في ليلة قاتلة
في ليلة قاتلة
(من الواقع)
علي .أ. دهيني
هذه القصة حدثني بها جاري على مقعد الطائرة الذي اختارته لي شركة الطيران أثناء سفري، وقبل أن نفترق تواعدنا على اللقاء مرة أخرى، فأكمل لي ما حدث معه، وصراعه مع نفسه بين صداقة سامية آمن بها وكرامة لا بُدّ من حراستها وصونها، وأيهما أحق بالحرص عليه.
بعد نيّف وعقودٍ مرت من العمر، استشرفت عينه وجهها وامضاً من بين حروفها، كأنه لحظةَ ولادةِ حياةٍ جديدة، فـأمعن عين خاطره تستجلي ما أُومِضَ فيها، فإذا هي تنسلُّ من فجرٍ جديدٍ بان واعداً، يتجلّى ضوؤه من بين حروفها وهي تُتلي فيها ما خبأه صدرها من مراحل عمر توارت سنينه في عباب محطات لم تكن تعلم أنها تطوي في أيامها ما كانت تشتاقه روحها مع المتقادم من الأيام.
فجأة انبرى في وجدانه حدثاً جديداً استوقف فيه ساعات أيامه واستنهض مسوداتٍ كانت مشاعره احتفظت بها منذ أن دخل متاهة البحث عن نوعه الإنساني الآخر الذي يشاء الله أن يكون ندّه ويجعله سبيلاً للحياة عبره، حينها ارتسم وجه هذا الند في صورته الأنثوية من بين هذه السطور.
كانت في نفسه مفارقة عجيبة، فهو لا يريد شريك حياة يبني معه مجتمعاً صغيراً، وقد غَبَرَ الزمان ومرّت عقود من العمر على أن يكون هذا ما يبحث عنه، إنما يريد نداً وأنيساً يسكن مشاعره العاقلة لمعاني الروح التي تؤمن بأن الإنسان كلمة مقدسة قيمتها تتجسد في ممارستها قيمتها الإنسانية السامية، لا شريك جسد. وهذا السمو لا يكون إلاّ إن تجاوز آلية الجسد الغرائزية إلى قيمية روحية ترتقي فوق حاجات الجسد.. شريك يملأه ويمتلىء به روحاً.
مفارقة عجيبة هذه التي تسكن تفكيره لأنها تجاوز مُلتبس في عرف العلاقات البينية التي يتعامل بها الناس العاديون، حتى يمكن وصفها باللاعقلانية من حيث الشكل.. لكنها قناعته.
ومرت عقود العمر.
إلى هذا الحين.. لحظة لمح خاطره حرفها بما يحمله من مضامين وصور أدلفتها بين السطور، فانبرى يبحث في مسودات أفكاره عمّا خبأه لهذه اللحظة، فكانت ومضة إشراق.
إنها هي.. هي من امتلأت هذه المسودات بتفاصيلها، ورسمت ملامحها التي تتجلى فيها كل أمنيات الخاطر، وقد هتفت لها الروح تؤاخيها وتمد لها حبال تواصلها لما في خبيئتها ما ترسمه الحياة من خطوط مسار لا محيد عنها لتبقى طي الصدور كأنها السجل الذي لا يفوته كبيرة أو صغيرة إلا أحصاها.
إنها الصديقة الأنيسة التي لم يتسلل الدنس إلى شعور بينهما، سوى الشعور بأن الله شاء وهُمَا ليْسَا سوى مسيّرين لإرادته، لم يكن سوى روحها التي تحلق مع روحه.. إنها الصداقة الخالصة التي فيها الحب تفصيل من تفاصيلها ليس إلاّ، لأن الصداقة الحقّة أرقى وأعلى قيمة في الوجود الإنساني. هي رباط روحي مقدس لا دنس فيه.
***
هذا الصباح كان مختلفاً، كان يرتشف قهوته مسترسلاً في خاطرٍ كان يرافقه صباح كل يوم، إنه طيفها الذي لم يفارقه رغم ما حصل بينهما من تباعد،
صدى رشفة قهوته كان صوتها،
طيفها كان جليسه مع فنجان قهوته، ووجهها كان يطفو على صفحة ماء قهوته، يشاركه إياه بابتسامة ما زالت ترتسم في مخيلته علقت بها من صورتها يوماً.
كان يؤمن تماماً أن قيمة ما بينهما هو من صنع الله وإرادته.. به التقيا،
صباح هذا اليوم كان مختلفاً،
مد يده إلى ساعي البريد يستلم منه رسالة، سرت به الرعشة من أخمص قدميه إلى آخر وبرة شعر في رأسه، حين لمح ختم بريد المصدر. (!!!).
لأول مرة في حياته يشعر بهذه الحاجة للبكاء،
لم يفتح الرسالة،
في حدسه علم أنها منها،
علم أنها من أجمل ما عرفه في حياته،
من أعزّ مخلوق على قلبه،
من أروع ما حمله له القدر من وحي الله،
من إنسان لم يشعر بحبه لكلمة صديق وعظمتها وقيمتها إلاّ حين قالها لها،
ومع ذلك.. في ليلة قاتلة،
في لحظة مجرمة،
انسلّ سوء الفهم إلى كلمات فرقت بينهما،
هو كلما استذكر كيف أنها كذَّبته ونالت من كرامته التي هي أغلى شيء عنده في الوجود، عصف بنفسه الألم من جديد، لأن كرامة الذات مكرَّمة من الله لأنها مخلوق من صنع الله، وهذه الكرامة مرتبطة بما خلق الله، ولذا كان في قرارة نفسه مستعد أن يستهين بكل شيء سوى هذه الكرامة، لأنها مقدسة من قدسية الصانع، وأنها له حجة بين يديه.
وهي ارتعبت وخافت وتهاوت وارتعدت فرائصها من هول ما دخل في روعها، استنكرت، استحلفت، لم تعد تعي ماذا تفعل أو ماذا تقول.. الموقف جلل، والخشية أكبر من أن يكفيها استغاثة موت رجته في تلك اللحظة إن كان ما تخشاه قد حصل.. هي ترضى بكل شيء إلا أن تأتي فعلا يغضب ربها، حتى ولو كان صدفة.. أغمضت عينيها عن كلماته وهو يقسم لها أنها فهمت قوله على غير حقيقته. لم تعد تقرأ، همها أن تتأكد أن ما تخشاه لم يحصل..
هو رجاها، توسلها أن تستوعب وأن تقرأ التماساته وتأكيده بأن ما تظنه لم يحصل.
لكن هي كانت في عالم آخر بعيدة عن قراءة ما يكتب، متخشبة عند خوفها الذي أمسك بكل مفاصلها وحركة تفكيرها.
هو استسلم أمام مهانته بعدم صدقه، وتكذيبه من خلال دعوته للقسم على كل كلمة يقولها.
أصيب بحالة صدمة، صار صدى كلمة (إقسم) يتردد في رأسه كأنه المعول يهشم لحمه ويكسر عظمه..
ـ أرجوكِ .. اتوسلك أن تصدقيني إن كل مخاوفك لا أساس لها، إنها مجرد طرفة مازحتك بها.. (يا إلهي إني أرجوها وأتوسلها أن تصدقني!!).. وكتب لها:
ـ (أقسم أن شيئاً مما تظنين لم يحصل)..
ـ (أنا أقسم بكل المقدسات.. أقسم بالله أن ما تظنيه لم يكن)..
أقسم.. أقسم أقسم..
انهارت قدرته على إهراق ماء وجهه وهدر كرامته.
اتخذ قراره حين وجد أن كرامته ديست وكلمته كُذّبت..
أوصد كل الأبواب التي كانت مشرعة بينهما، انطوى على نفسه يؤنبها، يوبخها، يرميها بأقذع التعابير بأن وضع نفسه في مثل هذا الموقف، وأكثر إيلاماً أن تكذيبه جاء من صديقة ما آمن بغير صداقتها يوماً.. منها بالذات!!!!.
دارت به الدنيا، شعر بأن أعصابه أنهارت، هرع إلى أقرب مستشفى طوارىء، قاموا بما يجب لتهدئته، عاد مع الفجر إلى بيته، أدركه أذان الفجر، جلس إلى مصلاه يستغفر ويسأل ربه أن يزيل عنه ما وقع به من بهتان لم يتعرض لمثله في حياته، بهتان كان يمكن أن يتجاوزه لو أتى من أناس عاديين لا يمثلون في نفسه شيئاً، لكن من هذا الصديق!!
جهد بأن يتلو ما تيسر في فريضته، لكن صدى (أقسم) ما زال يتردد في كل انحاء عقله. سأل ربه أن يعينه على تجاوز المحنة.
مرت أيام خَرِس فيها قلمه إلاّ من تلاوم لنفسه وعتاب لها.
إلى هذا الصباح.. هذه اللحظة.. الآن بين يديه رسالة منها.. كيف سيستطيع قراءتها؟
ترى ماذا تحمل، هل فيها عبارة (أقسم)!!
خاف كثيراً.. وضع الرسالة قرب قهوته دون أن يفارقها نظره.. طيفها كان يسكن عينيه ويلف من حوله كما كل صباح، نظر إلى الطيف وهو يردد (لن أفتح هذه الرسالة).
أقنع نفسه أن يبقي الرسالة طي مظروفها لتبقى سؤالاً يشتاق إليه فيه كل يوم ليتردد في خاطره ما بقي له من عمر لأنه لم يقدر أن يقايس بين قدسية الكرامة وقدسية الصداقة، فكلاهما تشكلان قيمة إنسانية.!!