غريقة بحيرة موريه
عن «غريقة بحيرة موريه» لانطوان الدويهي.. مقام الماء
محمود حيدر
رواية «غريقة بحيرة موريه» هي رواية أمكنة وهي بالدرجة الأولى رواية الماء الذي يتحد فيه العاشقان. الماء الذي يوصل إلى الشغف وإلى القدسي وإلى المطلق، كأن أنطوان الدويهي لم يتسع له الكلام فذهب إلى الإشارة ولم تكفه الإشارة فذهب إلى الهمس. كأن الماء متسع لإثنينية خلاقة وللتجلي والانخطاف.
قالت الرواية قولها وخَتمَت. ولقد قرأتها بمبتداها وخبرِها، فما أوقفني فيها إلا جاذبُ الماء. وذلكم بيت الحكاية على جائز القول. كأنْشاء الراوي إغواءنا بسحرٍ ما، وما لنا وقتئذٍ إلا أن ندرك السرّ الكامن فيه.
كان ذلك في الصفحات الأولى «من الرواية» لمَّا حكى قصة عاشقين لم يرتويا حتى امتلآ معاً بماء البحيرة العذب. أراد عن سابق دراية وقصد أن يفتح لنا نافذة ما للتعرف على سرِّ السحر الذي سيبسطه عبر شخوصه على امتداد الصفحات. الكلام الابتدائيُّ عن جاذب الماء ينبو عن خطبٍ جلل يتأبىَّ الوقوف لدى ملحمة الغرق الفيزيائي لينشئ تمثّلات المعنى. ذهب إلى هذا الرومانسيون منذ قبل على الجملة. لكن رومانسية الدويهي لا كما نودِيَ بها من على سطوح الحداثات المتعاقبة. إنها ضربٌ من لمحٍ داخلي مقصود وغير مقصود في الآن. لمحٌ يسري من داخل إلى داخل بلا غرض، من دون أن يُلبِسَ حالاً زائداً على حاله. الحال نفسه يبقى ويمتد، إنما بتوسُّط الكلمات.
تلك اسمِّيها الرغبةُ الصافيةُ في التمثّل. معها لا يعود الغير الذي جرى تمثّلهُ آخراً. إنه وصاحب الرغبة يصيران نفساً واحدة. تمحّى الأثنينية ليولد المثنى. فالمثنى هو سر اتصال الواحد بالكثير وسحره. وهو الذي يأبى أن يكون ثالثاً بين اثنين، أو أن يكون انشقاق الواحد عن ضدين متناظرين. مفارق للأضداد، ولا يقع في فتنة التناقض. إنه الزوجية الخلاَّقة حيث يقيم كل من وجَهي المثنى في ذات صاحبه. ولما كان كل جدال في الأثنينية آيل إلى الاختصام والفرقة، كان التناظر في المثنى أصل الجمع والوصل.
ولما كان أصلُ كلُ رغبةٍ مشهدُ رغبةٍ أخرى حقيقية أو وهمية، فقد جاءنا أنطوان برغبةٍ تتوسط الحقيقة والوهم. أتانا بمشهد العشق والغرق لكي يكونه ولو على نشأة التوَّهم.
***
ألفَيتُه لا يأنس إلا إلى جاذب الماء. وما ذاك إلا لأنه أراد الكشف عن سر العشيقين اللذين التهمتهما بحيرة موريه، وهما في الحالة العليا من الوصل. فالذي تمثَّل الحالة وصارها، أعرب عن امتلائه بالمشهد، ثم مضى في جاذبية الماء إياه. قال: «كم أود أن أموت الآن.. يمكن أن يتكرر ذلك.. أما جاذب الماء فأعرفه هو أيضاً، وأيّما معرفةً «.
لكأنما غاية الكاتب أن يصير الغريقان أيقونة للذين يقترفون جناية العشق. حيث العشقُ في تمامه صار محواً فلا يبقى بين العشيق والعشيق مسافة وصلٍ أو فصل.
ولحظة الإمحِّاء المركب من عشق وموت، هي نفسها اللحظة التي يصل فيها التشاعر مع الجميل اللامتناهي حد التلاشي فيه. حصل هذا مع ديك الجن الحمصي لمّا أدناه تعشُّقُه إلى قتل الحبيبة، ثم الى حرقها، ثم راح يملأ الكأس رمادها ليشربه، ثم ليمتلئ به حتى الثمالة.. ويموت.
إنه الشغف الأقصى بالجميل.. بذاك الشيء الذي لا يوصف لشدة تجمُّله ولطفه. والجميل عند الراوي ليس كما يألفه العموم. هو من جنس ما قدّره الحكماء وما انتسجه أهل العرفان لمّا تصادقوا مع الله. فلا يعتبر جميلاً – حسب كانط – إلا ما يلذ، ذاك الذي لا عمل له إلا اللذة. الجميل هو موضوع الإعجاب المحض، والانسحار به فقط لأنه جميل، لا لأنه يؤدي للطالب متعته الغائرة في الخواء. فاللذة هي ما يتجلى الجميل من خلالها باعتباره جميلاً. لذة نشعر بها وتكون خالصة من أي شوب.
***
رهان انطوان الدويهي على اللغة رهان على المطلق. في مسعاه هذا كان أشبه بأولئك الذين مضوا في ملحمة اللغة إلى أقصى حدود الإمكان، ثم كان عليهم أن يطلبوا المزيد، فلما لم يطيقوا الحرف مضوا إلى الإشارة.. فلما لم يطيقوا ثانية قالوا ما شاؤوا بأحرف مهموسة، وهكذا حتى يوشك الراوي أن يجد للصمت مكاناً في فضاء لغة لا تتناهى…
مثلما قرأتُه في الرواية قرأتُه في الشعر. ولقد أشرت إلى اللامتناهي في لغته يوم أشهدني على «كتاب الحالة» في «رحاب أنطلياس» قبل نحو عشرين سنة.
قلت له: في «كتاب الحالة» صرتَ خارج العدِّ، أمسيت نائياً بأحوالك عن الكثرة بقدر اختلائك بنفسك وتجليِّك في وحدتها. أنت في الحالة لا أحد سواك.. لا مكان إلا الذي أنت فيه.. إلا الذي أنت أقمته لنفسك خفية عن الأعين والظنون.
ذاك سمتُ أنطوان الدويهي حيال المكان والزمان. سمتٌ لا تحتمله إلا «الكتابة المطلقة».. بها يستشعر الكون كله والعمر كله كما قال.. وبها يتاح له الاغتذاء بالأبدية فلا يفارقها ولا تفارقه قط.
والكتابة المطلقة عنده ذات قصد، وفلسفتها أنها حين تمارس لعبتها لا تفكر بالنقد ولا بسلطانه. ولا تأبه للقارئ لا لظنونه وأحكامه، الكتابة عنده، معيارها نفسها وعالمها كامن في المخصوص فيه. سوى انها تتغيّا هوية الكل الذي يحيي، لا هوية الفَرع التي ترمي إلى الذبول والموات.
***
حين يصَّاعد الراوي في شغفه بعالم الأمكنة لن نعود نرى إليه على حال واحد. تستدرجه الأمكنة بحسب أحوالها. أو هو يستدرجها ليجد نفسه فيها آمناً. سبيلُه إلى المطلق موفور في الكتابة المطلقة. تلك التي اتخذها هادية له في متاهته العظمى.
في تلك المتاهة تتحول الأمكنة كلها إلى مقامات لا يدخلها إلا المتوحدون بأنس الاعتزال. فالمكان في خلوته الروائية سيد الكلمات. هو نقطة الابتداء والختام عند كل طور من أطوارها. المكان بالنسبة إليه هو الملتجأ من ضوضاء الكثرة الى كهف السكينة التامة. لكأنّ توقه إلى صفاء المتوحِّد لا ينبغي له إلا في رحابه.
ثمة إذن، تشاعر مع الأمكنة هو أدنى إلى ميثاق باطني كذاك الذي ينعقد بين الراهب والدير أو بين الولي والمقام القدسي.
ما عرفت الراوي في مرويَّته إلا وكان هو نفسه في الحياة المفعمة بضوضاء الكثرة. وفي هذا المحل بالذات نظرته وهو يُسلمُ أمرَه لطائر التأويل.
من النظرة الأولى امسيتُني نظير ناسكٍ يمتد بكلِّه إلى جاذب الماء، لا شيء يثنيه عن متاخمة اللجَّة، ولو اتخذه الموج طعماً لشراهته العمياء. هكذا يرتفع الدويهي بمكانه إلى القدسي. وما ذاك إلا عن رغبة بإيصال الشغف الذي فيه إلى كماله. بدا لي، أنّ كلّ كلام على ماهيّة المقدّس يحيل إلى المفارقة، فالمقدّس بما هو مقدّس مستقلّ بذاته، مغاير لكلّ ما ليس من طبيعته. وفي سياق التعرُّف والمعاينة سيظهر المكان الذي له خاصيّة التقديس، بما هو تحيُّز منفرد في العالم الأرضي. ولكي يُفهم القدسيّ على ما هو عليه في حقيقته، لا بد أن يُعاش. ومقتضى عيشه أن تكونه. و «الميثاق الروحيّ» الذي ينبغي يُبرم مع القدسيّ يوجب، الاستعداد للقاءٍ لم يعهده من قبل. فسيكون على زائر المكان أن يتهيّأ لحوار لا يدور إلاّ على نحو شخصيّ مع الحاضر في المقام. فلا يقبل القدسيّ حواراً مخصوصاً مع زائره حتى يجيئه فرداً على رغم كثرة الزائرين. كذلك صار أمر الراوي مع جاذب الماء وهو يتمنى الاستغراق الأبدي في لجة البحيرة…
إنها «لحظة التجلِّي». اللحظة التي تُعرِبُ عن اختبار معنويّ، وانخطاف روحيّ لا يتوفّر عليها سوى الذي يعيشها بالفعل. فالتجلّي هو حاصل القبول المتبادل بين قداسة الحاضر في المكان، وذاك القادم إلى حضرته. متى حصل القبول بالإقبال تنمحي الإثنينيّة بين «الضيف» وصاحب الحضرة، كلاهما يتقابلان ويتحاوران على قاعدة ردّ الجميل بالجميل، واستنزال اللطف باللطف، ومتى أدرك الزائر سرَّ المبادلة ازداد تلهّفاً بالمعشوق، وما ذاك إلا إشارة استقبال. فقد تواصل السرّ مع السرّ، وحلّ الحال في الحال، حتّى ليمسي الزائر مع المكان المُزار معاً على صراط واحد.
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-02-05 على الصفحة رقم 12 – السفير الثقافي