”([28]) ولا تميّز بين مكان للاحتماء كالقبو والملجأ، أو مكان للتدوال في الأمور الاجتماعيّة كالشَّارع والسَّاحة والمتجر. وإنْ تطوَرَ الوضعُ يصبح هروبًا إلى أماكن بعيدة عن خطوط التوتر والمواجهة، ولكنه لا يخرج عن إطار المدينة العام.
إن المكان في الروارية ” شديد الارتباط ليس فقط بوجهات النظر، والأحداث والشَّخصيات ولكن أيضًا بزمن القصة وبطائفة من القضايا الأسلوبيّة والسيكولوجيّة والتيماطيقية”([29]) ، هو بكل بساطة شبكة من العلاقات والرؤى المتضامنة في ما بينها لتقديم المشهد ممزوجًا بشئ من طبائعهم” ونعوش شهدائنا الممتدة من أطراف مزارع” سوسنكرد” المحروقة مرورًا ب” دب حردان” و”دار خوين” وفي واحات النخل المحروقة وفي مدينة” خونين شهر” وعلى أطراف” نهر كارون” و”بهمنشير” و “خسروا أباد” … وأبعد منذلك في مرتفعات ” كنجان جم” و”مهران” و”سومار”…… وفي كل مكان”([30]) اتسمت الرواية بنقل معاناة الناس في ظل الحرب الهمجية التي حصدت كل شئ البشر والحجر، الإنسان والآلة واستطاعت أن تضع يدها على مفاصل الركود والحركة في أحياء المدينة وشوارعها وأزقتها الدّاخلية، وبَيَّن الأماكن المتعددة التي طالتها الحرب أعلى، أسفل/ المرتفع، المنخفض/ اليمين، اليسار/ الشرق، الغرب/ شمال، جنوب ، وأمّا أهل هذه المدينة، نجدهم وهم يمارسون العمالة / المقاومة، الخيانة / الوفاء، البغض/ الحب، غدر/ أخلاص، الضحك/ البكاء، الفرح / الحزن، الخوف / الأمان، الموت/ الولادة، التشرد عن أرض الوطن / البقاء فيه.
يرسم الكاتب العلاقات الإنسانية بالاستناد إلى واقع فرضه العدوان على هذه الأرض،” وقعت عيني على” رضا جيب بر” الذي اندفع وسط السّاحة كالسهم، وفرَّ مسرعًا باتجاه شارع اللجنة ثم لحق به زبائن” كل شعبان”….، أمّا “يوسف بيعار” الضخم البنية، فقبل أن يتحرك وقع في الفخ دون أي ردة فعل منه”([31]) فأمارات الخوف شديدة الوضوح قدمتها تحركات أهل الحيّ والجناة، وتمثلت في الركض والإمساك بأحدهم، والاستسلام، خفّة الحركة، التواري عن الأنظار، وهكذا يبدو لنا أن بناء المكان في الرواية جاء منسجمًا مع طبائع الشخصيات ومزاجها، والتأثير المتبادل بين الشخصية والمكان الذي تعيش فيه.
تجيب الرواية عن وظيفة الأماكن الكثيرة التي تذكرها، ويصبح لكل واحد منها دلالة معينة، فهي إمّا أماكن رئيسة بالنّسبة إلى المواطن والوطن، وإمّا مراكز حيوية للعمل والنشاط. وأيّا يكن المكان فإنّه يدّل على الخوف القادم، والدمار الشامل، والقتل الدائم وزهق الأرواح من غير رادعٍ أو وازعٍ، وما هو آمن الآن يصير مصدرًا للخوف بعد لحظات.
وما بين مكان مغلقٍ وآخرَ مفتوحٍ، وثالثٍ متوحش ورابعٍ معادٍ، ينبني الفضاء الروائي الدّال على أن الإنسان ملحُ الأرض يذوب فيها، ليتذوق طعم الكرامة والإباء، ويحترق لتحيا وتبقى محفوظة ومصانة كمكان لائق للسكن والإقامة والعيش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – دكتوره في الجامعة اللبنانية – الفرع الخامس
[2] – أحمد، محمود – الأرض المحروقة – دار المعارف الحكمية – بيروت لبان – ط أولى سنة 2017م- ص 23.
[3] – حسن، بحراوي- بنية الشكل الروائي ( الفضاء- الزّمن – الشخصي) المركز الثقافي العربي – بيروت – لبنان –ط أولى- سنة 1990م, ص 30.
[4] – أحمد، محمود – الرواية …. ص24
[5] – خديجة، شهاب – الأرض/ الوطن ثنائية الهدم البناء – مجلة الحداثة- بيروت – لبنان- السنة الرابعة والعشرون الأعداد 183-184 ربيع 2017- ص225.
[6] – أحمد، محمود- الرواية – ص48 .
[7] – فايز، رشيد- ثقافة المقاومة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت – لبنان- ط أولى 2003م – ص96.
[8] – يمنى، العيد- الراوي الموقع والشكل – مؤسسة الأبحاث العربية – بيروت – لبنان – ط أولى 1986م- ص32.
[9] – أحمد، محمود- الرواية- ص185.
[10] – علي مهدي، زيتون- النص من سلطة المجتمع إلى سلطة المتلقي – حركة الريف الثقافية – بيروت – لبنان – ط ثانية – 2010م- ص78.
-[11] أحمد، محمود- الرواية – ص 182.
[12] – عبد الصمد، زايد – المكان في الرواية العربية الصورة والدلالة- كلّية الآداب منويه – دار محمد علي – تونس – ط أولى -2003م، ص 160.
[13] – أحمد، محمود- الرواية . ص278.
[14] – سيزا، القاسم – بناء الرواية – دار التنوير للطباعة والنشر – بيروت – لبنان- ط أولى -1985م، ص 102.
-[15] أحمد، محمود – الرواية .- ص209.
[16] – م، ن ص 224.
[17] – سيزا القاسم – بناء الرواية – م، س- ص102.
[18] – أحمد، محمود – الرواية – ص 291.
[19] – علي أحمد، الأحمد – جماليات المكان في شعر محمد كامل شعيب – دار الحداثة للطباعة والنشر- بيروت – لبنان – ط أولى – 2016م- ص105.
[20] – عبد الحميد، المحادين- التقنيات السردية في روايات عبد الرحمن منيف – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – لبنان- ط أولى -1999م- ص 89.
[21] – أحمد، محمود – الرواية – ص 231.
[22] – عبد الصمد، زايد – المكان في الرواية العربية………- م، س- ص159.
[23] – أحمد، محمود – الرّواية – ص 168.
[24] – عبد الحميد، المحادين – التقنيات السردية .. م، س – ص136.
[25] -عبد الصمد، زايد- المكان في الرواية العربية – م، س – ص19.
[26] – أحمد، محمود – الرّواية ص51.
[27] – غالب، هلسا- الرواية العربية واقع وآفاق – دار ابن رشد للطباعة والنشر- بيروت- لبنان – ط أولى 1981م، ص 212.
[28] – أحمد، محمود- الرواية – ص198.
[29] – حسن ، بحراوي- م، س- ص32.
[30] – أحمد، محمود- الرواية – ص304.
[31] – أحمد، محمود – الرواية –ص325.