روعة يونس وثلاثية: أنتَ يا أنتْ..
روعة يونس وثلاثية: أنتَ يا أنتْ..
علي .أ. دهيني
حين يفضفض الشاعر أو الكاتب هواجسه، فكأنما يثير من أعماقه بركاناً راكداً على مضض، مرغماً، بعدما جاهد كثيراً وعاند، أن يترك له حرية فتح فوهته لتنطلق النار الموقدة في أحشائه.
روعة يونس تلك الصبية السورية بامتياز، واكبت في دمعها الرؤوف وحسّها الإنساني، كل مشاهد الأحزان في المدن السورية، كما يواكب الطير عابثاً يعيث بأيكه، فيحطمه أمام عينيه وهو يدور على الغصن عاجزاً عن منعه لا حَوْلَ يشدّ أزره، ولا قوة يستند إليها ليمنعه.
هذه هي القصيدة بكل محمولها، نزاع العاجز أمام جبروت القوي.
سورية وما يجري فيها وعليها، وفيها العديد الكثير من الشعراء، جميعهم حاكوا “مصائبها” و “نكباتها” وأبرعوا في رسم الصورة، إنما صوت الأنثى الرؤوف دائماً، يستشعرك بقوة الألم أكثر حين يملأ سمعك، لأن الدمعة أكثر قوة في مخاطبة القلب، وحين يتحرك القلب يتحرك العقل بحثاً عن الموضوع، حينها تستطيع أن تطرح القضية، وقد صارت في متناول الاهتمام.
” حين تميط النبوءة اللثام عن فم سوءتها
ليدلف في نهر الغياب”.
بالفطرة، الإيمان يسكن القلوب، تستدرجه للظهور مكتسبات عين العقل المدركة، فتقرأ قرآنها أو إنجيلها، فيسكن روعها وتماهي خطى الإيمان في النفس سلوكاً نمطياً، وفي غفلة من زمن يتدمر كل هذا الإيمان حين يصير القتل والإجرام شعاراً له.
” الموت ضيفنا القادم
قطع مسافات الدم إلينا
وكلاكما كما حب ومستحيل!”
فماذا عسانا أن نستشرف ما أصاب هذا القلب، أو هذا العقل، بعدما امتلأ بما فاض به من أحزان مما يشاهد ولا نرى النور يستيقظ، فينتشر بقوة البرق ليحرق هؤلاء الذي قتلوا الإيمان قبل أن يقتلوا الإنسان.
” أذبل مثل الخطيئة على غصن الندم
أشحبُ كشعاع نحيل تاه عن شمسه”.
حالة من الضياع بين السؤال والتساؤل توهن العقل وتركمه في حلبة الصراع الذي لا يرتقي إلى مرتبة القدرة على التغيير، في حين يقارع ويصارع كي لا يفقد ما ولد معه فطرة.
في هذه الثلاثية، ليس من السهل أن تقرأ وتعبر عبور المجالد على أمر لا يستهويك، إنما أنت مجبر أن تعيد بعد الفقرة والفقرة عوداً جديداً لأن مفردة قدرت (روعة) على إسقاطها ببراعة الصائغ الذي يجيد توليف النفائس في إسورة تجعلك مأسوراً بما حوت دون أن تدرك سر جمالها وروعة تنسيقها.
أعرف أنه من غير المحمود أن تتحدث في تقديم قصيدة، عن كاتبها، أكثر مما تتحدث عن مضمونها، إنما حين تكون القصيدة هي كاتبها، لا بد أن تستوقفك شخصية الكاتب على مدرجاتها.
“يا من تطوعت تحمل نعشي على كتفيك!”.. هكذا اختزلت ما سبق هذا القول وما يتبعه..
لا أريد أن أطيل سرداً وقراءة في هذه القصيدة الرائعة، وسأخْلي حرفي من مساحة التأويل ليمعن القارىء تجوالاً بين السطور.
***
أنتَ يا أنتْ
روعة يونس
(1)
كمن يشيح بوجهه
حين تميط النبوءة اللثام عن فم سوءتها
ليدلف في نهر الغياب
كنتُ أرى آخر أيامي معك
وبينكما أنت وأنت، ما صنع الحداد
الموت ضيفنا القادم
قطع مسافات الدم إلينا
وكلاكما كما حب ومستحيل!
يصرخ الثاني: سيفي عليكِ
فيهمس الأول: قلبي معكِ
وأنا يا حبيبي – بينكما – أنوس، أخمد
أذبل مثل الخطيئة على غصن الندم
أشحبُ كشعاع نحيل تاه عن شمسه
وأضمحلُ، زبداً فقد آثار موجته
لكن الموت لن يقتلني بعد الآن!
سبقتَه أنتَ يا أنتَ وفعلت
[2]
وبعد أن سوّاك الله
خـُلِقتَ من كرم أخلاقي وفيض عشقي
شكرتني
وما نددتُ عن ذهنك ومخيلتك!
كنتَ تنساكَ لشدة ما تذكرني
وتحبكَ لكثرة ما تحبُني
أباحت مفاتن روحي لتشهّيك العنان..
أشعتَ في أرجائي كل ما جعلني بنعمتك أحدث
توضأ لي قلبك
ويا لكفرك “أنتَ” توضأت بدمي
أطلقت بي صليتك
وأنتْ ترددني صلاة
تنشد: يا له من هلاك حيث لا تكونين هناك
فكيف تأذن للشمس تشرق من شمال ضحكتك
وينعق غرابك في قدوم موكبي؟
ترجّلـَني
وصوتك يردد
لا تعرفين يا مولاتي كم أحبك
لسبب بسيط ؛ أنا نفسي لا أعرف !
…. تجهم وهجم
لمحت وجه قاتلي في مديته
فحين خرجتَ منه كانت عيني تتابعك
وترى
كل أجنحتي
تتهاوى
بين أصابعك
[3]
صاح بكَ “غلبتني ،
أنكرته ثلاث قبل صياح الديك
وأنكرتها أكثر قبل انقضاض الذئب”
ليس عدلاً أنني ضالتك المنشودة
بينما ضلالي أنت؟
تقبّل كيهوذا يدي المنكمشة
ولا تكتفي بعضّها.. ابتلعتها كلها!
فلمَ الوسائد يا ملاكي الحارس
طالما تنحر على فراش الروح:
امرأة “تنجب” لك المال
وامرأة “تجلب” لك العيال
وامرأة في شرقك تبكي لك غروبك؟
تشهدُ أنكَ ما مشيت خلف جنازتي
يا من تطوعت تحمل نعشي على كتفيك!
فلمَ وقفت اليوم مذهولاً.. فوق قبري
تسأل من فعل بكِ هذا؟
وإذ ردّ الصدى: أنتْ
أغمدتَ سكينك
ليقتل أنتَ أنتْ