قراءات نقدية

ضحى المل في “زند الحجر”:

ضحى عبد الرؤوف المل في “زند الحجر”:

ريشة ترسم الحب على قماشة عقل قتلته الغريزة

علي .أ. دهيني

9e426084-ec89-4b3f-bca4-0d0c0bf9c1e0إن قراءة أي مجتمع تنطلق من ترجمة ثقافته التي تربى ونشأ عليها، لأنها هي التي ستوجه سلوكه الذي يمارسه ببديهية آلية غير مدركٍ لما يمكن أن تشكله من أثر سلبي في محيطه، وفي تنشئة بيئته. وهذا ينطبق على المجتمع الصغير ـ الأسرة ـ كما ينعكس تصاعدياً على أفراد وأسر المجتمع ككل.

الأديبة ضحى عبد الرؤوف المل، واحدة من الأقلام المثقفة التي تسعى إلى قراءة مجتمعها المحيط، ومنه إلى المجتمع الإنساني، بحثاً عن الثغرات الكامنة وراء سيادة الغريزة البشرية التي لا تنتج سوى المزيد من تدمير الشخصية، على الروح الإنسانية التي تعزز دور ومكانة شخصية الإنسان من خلال قيمه الأخلاقية. وتأمل من خلال هذه القراءة إلى تصويب هذا الاعوجاج الذي تربت عليه نفوس عاشت أو تعيش غريزتها دون أن تلتفت لقيمتها ودورها الإنساني في بناء المجتمع، نظرا لخوائها من خلفية فكرية تظبط هذه الغريزة وتحررها من عبثيتها.

في روايتها التي بين أيدينا تسعى الكاتبة إلى تسليط الضوء على وجه من وجوه هذا الواقع، متخذة من بيئتها والمدينة التي تعيش فيها، وجعلتها بانوراما اجتماعية تجول بين شخصياتها وتقدمها كنماذج لما تلمسه من شوائب تعمّ العديد من المجتمعات، وبخاصة المجتمع العربي الذي تعيش في وسطه وتعاين نتائج موروثه الثقافي الذي لم يولد منه سوى المزيد من البؤس والمآسي.

زند الحجر

تتهادى ، ضحى عبد الرؤوف المل ، بنا ، لنسير معها في واقع مدينتها ـ طرابلس ـ الاجتماعي والسياسي ، وإلى حد ما الثقافي، لما يعنيه من أثر في توجيه الوعي الاجتماعي الذي تسعى في روايتها “زند الحجر” أن تقول لنا : إن غياب الوعي الثقافي هو وراء كل المآسي الاجتماعية ، وهذا بديهي في كل المجتمعات. ولذا نجدها تربط بين غياب هذا الوعي وبين الشيزوفرينيا الإنسانية التي حكمت سلوك بعض الأفراد مما انعكس على المتعلقين بهم إذا كانوا أرباب أسرة.

هذه البانوراما ركزت فيها الكاتبة على الإرهاصات النفسية بالقدر ذاته الذي رغبت من خلاله أن تعطي صورة كاملة عن الواقع الاجتماعي، والعبثية الكاملة، في سلوك العلاقات البينية، أكان ذلك على صعيد الأسرة أو الدائرة الاجتماعية الأوسع المجتمع، فهي ببراعة شكّلت شخصيات روايتها من أفراد نعاينهم في حياتنا اليومية، شكلا ومضموناً. الجميل والبشع، العليل والسوي، الصالح والطالح، وانعكاس هذه الشخصية على سلوك كل نموذج من هذه التشكيلات البشرية.

أيضا، لم يفتها أن تؤشر إلى بعض الوقائع السياسية التي غالباً ما يكون لها دور في تشظي حياة أبناء المجتمع، كنتيجة لغياب الوعي الثقافي، هذا الغياب الذي يعتبر المسرح الأوسع لأهل السياسة لاستغلاله في قيادة المجتمعات، مما جعل الناس في بعض المحطات السياسية التي جرت في هذه المنطقة من لبنان، ينصرفون عما يدور حولهم من صراع، بل يقعون ضحايا لها، فيهجر قسم منهم مدينته ـ وهذا ديدن الحروب: تهجير الناس أو جعلهم وقود نيرانها ـ إلى أن تبينوا أن قسما منهم ساهم من حيث لا يدري في هذا الصراع، وذلك بسبب النزعات الطائقية حينا والحزبية حيناً آخر حتى أصبح ثقافة يلوكها أبناء المجتمع بلا وعي منهم. تقول الكاتبة على لسان بطل روايتها (ص 22) : ” يبدو أن أحجية قصة الحب بين أبي وعفاف تشبه قصة القتال بين جبل محسن وباب التبانة في حارة التنك”. وكأن الكاتبة شاءت من خلال ذلك أن تؤشر إلى أن وتيرة الحرب التي تعيث في مدينتها، تحولت إلى نمطية في وعي أبناء المجتمع وصارت مثلا يتمثلونه في تعبيراتهم. وترمي من خلال هذا إلى مسؤولية قادة المجتمع من فعاليات ثقافية أو دينية ممن ينساقون عادة إلى جانب فئة من الفئات المتحاربة، وإلا ما معنى أن يكون هذا الانفلات الاجتماعي في الصورة التي تحدثت فيها ضحى المل عن الشخصيات الرئيسية في روايتها، وتركيزها على الحالة النفسية التي كانت تحكم هؤلاء الناس.

ففي حين كانت تقدم صورة الخير، الذي يمثل الوعي والعقل، في شخصية “فاطمة”، وجدت أن الغالب في، علاقة هذه الأسرة، غياب الوعي لمسؤوليات رب الأسرة الذي دأب البحث عن ملذاته الشخصية ناسياً أكوام اللحم الجائعة في بيته، فعبد الرؤوف هنا، يمثل غياب القيادة الاجتماعية التي من المفترض فيها أن تؤسس منهجية ثقافية للأفراد ليكونوا بنائين في مجتمعهم وليس مجرد أعداد بشرية تهيم على وجه شخصانيتها ومطلباتها الذاتية نتيجة واقعها المتفكك قصراً وليس اختياراً.

وما عائلة عبد الرؤوف بنماذجها المتعددة، سوى صورة عن كل المجتمع المحيط.

ترسم الكاتبة صورة عن حالة عبد الرؤوف ونمط حياته وسلوكه، من خلال اختياره لمهنته التي تتجانس مع طبيعته، في مقابل صورة الأم التي يصطلح عليها الكتّاب دائما أنها تمثل الخير، فتقول (ص22): “زحف اليأس إليها من زوج لم يعطها من الحب إلا جسده الثقيل، وصندوقاً ليلياً يشبه صندوق الفرجة بفتحاته الدائرية، محملاً بالنساء اللواتي تسمع فحيح أصواتهن وهي تتلوى في فراشها من أرق يدب في عروقها واشتياق إلى غمرة حنان من زوج ينام في غرفة أخرى مع جنياته”.

هذه هي الصورة المختصرة لواقع هذا الانموذج من المجتمع البشري. وما ينطبق على هذه الأم ينطبق على الشعب كرمز للعلاقة بينه وبين السلطات الحاكمة، التي غالباً ما يبحث أهل السلطة على تحقيق غاياتهم دون أن يلتفتوا إلى ما يحتاج إليه شعبهم.

خلفية الرواية والحالة الاجتماعية

لا أريد أن اوجه مضمون رواية “زند الحجر” إلى رواية ذات خلفية سياسية، فيما كاتبتها ركزت على الحالة الاجتماعية والعلاقة الأسرية في بيئة غلب فيها الجهل أيّ دورٍ للعقل، رغم أن الكاتبة تركت بعض الاشارات ـ في بعض الشخصيات ـ إلى هذا الدور معترفة بعجز العقل عن القيام بدوره الحقيقي.

لا أريد في هذه القراءة لرواية “زند الحجر” أن أحمل مضمونها أكثر مما يحتمل، رغم أنني أعتبرها إشارات ذات صلة في العلاقة الاجتماعية السيئة بين الأنطمة والشعوب، لأن السبب الرئيسي في تغليب الجهل على العقل في كل المجتمعات تتحمل مسؤوليته الأنظمة ومن يديرها. ولذا لن أغوص في حوارات شخصيات الرواية المليئة بمفردات الحب حيناً، وفي التعبير عن المعاناة حينا آخر. سأترك هذا للقارىء ليستمتع به ويعيش فصوله وأحداثه، من خلال البراعة السردية التي أحكمتها الكاتبة بجمالية لغوية سلسة، وقلم كاد أن يكون ريشة ترسم على قماشة العقل والذاكرة، فتأخذهما إلى العيش داخل المشهد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى