الجمعة 29 مارس, 2024

“عين خفشة” للرّوائيّة رجاء بكريّة

“عين خفشة” للرّوائيّة رجاء بكريّة، رواية المسكوت عنه فيما حدث..

نكبة 48 بشهادة شخوصها، وعلى لسان أهلها

د. لنا وهبي

belryah-1bekveayh“..وكذلك تعمد الكاتبة على توظيف الخطاب الكولنياليّ الاستعماريّ، الّذي روّج له الآخر تبريرًا لتنفيذ مآربه الأيديولوجيّة، وأظهرر صورة الأنا الفلسطينيّ البسيط والعاجز عن تطوير المكان وإعادة بنائه، مقابل إظهار صورة الآخر اليهوديّ القويّ المحنّك والممنهج، المهيمن القادر على التّنمية، التّطوير والإصلاح” (د.لنا وهبي)

عن الرّواية

تحمل رواية عين خفشة سمات الرّواية التّجريبيّة، من حيث الشّكل والمضمون، فالرّواية تعجّ بلغة غرائبيّة ومفردات مبتكرة وجديدة، هذا بالإضافة إلى التّشظي الزّمني والتكثيف اللّغوي الّذي تتّسم به.

          في المستوى الشّكلي يُلحظ كثرة العناوين الفرعيّة والحكايات الّتي تمتدّ على ثلاثة فصول مطوّلة، أمّا الفصل الرّابع فهو مؤلّف من صفحتين، تلخّصان دلالة الرّواية.

عين خفشة هو اسم المكان الّذي تنتقيه الكاتبة لأحداث روايتها، إذ تعكس الرّواية  طابع الحياة القرويّ بموروثه الخاصّ في المستويين الاجتماعي والسياسيّ. 

اسم المكان “عين خفشة” من كلمة خفش وتعني ضعف بصره، ويرتبط العنوان “عين خفشة” بالمضمون الرّوائي ارتباطا عضويّا، إذ تهيمن الضبابيّة، وعدم الوضوح والاستقرار على المتون السّردية نتيجة لمعاناة أهل القرية من التّهجير، التدمير والنّزوح عن الوطن، والملاحقة  والاضطهاد الذي يعيشه ويعانيه الفلسطينيون عامة وأهل “عين خفشة” على وجه من الخصوص، من الآخر الإسرائيليّ الّذي يدبّ الرعب في نفوس سكان القرية ويعمي بصرهم وبصيرتهم، ويسدّ أفواههم عن التّصريح بالحقائق ونقل الرّواية، ليصيروا بذلك كالّذين يخفشون خفشا في مشيهم ولا يبصرون الواقع.

شخوص تحكي

من اللافت للنظر أنّ الطفلة “لبيبة” بطلة الرواية تعي مقدار وحجم الظروف السياسيّة المأساويّة وتأخذ على عاتقها مسؤوليّة كشف الحقائق من خلال حثّ جدّتها لأبيها في إماطة اللّثام وإخراج المكبوت إلى العلن بجرأة غير مألوفة تتمثّل في إيراد العديد من الأوصاف السّلبيّة، واللا إنسانيّة للآخر الإسرائيليّ إثر سياسة التّهجير التي طالت الفلسطينيين بما فيهم الجدّة الّتي ذاقت الأمرين بعد تهجير ابنها “خير” قسرًا عن المكان، وقتل زوجته. من هذه المفردات نجد: ” تعمشقي عالسّدة ليؤذوكي ولاد هالحرام” {…}، “هدول ما بيرحمو حدا” {…}، “لو يعرفو هلكلاب إنهن أخذوا عمري يوم جرّوك قدام البرودي لبلاد العار”، (ص 12،13) “وولاد هالعايبة يخوفوا بهنّاس ويبهدلوا بآخرتهن. وهيك جرّوهن يا ستّي برمشة عين عالسّفن” (ص86). {..}”هجموا علينا مثل هالجراد وطرّونا (ص110)، {…} “بلا راس المقاطيع جابوا مرته من البريّة وكوّموها فوق البحصات حتى ما يشوفهم حدا وفكحوا مثل الولايا” {…} “انهزموا ولاد هالميتة (ص111). “الله يغضب عليهم شو يتّموا ورمّلوا وقتّلوا هالبعدا” (ص 248).

إيراد مثل هذه المفردات باللهجة الفلسطينيّة المحليّة من شأنه أن يضفي بعدًا واقعيّا ملموسًا على الأحداث، كذلك يُستشّف من توظيف لغة الجدّة أنّ التّجربة المأساوية ليست فرديّة تخصّ الجدّة فقط، إنّما هي تجربة ترسّخت في الوعيّ الجمعيّ لكلّ فرد فلسطينيّ عاش هذه التّجربة.

تمثّلات الأنا والآخر في الرّواية

تحضر ثنائيّة الأنا الفلسطينيّ والآخر، على امتداد الرّواية في مستويات عدّة، إذ نجد صورة الآخر النّقيض قوميا، اجتماعيّا، دينيا وسياسيا. ومن خلال علاقة الآخر الإسرائيليّ بالأنا الفلسطينيّ يتمظهر الصراع الجغرافيّ، الديمغرافيّ، السياسيّ والعسكريّ. ويُلحظ معاناة الأنا الفلسطينيّ من حالة الضعف، الضياع والسّلبيّة مقابل، المُخططات والنّشاطات الفعليّة المدروسة للآخر الإسرائيليّ الّذي يعمل دون انقطاع على تدعيم هيمنته وإحكام سيطرته في المكان، فالظروف الّتي عاشها الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال منذ عام 1948، أدّت إلى خلق صور سلبيّة ترهيبيّة للآخر الإسرائيليّ المستعمِر والقاهر في أذهان الأنا الفلسطينيّ المستعمَر، كما يتمظهر فيما يلي:

” لخمتني جدّتي بحكايا اليهود في طفولتي. فتنتني بما لا أعرفه عنهم، وملأتني حقدًا عليهم” (ص14).

“على لسان جدّتي لأبي فهمت بكثير من الألم أنّ اليهود طردوهم من بيوتهم في ال 48، وسكنوا مكانهم وأنهم أُرسلوا بالسفن إلى الدول العربيّة من ميناء يافا وعكّا وحيفا حفاظا على حياتهم” (ص35).

“لغزوات اليهود حكايا دامية في رأسي” (ص56).

“خافوا فزّاعات اليهود الّذين استوطنوا بين ليلة وضحاها أحراشهم، وصاروا إلى أصحاب مكان” (ص81).

” جعّروا بكراتينهم، اتركوا بيوتكم واخرجوا، البيوت راح تنزل عليكم” (ص109)

“يومها كان المحتلّون يقربطون بالغنيمة، ويسجّلون أسماءهم على خشبها كمالكين جدد، لأملاك متروكة” (ص127-128).

          وكذلك تعمد الكاتبة على توظيف الخطاب الكولنياليّ الاستعماريّ، الّذي روّج له الآخر تبريرًا لتنفيذ مآربه الأيديولوجيّة، وأظهر صورة الأنا الفلسطينيّ البسيط والعاجز عن تطوير المكان وإعادة بنائه، مقابل إظهار صورة الآخر اليهوديّ القويّ المحنّك والممنهج، المهيمن القادر على التّنمية، التّطوير والإصلاح. كما يتمظهر في الأمثلة التّالية:

          “أيظل اليهود متفوّقين في جيشهم وحيلهم أيضا؟ ألم يستوطنوا فلسطين بذريعة إصلاح الأراضي الزّراعيّة، وبعد أن فعلوا سحبوا أراضيها وزراعتها ومزارعيها؟ ضحكوا على القطّاع والقطيع” (ص139-140).

“ليش هنّي اليهود خلّوا التّاريخ يحكي. كلّوا تزوّر وتشحّر. خلّونا زي جرس الريح معلّقين بعنق سنديانة، كلّ ما هب عليها الهوى غنّت بحسرتها” (ص286).

          ومن اللافت في هذه الرّواية أنّ صورة الآخر لا تقتصر على الإسرائيليّ أو اليهوديّ، إنّما تعدّتها لتطال الآخر العربي والفلسطينيّ، الأمر الّذي يدلّ على التشرذم والتفكّك في مقوّمات الهويّة القوميّة العربيّة عامّة، والفلسطينيّة خاصّة إثر الهزائم، التّهجير، القتل والدّمار الّتي عاناها الشعب الفلسطينيّ منذ 1948. ومن هنا نلمس جرأة الكاتبة في توجيه نقد سياسيّ لاذع يتمظهر في تحميل المسؤولية للأنا العربيّ والفلسطينيّ للمصير المأساوي الّذي آل إليه الفلسطينيون.  وهذا ما نستشفه في الأمثلة التّالية:

          “أستاذ شريف الّذي يسمّي سكّان المخيّمات إرهابيين مش فلسطينييّ {…} معلّم التّاريخ يكذب علينا ويعلّمنا غلط” (ص34)

          “كانت الحقائق أكبر من عقولهم {…} اعتقدوا أنّهم سيخسرون ما تبقّى في خوابيهم للأبد، فلاذوا بصمت قاهر. اختبأوا داخل حقائقهم المزوّرة وتحدّثوا بلا نهاية مع الريّح والحمام والشجر” (ص81).

“لماذا لا يحبّ أبي أناشيد البلاد العربيّة وحمامها الزّاجل {…} لماذا لماذا لا يحبّهم؟ {…}

“هم أحرار يغنّوا لبلادهن وولادهن شو دخلنا؟” (ص177).

“كلهن خونة يا ستّي، ما في حدا همّه غُلبنا، وذلنا، وقلّة حيلتنا. يا ويلي علينا” (ص179).

          إنّ توظيف ثنائيّات الأنا والآخر في هذه الرّواية جاء ليفضح المستور والدّفين في ثنايا التّاريخ، فقد عمدت الكاتبة على إحياء قضيّة المكان والإنسان الفلسطينيّ من خلال نبش الذاكرة في الصعيدين الفرديّ والجمعيّ، ربّما خوفًا من تزوير الحقائق، وضياع الحقّ والهويّة. وبهذا تكتسب الرّواية قيمة وثائقيّة تهدف إلى ترسيخ الوعي في أذهان الفلسطينيين فيما يتعلّق في هويّة المكان والإنسان، والعمل على نقل الحكاية للأجيال المعاصرة والقادمة.

البعد النسويّ في الرّواية 

يتمظهر البعد النّسوي في الرّواية في  مواقف وأحداث عديدة، إذ يتمثل في اتخاذ الشخصيات النّسائية أدوارًا مركزية كما وكيفا. فقد احتلّت شخصيّة كلّ من الطفلة لبيبة والجدّة صبيحة أدوار البطولة والمركزيّة في الرّواية، إذ هيمنت هاتان الشخصيّتان على تفجير الأحداث، ودفعها قدمًا.

          إنّ اختيار شخصيّة الجدّة في هذه الرّواية لم يكن عفويّا، إنّما كان له دور فاعل ورئيس في خدمة المضمون الرّوائي، إذ مثّلت الجدّة جيلا عاش مأساة التّهجير والاحتلال، وخاض بعدها تجارب التضليل والوعود الكاذبة، الهزائم، والخيانات. هذا الجيل هو القادر على كشف حجم المؤامرة، وتداعياتها على طمس الحقائق ومحو هويّة الفلسطينيين. فقد تميّزت شخصيّة الجدّة بجرأة متناهية على كشف تجارب وأحداث تاريخيّة ألمّت بعائلتها بشكل خاص وبالشعب الفلسطيني عامّة، كما يتضّح من الأمثلة التّالية:

“لم تتوقّف أبدًا عن التّفكير بصوت عال على مسمع الرّجال والنّساء، مثل مؤذّن جامع. وبقيت حتّى ساعاتها الأخيرة تردّد بين التّنويحة وموّالها مونولوجًا طويلا يحكي نكبة الشّعب الّذي ظلّت تحشره في عبّها حتّى لا يعثر عليه وعليها أحد” (ص 17).

“لم تخطىء جدّتي صبيحة كثيرًا حين اعتصمت قلبها، خطّطت غيبًا أن تتحصّن الحقائق الّتي تعرفها. أهل الحي تحصّنوا في صمتهم، عكسها تمامًا. أصرّت أن تحكي بلا توقّف، وعن كلّ ما رأته وسمعته ونسجته ذاكرتها الخصبة حتّى خانها صوتها” (ص 67).

“مرّة جيش الإنقاذ دُحر، ومرّة هوجم، ومرّة ضاع. ضاعت النّاس وبكيت. إللي ركض ونسي مرته واللي دفن بالحيا بنته، واللي وقع من قهره عالدّخانة، واللي واللي واللي” (ص109). 

هذه الأحداث والوقائع لم تجرؤ على فضحها الشخصيات الذّكوريّة، متمثلة بالأب والشيخ بدر العبدالله، اللّذين لاذا بالصمت والتكتم والرّضوخ للواقع، كما يتّضح في الأمثلة التّالية:

          “يا بوي خرّبت بيتي، ما حد راح يرجع ولا يتشحّر، هاي ستّك كانت تْخرّف، صدقتيها؟” (ص18-19).

          ” حاولت أن أقنع أبي أنّ التّاريخ الّذي أخذنا يجب أن يعيدنا، وضحك. لم يخطر بباله أنّي سأكبر قبل أجيالي، وأبحث عن إجابات لأسئلتي الّتي أقفل هو وأمّي، عليها الأدراج” (ص100).

          من الأمثلة أعلاه يُستشف اختراق الشّخصيّة الأنثوية للأدوار الجندريّة، ويعكس نظرة المجتمع للمرأة أنّها لا تستطيع الخوض في الأمور المصيريّة، والعامّة، لانّها لا تمتلك الوعي الكافي، فإن تفوّهت وأظهرت فكرّا ووعيا سياسيّا،  تكون قد اخترقت ترسيمات الثّقافة الأبويّة، وتُتهم بالخرف، ويُشكّك في نضوجها الفكريّ.

وما يلفت الانتباه في هذه الرّواية أنّ البطلة لبيبة، قوّضت لمسلّمات الثّقافة الأبوية اجتماعيّا وسياسيّا، من خلال أفعالها وسلوكيّاتها وأفكارها غير المألوفة، وتمردها على العادات والتّقاليد.  على الصعيد السياسيّ أظهرت لبيبة منذ صغرها فاعليّة لافتة تفوق جيلها العمريّ، تتمثّل في اتخاذها مسؤولية إعادة الوطن وتحريره، فتسعى جاهدة إلى تحقيق حلمها في شراء أسطول يُمكّنها من مواجهة الاحتلال، وإعادة الفلسطينيين إلى بيوتهم وأراضيهم. وربّما يكون هذا ردّ فعل على الحالة السلبيّة، والرضوخ للواقع والخمول الّذي ميّز الشعب والقيادات. ومن هنا تبرز فاعليّة الشخصيّة الأنثويّة متمثلة في لبيبة، الّتي أخذت على عاتقها المبادرة والفعل، وإن كان هذا الفعل في حيّز الحلم والافتراض. لكنّه يدلّ على عمق الحسّ والانتماء الوطنيّ.

          ويتمظهر البعد النسوي في الرّواية على الصعيد الاجتماعي أيضًا، متمثلا بتمرّد واختراق الشّخصيّة الأنثويّة لبيبة للمسلّمات الاجتماعيّة الّتي تفرض على الأنثى قيودًا جسديّة، عاطفيّة وحبوسات منزليّة. إذ لم ترتدع لبيبة عن الخروج من المنزل للقاء حبيبها آسر، الّذي ارتبطت معه بعلاقة عاطفيّة وجسديّة، كما نلحظ ممّا يلي:

“كان اسمه يُفزع العصافير إلى رأسي كلّما دقّ باب بيتنا. أطلّ برأسي من فسحة الباب وأوشوشه حتّى لا يسمعنا أحد، إذهب إلى الميدان، وسوف ألحق بك. أبتسم له من فتحة الباب الواسعة فيفهم أنّنا سنتأخّر حتّى إظلام شجر الحبق على عناقنا، وحتّى دوخان أمّي وأمّه في الحواري الوهرة بحثّا عنّا” (ص161).

وفي هذا يظهر وعي لبيبة لشروط المجتمع الّتي تمنع الفتاة من ممارسة حريتها، وتحقيق أنوثتها، لذلك تلجأ إلى طرق تحقّق خلالها حريّتها الطبيعيّة بعيدًا عن الرّقيب الاجتماعيّ. وفي هذا ينعكس النقد النّسوي للثقافة الأبويّة الّتي تصادر الحريّات الفرديّة، ولعلّ في ذلك دعوة لتصحيح المفاهيم الاجتماعيّة الزّائفة.

اللغة التجربيبّة في الرّواية

تتميّز رواية “عين خفشة” في لغتها التّجريبيّة الّتي تكسر المألوف والنّمطي في الكتابة، إذ نقف على مفردات غرائبيّة تتمثل في إيراد جمل مبهمة، تشغل اهتمام القارئ، وتجتذبه في محاولة لفكّ رموزها. وتبرع الكاتبة في خلق قوالب لغويّة جديدة خاصّة بها، وتحرص على توظيف اللّهجة المحليّة الفلسطينيّة الّتي ترتبط عضويًا بالمضمون الرّوائي، وتساهم في إبراز مؤرقات الشخصيات الروائيّة في المستويين الخاص والعام، وتضفي طابعًا سوداويًا للواقع المعيش، يؤثر بالتّالي على المتلقي الّذي يتعاطف حسيا وشعوريا مع الأحداث والشخصيّات.

وما يلفت الانتباه في توظيف اللغة هو كثرة الموتيفات الّتي تنذر بالشؤم والسوداويّة مثل إيراد أسماء طيور تحمل دلالات سلبيّة، تحيا وتتغذّى على أشلاء غيرها، فنظرة متفحّصة إلى الرّواية تكشف عن توظيف موتيف الغربان والصّقور للتدليل على حجم المأساة  وكثرة المقابر الجماعيّة للفلسطينيين، فلهذا الغرض تخلق الكاتبة قوالب لغويّة تجريبيّة بكريّة بحت، تتمثّل في مزيج لغويّ يجمع بين مفردات متناقضة تُنتج مفاهيم جديدة لبشاعة الموت وممارسات التضليل المتمثّلة في إقامة مزارع  ومشاتل تشي بالحياة فوق المقابر الجماعيّة كما يتضّح فيما يلي:

“بمحاذاة كلّ مسكب موت نهضت علامة تحرس التلال المتربة” (ص49)

خُدع الأعداء لئيمة دائمًا، وتوهمك أنّها بطاقات لتحديد عائلات أشتال الورد” (ص91)

          “وصلت مشاتل الدّفن أختنق بحقدي. ثيابي تلتصق بفخذيّ، وقلبي أيضًا! بدأت أجزع، فما تحتها سينمسح إذا لم يهدأ قليلا ضرب الشتاء” (ص127). 

          ومن اللافت في هذه الرّواية أيضًا توظيف الكاتبة للأساطير والخرافات المألوفة مثل ذكر “بيضاء الثّلج”، “عقلة الأصبع”، “السندباد”، “فريط الرّمان”، و”النسر الذّهبي” التي تجتمع جميعًا في وصف الصّراع بين ثنائيات متضادة مثل قوى الخير والشّرّ، الحقّ والباطل، الظالم والمظلوم. وهذا ما يتماهى مع الثيمة التراجيديّة الّتي تطرحها الرّواية.

ويلعب الموتيف الأسطوري المتمثّل في “النّسر الذهبي” دورًا هاما في فهم غرائبيّة الأحداث الرّوائية ومدلولاتها. إذ وُظّف ليكون دليلا على التيه والتضليل والموت والضياع بدلا من أن يكون دليلا على اليقظة والوعي والرؤية الثاقبة والبعيدة، فما حدث لكلّ من شخصيّة آسر وبدر العبدلله من ضياع وغيبوبة بعد أن سارا في أعقاب النّسر، ووجدا الجثث تحت أنقاض الذّهب في كلّ مكان وصلا إليه، هو دليل على حجم المأساة التي تفوق توقع العقل البشري، وربّما  في ذلك تنويه من الكاتبة إلى أنّ تعويل الفلسطينيين على الغرب الغنيّ والثري والقويّ كاذب ولن يعيد إليهم ما ضاع وفات، لذلك عليهم أن يستيقظوا من كبوتهم وأن ينحوا نحو الفعل والعمل ليتخطّوا مرحلة الهذيان، النّواح والهروب من الواقع نحو رؤى جديدة تعيد للفلسطينيين الوطن والهويّة المسلوبة والعيش بكرامة.

          ولا تخلو الرّواية من اللّغة الرومانسيّة العاطفيّة، إذ تقوم الشخصيّة الأنثويّة في الرّواية بالبوح والمجاهرة في علاقتها مع حبيبها آسر، وتصل إلى أقصى درجات الجرأة عندما توظّف اللغة الشبقيّة في ممارسة الحبّ، كما نجد فيما يلي:

          “لم أخبر أحدا مثلا أنّه حين تأتي العتمة الّتي نحبّها يأخذني آسر، غالبين أو مغلوبين، إلى قرنة منخفضة في طرف الميدان ويفكّ أزرار قميصي ويشمّ المساحة الضيّقة بين حبتي الدّراق الصغيرتين {…} ثمّ يفرك بطل جسدي الطريّ أنفه وشفتيه بدراقتيّ بقسوة شفّافة تؤلمني” (ص209).

          “يرتفع قليلا متحاشيا نظراتي، ثمّ يلصق أسنانه بالبراعم البنيّة ويحاصرها بين شفتيه حتّى أتألّم، وأستغيث. يزداد قضمًا وأزداد استرحامًا، فيحتوي الدّراقتين بين يديه ويهمس بامتنان، هل كان ينقص جنّة الله فاكهة مجنونة مثل هذه لتغرف الرّغبة بهذا الجوع من عسل الشّهوة؟ كم فادح هو عقاب الدّراق لشهوة الرّجال {…} يُمزّق موضع دراقتيّ بأسنانه ويأكلهما عبر الشلخ الصّغير الّذي ارتكبه بنفاذ صبر” (ص 223).

يتّضح من المثالين أعلاه أنّ الكاتبة توظّف اللغة الإباحيّة في ممارسة العلاقة الحميمة مع حبيبها آسر، مخترقة مألوف اللغة والمسلّمات الاجتماعيّة، فتحتفي بجسدها ومكتنزاته، ولا تتردّد في الإفصاح عن مصادر اللّذة والإثارة فيه، فتسقط على أعضاء جسدها المثيرة تشبيهات من عالم النبات، كتشبيه نهديها بفاكهة الدّراق وفاكهة مجنونة، وحلمتيها بالبراعم، مطلقة بذلك العنان لأحاسيس الرغبة الجنسيّة المكبوتة.

وفي الختام نستطيع القول إنّ هذا العمل الرّوائي هو عمل جدير بالقراءة والتمحيص، والنقد والتحليل نظرًا لما يحمله من ثيمات وجماليات سرديّة تجريبيّة حداثيّة، تمزج بين أجناس أدبيّة متنوعة، تصب في خدمة الثيمات والأفكار التّنويريّة المطروحة. وقد عمدت الكاتبة في هذه الرواية إلى ابتكار قوالب ومفردات لغويّة تؤسس لخطاب تجريبي يميط اللثام عن مؤرقات خاصّة وعامّة، ويخرج المكبوت إلى العلن متجاهلا الرقيبين الاجتماعيّ والسياسيّ، فما يجعل هذه الرواية علامة فارقة عن أعمال روائيّة أخرى تناولت القضيّة الفلسطينيّة هو صياغة التّاريخ وتوثيق الأحداث بأساليب حكائيّة متنوعة وغرائبيّة خاصّة.

21 سبتمبر، 017

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *