قراءة في “أحبها ….ولكن”
قراءة في “أحبها ….ولكن” لمها خير بك ناصر
المرأة والوطن وإفرازات الحرب
د. خديجة شهاب
تبني الكاتبة عملهاعلى مداميك قوية متينة، يشد أزرها صلات الألفة والمحبة والترابط والتراحم، ما يشير أن لا انفصام بينها.
في سياق الحب، تسيرالرواية باتجاهات متعددة منه ، وعلى مستويات تتشابك وتتّحد في مكان ما، وتسير بخط عمودي في مكان آخر ، وهي في كل ذلك تريد أن تقول إن الأديان السماوية توحّد وتجمع ولا تفرق، وإنّما البشر في ممارساتهم الخاطئة غيّروا وجه القضية الأسمى والأهم ، ألا وهو الحبّ المتجذر الذي يقود بوصلة الحياة والإيمان.
تسلط الرواية الضوء على مواضيع غاية في الأهمية بالنسبة إلى المرأة والوطن والدين. وهي إذ تتناول إفرازات الحرب الأهلية التي عشناها في منتصف السبعينات ، وقد شرّدت الكثيرين، وقتلت ألالآف وهدمت المنازل والمدن، وشوهت الحضارة الإنسانية والاجتماعية على حد سواء.
تطالعك في بداية الرواية قصة حب لم نعد نعثر على مثيلاتها في الزّمن الحاضر،قصة حبّ مفرطة في المغالاة ، وفي مدح الذات ، حيث تبرز “الأنا” منذ اللحظة الأولى لدخولها، وتعلن الشخصية الرئيسة نفسها، وهي المرأة التي تحبّ الجميع، ولا تكره أحدًا ، ولا يكرهها أحد، وهي الذكية، الجميلة المحبة ، المتفهمة، الودود، الرؤوف التي لا ينقصها شيء، ولا تعاني من شيءعلى المستوى الأخلاقي، تخرج من كونها الأنثى، إلى كونها الإنسان بكل ما تحفل به من خير ومحبة.
تطغى المثالية على العلاقة الزوجية، لدرجة نشعر وكأننا نعيش في مدينة الفارابي الفاضلة، فهي تنقلنا من أرض الواقع إلى عالم الخيال ، تعود بنا إلى عصر عبلة وعنترة، أو قيس وليلى.
تسير خطوط الرواية بأسلوب يعيدنا إلى زمن الستينات، حيث بهتت في هذا الزمن كل العلاقات، وتشظت كل الأحلام، وتصدعت عائلات بأكملها في زمن الحرب، ما يشي إلى أن العقل لا يمكنه أن يقبل الأحداث الجارية، ولا المنطق يستسيغ قيام هذا النوع من العلاقة الزوجية ( الفارابية) إن جازت التسمية.
من خلال أحداث الرواية التي تتوزع محطاتها وحركة أبطالها ، يتكشف لنا ظهور حالات نرجسية، حيث تبرز فيها “الأنا” الأنثى، ( تنبهت القاطنة الجديدة….، غادرت الجميلة….، رددت نور…. عبرت نور….. جلست نور لاحتساء القهوة على شرفتها ….، نهضت بالحب عينه…) تحافظ على نرجسيتها وتحيط بذاتها إحاطة السوار بالمعصم، تريد أن تحميها على مستوى المشاعر من كل ما يمكن أن يثير انفعالاتها، أو مشاعرها، فجميع شخصيات الرواية، بمن فيهم الزوج تسير في فلكها ، لا بل لا تتحرك إلا في إطار تحركاتها، ووفق ما تشتهي وترغب ، ولا أحد يجروء على مغادرة خيمة الأنا المظللة على الجميع حيث يتفياؤون حنانها وعطفها ومحبتها، ومن محاسن الصدف أن القدر لا يعاند.
في خلفية تكاد لا تكون بارزة في الرواية نجدها تسعى إلى إقناع المرأة، بالانسحاب من الحياة العملية، والعودة إلى المنزل ، والتفرغ للاهتمام بالزوج والأولاد، لأن وجودها في المنزل الدائم يُحسب لها، ذلك أنها تساهم في إنشاء أسرة متماسكة منسجمة في ما بينها ، محبة تسعى إلى توطيد الاستقرار على المستوى الوطني ، كون الأسرة هي النواة الأسياسية في مداميك الأوطان المتقدمة والحضارية.
ما يلفتنا في بناء في الرواية ندرة المشاهد الحوارية ، إذ يفرض السرد نفسه وفقًا لطبيعة نقل الأحداث، وقد جاء بلغة قابلة للاسترسال على الرغم من امتداده ، في تقديم الصور التي تتجمع مشاهدها في مخيلة القارئ ليعيش الأحداث وكأنه أحد شخصياتها .
تنبه هذه اللغة القارئ إلى جمال غنى اللغة التي استحضرتها الكاتبة عينات من مفرداتها وهي الخبيرة بها ومن أمثلتها (رضاب، حدب، خِلّة…) وتظهر روح الطيبة والتسامح جلية واضحة حين تعبر عن التواضع والروح الإنسانية ( أنت عظيم يا حبيبي…، ومن هي نور لولا غيث حبك؟…. بالغي يا حبيبتي…. ) ومع كل ذلك ، وحيث إن طبيعة السرد تفرض نفسها، لا نعرف سبب إستبعاد الحدث الرئيس الذي تقوم عليه الرواية ، إلى ما بعد قراءة ما يزيد على مئة وخمس وعشرين صفحة منها ، كما ونلمس الغموض الذي يلف الشخصية الرئيسة فيها ، ولا تظهر إلا في منتصفها.
تسعى الرواية إلى إثبات مساوئ الحرب على المستوى الوطني والإنساني والاجتماعي، وتربط بين الحرب التي دارت رحاها في لبنان وبين الحرب الدائرة في سوريا اليوم ، من خلال إحدى الشخصيات النسائية والتي هي على علاقة وثيقة بها، حيث تبين لنا الدّمار الذي لحق بالحجر والبشر على السواء، وهي هنا تؤكد على أهمية التعلق بالثوابت الوطنية، والمبادئ القومية، ما ينعكس على الأمة العربية بالوحدة والتماسك.
أما على المستوى الإنساني ، تميط الرواية اللثام عن الشخصية الرئيسة التي تتمحور حولها الأحداث ، وهي الفتاة المسيحية التي خُطفت أثناء الحرب، فتَعثر عليها سيدة جليلة فقدت ولديها في الحرب، فتربيها تربية إسلامية ملتزمة، وقد وجدت فيها بديلاً عن الابنة التي قُتلت وأخوها ووالدها جراء قذيفة سقطت عليهم في الطريق.
تهيم هذه السيدة على وجهها جراء هذا الحدث على وجهها، ولا تجد نفسها إلا وقد أصبحت خارج مدينة بيروت ، وفي مكان ما تعثرعلى فتى مسلم تحت ركام إحدى البنايات في منطقة طرابلس، فتقرر تربيتهما معًا، وتحرص عليهما حرصًا شديدًا، وقد وجدت فيهما تعويضَا عن عائلتها التي فقدتها. تخاف عليهما ، تقسو كثيرًا في معاملتهما .ولا نفهم لماذا .
لم تكن علاقة الفتاة بإمها التي ربتها على خير ما يرام ، وهي المرأة المثقفة المناضلة التي وقفت إلى جانب زوجها في تاريخ نضاله السياسي ، وسعت إلى تعليم ولديها لتبعد عنهما شبح الفقر والبطالة.
تبرز هذه الأحداث في الفصول الأخيرة من الرواية، وذلك حين تتعرف الفتاة إلى والدتها المسيحية، وفي لحظة تصبح امرأتين بهويتين وبإسمين، واحدة مسلمة، وأخرى مسيحية ، إذ إنها تحاول تأكيد ما تؤمن به، من أن الأديان توحد ولا تفرق، وتروح تمارس طقوسها الدينية المسيحية إرضاء لولداتها، واعترافًا منها بهويتها الجديدة.
وفي واحد من الأحداث الكثيرة التي تتصدى لها الرواية، نرى الزوج وقد اضطر إلى مغادرة لبنان إلى بلده الأم باكستان ، للمشاركة في مراسم تشييع والده، ويتعرض لحادث سير مروع ، يتشوه جراءه وجهه وتُبتر يده ، ولا يخبر زوجته بما حصل خوفًا عليها وعلى مشاعرها وهي الإنسانة الرقيقة الحساسة المرهفة، يسعى جاهدًا ألا يخدش مشاعرها ، كما أنّه لا يريدها أن تتأزم أو تعاني معاناته، ويغيب عنها سنة كاملة من أجل أن يتعالج، على أمل أن يستعيد ما فقده من جسده.
ينجح على مدى العام، وبمعية الأصدقاء في إخفاء الحقيقة عنها ، وحين يعود ليفاجِىء زوجته بحضوره وفي لحظة باهتة جدًأ ، وهو مختبيء في المطبخ ، وخلال حوار مع أخيها الشقيق يعرف الزوج حقيقة زوجته، وأنها لم تترب مع عائلتها الأساسية وقد التقت بأمها الحقيقة في فترة غيابه. في هذه اللحظة الحرجة، لا يبدو على الزوج أية علامة تعجب أو استهجان أو إندهاش، وفي المقابل لم تبد الزوجة دهشتها وقد وجدت زوجها يقف أمامها وقد غاب عنها لمدة عام ، ولم تبدر منهما أية ردة فعلٍ تشي إلى الغياب الطويل.
تحية طيّبة للقائمين على الموقع
بعد اطّلاعي على نظريّات تُعنى باللغة السرديّة الروائيّة وبما تتضمّنه هذه اللغة من صور ومعانٍ، أرى أنّه من الضروريّ إبراز نظريّات مدعّمة بأمثلة تطبيقيّة تكون خير برهان على ما تفضّلتم به من آراء ومعطيات.
ترون، أوّلاً، أنّ القراءة مرهقة بسبب السرد المطوّل، لكنّكم تغفلون عن أنّ اللغة السرديّة الروائيّة تزخر بأنواع عديدة من السرود، ومن هذه الأنواع السرد المنطقيّ، والسرد الواقعيّ، والسرد التخييليّ.
يستحضر السرد المنطقيّ صورًا جوهريّة للإنسان الذي “يتسلّح بالقيم الإنسانيّة، وإذا فقد هذه القيم، لا يكون إنسانًا (…) الإنسانيّة ممارسة دينيّة وحضاريّة وأخلاقيّة وفكريّة وإبداعيّة” (ص97)، وتقابل هذه الصّورَ الجوهريّة صورٌ عرَضيّة للبطلة “نور” التي طرأ على حياتها تبدّلٌ في الأوضاع المعيشيّة والأحوال الاجتماعيّة؛ غير أنّ هذه الصّورة العرَضيّة لم تبدّل في طبيعتها الحنون والصدوق، وفي ايمانها وتفاؤلها بالحياة.
يحوي السرد الواقعيّ في الرواية على صور عقليّة وفعليّة تنشأ من تراكمات الصّور النفسيّة؛ فالصّور العقليّة التي انطبعت في داخل “جاد” مثلاً، بعد سماعه أخبار الحرب والقتل والتدمير في سوريا، جعلته يبوح لصديقه “عمر” قائلاً: “أعتقد أن سوريا ستعود أفضل مما كانت. الشعب السوريّ شعب عظيم” (ص68). وهذه الصّور العقليّة كانت نتيجة صور فعليّة تركت آثارًا لا تمحى في نفس “عمر” المواطن السوريّ؛ فيقول: “صار الموت في وطننا العربيّ رخيصًا، لأننا ارتضينا أن نكون دمًى في أيدي الأقوياء”. (ص66).
أما السرد التخييليّ الروائيّ فيتمحور حول صور ذاكريّة تقدّم أحاث العام 1966م، وما سبق هذه الأحداث من ذعر ورعب في العام 1982م يوم اقتحم الجنود الإسرائيليّون بيت “بدريّة” أم “نور”، وصولاً إلى أحداث طرابلس في العام 1976م. وهكذا، يكون السرد التخييليّ مكمِّلاً للسرد التاريخي أو الواقعيّ، من وجهة نظر نقديّة، ويوظّفان معًا في الرواية التي تبحث متأمّلةً في ما تخزّنه الشخصيّات في ذاكرتها من صور للحرب.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ السرد المطوّل (على حدّ وصفكم) ينظّم الأحداث والشخصيّات والفضاءات والأزمنة؛ لكونه مكوّنًا محايثًا (يمكث في) للنص الروائيّ بوصفه عرضًا مقنعًا لأحداث جرت أكثر من كونه هادفًا إلى غايات قصصيّة فنّيّة. هذا وأنّكم تعترفون بأنّ السرد يزخر بصور “تتجمّع مشاهدها في مخيّلة القارئ ليعيش الأحداث وكأنّه أحد شخصيّاتها”، وفي اعترافكم هذا برهان على أنّ السرد يحفل بهويّة ذاتيّة تُثري الهويّة الشخصيّة التي يجعل منها الروائيّ هويّة تمثيليّة تحمل معها صورًا موضوعيّة تعكس الحقائق من دون أي تشويه، ليُصار إلى أن يشكّل السرد هويّةً ذهنيّةً.
تُجمعون، ثانيًا، على أنّ الزوج لا تبدو عليه أيّة علامة تعجّب أو استهجان أو اندهاش عندما عرف الحقيقة كاملةً، وأنّ الزوجة لم تُظهر دهشتها لرؤيتها زوجها، غير أنّ القراءة المعمّقة لجمل الرواية تُبرز كلاًّ من الزوجين مهيّأً للقاء، وهذا ما ما يعلّل عدم تضخّم التعابير المدهشة التي تحدّثمتم عنها، والدليل على ذلك ما شعرت به “نور”، وهي تتحدّث مع أخيها قائلةً له: “أتعلم يا أخي أنّني شعرتُ بانفاسه، وشممت رائحة عطره عندما دخلت غرفة الطفل؟هل كان شعوري بالفرح نتيجة ما استحضرته ذاكرة الشمّ من طيب حضوره؟ متى ستعود يا سيّد أيّامي؟” (ص346)
وفي الختام، أتقدّم من القائمين على الموقع ومن الذين قرؤوا رواية “أحبها… ولكن” قراءة أوليّة بفائق التقدير والشكر والاحترام…
د. إيليان مهنّا
نشكر للدكتورة إيليان مهنّا ما تفضلت به من تعليق أفاء ظلاً من رؤيتها النقدية والأدبية، التي نقدّر ونحترم، والتي ولا شك، أنها أغنت بما تملك من حس نقدي، ومُكنة علمية، ما نحتاجه في تحليل النصوص الأدبية والسردية بشكل خاص.
كل التقدير والاحترام.
تحيّة طيّبة للقائمين على الموقع
لكن، بودي الإشارة في هذه القراءة للدكتورة خديجة شهاب إلى:
– تقول: ” تطغى المثالية على العلاقة الزوجية، لدرجة نشعر وكأننا نعيش في مدينة ابن خلدون الفاضلة، فهي تنقلنا من أرض الواقع إلى عالم الخيال ، تعود بنا إلى عصر عبلة وعنترة، أو قيس وليلى” . ما علاقة ابن خلدون بالمدينة الفاضلة ؟!. اعتقد أن المقصود ” افلاطون” وهذا خطأ معرفيّ وثقافيّ لا يصح من استاذ جامعيّ وناقد أدبيّ.
– ثم تتابع ” تسير خطوط الرواية بأسلوب يعيدنا إلى زمن الستينات، حيث بهتت في هذا الزمن كل العلاقات، وتشظت كل الأحلام، وتصدعت عائلات بأكملها في زمن الحرب، ما يشي إلى أن العقل لا يمكنه أن يقبل الأحداث الجارية، ولا المنطق يستسيغ قيام هذا النوع من العلاقة الزوجية ( الخلدونية) إن جازت التسمية”. أقول: ما المانع من العودة إلى الخلف، إذا كان زمن الستينات كما تفترض كاتبة المقال اكثر وعيا، وما العيب في التحديث بالاستناد إلى الأصل؟
ثم، هل هناك علاقة زوجيّة خلدونيّة؟ ما ملامحها؟. تقصد مثالية ” افلاطونيّة”.
– تقول : إن الزوج كان مختبئا في المطبخ، وهو كان في مكتبه ينتظر اللحظة التي يخرج فيها من البيت من دون ازعاج نور، وعندما عرف الحقيقة أراد أن يبتكر مشهدا دراميا فحمل مسدسا فارغا ليخيف ميشال.
النفص في المعلومات دليل على عدم قراءة الرواية أو قُصد التشويه لأسباب غير علميّة وغير أكاديميّة.