رقصة سالومي
رقصة سالومي
شوقي بزيع
رأسُها في مكانٍ
وحمّى اشتعالاتها في مكانْ
وهي بينهما حيرةٌ
تتقمّص مجروحةً شكل أنثى
وترتدُّ منصاعةً نحو أرض القنوط
التي أسْلَمَتْها مراراً
إلى مخلب ِالغثيانْ
كلُّ ما دار في ذهنها
وهي تنحتُ أقدارها بيديها
هو البحثُ، أبعد من نزق الدم،
عمّا يحرِّر من عُقد النقص
جوعَ الجمال إلى الإحتضانْ
كلُّ ما دارَ في ذهنها
وهي ممسكةٌ بزمام انكساراتها
أن تصدَّ نيوب الخداعِ
التي أوقفتها على الجَرْفِ
بين تخوم الكمالِ
وبين سفوح الجنون،
فما كان يحتاجه قلبها في الصميمِ
هو الحبُّ،
يفْلق كالسيف ملمسَ تفاحِها المشتهى
ويشعُّ وراء أعاصير فتْنتها
مثل بلَّورة من حنانْ
بأكثر مما تريدُ حَبَتْها الطبيعةُ
لكنها،
خلف لهفة عشّاقها لاستمالة نظْرتها
المستمدّةِ من لفتات الظِّباءِ
على الماء،
راحت تخطِّط عامدةً
لانتهاك التّخوم الأخيرة للإرتيابِ
التي غلّفَتْ قلب يحيى
الحييِّ من الله،
كي تدفع الإشتباك المدمِّرَ
بين المقدَّس والشغف الأنثويِّ
إلى آخر الشوط،
إذ ربما تستطيعُ
أن تتّقي الإنزلاقَ إلى وهدة اليأسِ
قبل فوات الأوانْ
فهْي ليست زليخةَ
كي تكتفي من نبوَّة يحيى
بقدِّ قميص تمنُّعه اليوسفيِّ،
ولا هي بلقيسُ
كي تتنازل عن عرشها لسليمانَ
كرمى لجوع الرخام إلى مائهِ
وهو يلمع في ربْلة الساقِ
مثل حرير المرايا،
ولا هي حواءُ
كيما تسلِّم صاغرةً، وبحيلة أفعى،
مقاليدَ جنَّتها لوحوش الفراغ،
ولكنها سالومي
المستمدَّةُ ألحاظُها
من زفاف الأنوثة للكُحلِ
في طعنةٍ شبه مرئيةٍ،
والشهيَّةُ مثل التفاف البراكينِ
حول انتفاضاتها
في تظاهرةِ
الجسدِ
الأفعوانْ
هكذا قررَتْ أن تنازل يحيى
على ساحة الحقدِ حتى النهايةِ،
وارتدّت الحربُ بينهما
نحو صفْر الوجودِ
المثلَّم بالإنقضاضِ على النفسِ
في صورة الغير،
في شهوة الإمتلاك لما ليس نملكُ،
واشتبك الحبُّ والموتُ
من خلف زنزانتين اثنتينِ:
الجمالِ أسيراً لورطتهِ
في اختبار ضراواتهِ،
والنقاءِ أسيراً لعصمة معناهُ
من زلَّة الإنصياع المدانْ
ولذا كان ينقصها رقصةٌ ليس إلاّ
لتقتصَّ من قلبها
في رهان الشقاءِ على جرحهِ
المتعطِّش للثأرِ،
تنقصها رقصةٌ
خبّأتْها ليومٍ كهذا مراراتُها،
لا انتقاماً لعشقٍ مريضٍ فقط
بل لكي تفتدي بالدُّوار الجنونيِّ
خذلانَ كلِّ النساءِ
اللواتي تمرّغْنَ من قبلها
في وحولِ التعاسةِ،
كلُّ اللواتي استحلْنَ إلى أضحياتٍ
على مذبح الجنسِ
في خلوات البغاء المقدَّسِ،
حتى ولو دفعتْ وحدها
ثمن الإنشقاقِ المدمِّر عن نفسها
وتشظَّتْ ملامحُها في سماء الأساطيرِ
أو في حقول الدخان
وحيث استبدَّ بها الوجْدُ
توقاً إلى وجه يحيى
وصورته ميِّتاً في مناماتها
دون رأسٍ،
تغشّى تردُّدَها صوتُ إذلالها
قاطعاً:
سالومي
ارقصي
تَبْرَئي من عتوِّ الشكوكِ،
ارقصي
بجماع الصهيل الذي لم يروَّضْ
لسلسلةِ الظَّهْرِ،
بالإلتحامِ الجحيميِّ للساقِ
مع هذيان الطراوات،
بالخنجر المتماهي مع السُمِّ
مقتطعاً من زوايا العيون،
بنهر الرنينِ الموزَّع بلين تَلَوّي اليدينِ
وبين تَمزُّقِ أوتارِ عود الرياحِ
على غابةٍ من بريق الأساورِ،
بالإنجذاب السُّلاليِّ
نحو افتراع الهباءِ،
ارقصي
باسم كل الشياطينِ
كي تصبحي المرأة القطًّة،
المرأة اللبْوَةَ
المرأة الموجةَ،
المرأة الذّئبةَ،
المرأة النّعمةَ،
المرأة النّقمةَ،
المرأة اللّغةَ،
المرأة العدمَ،
المرأة العسَلَ المرَّ،
والمرأة العنفوان
وليكن في انسدادِ الطريقِ على الحبّ
أن تعبري نفق الإنتقامِ المريعِ
الذي ضاق باثنينِ
في مخدعِ الكبرياء المهانْ…
رقصتْ سالومي
لا كما رقصَ الناسُ من قَبْلُ
في حفلات الزفافِ،
وغسْلِ الحياة من الإثمِ
بعد ارفضاض الحروبِ،
ورقْد المواسم بالقمحِ في حلقات الحصادِ،
وتزجيةِ الرعبِ
من غضبِ الآلهاتِ القدامى
ولكنّها رقصتْ
بضراوةِ نبضِ اتحادِ الأنوثةِ
في ذروة الصدِّ
مع ضعْفها،
بانحلال النّسيج الذي يصلُ الخصرَ بالموجِ،
بالصدرِ دونَ ظهيرٍ
سوى النار،
بالشَّعر إذ يتطايرُ عصفاً
وبالرِّدف مغمىً على حوضهِ،
وبأقدامِ كلِّ الخليقةِ
باحثةً وهي ترسُبُ في الخوفِ
عن برهةٍ للأمانْ
رقصتْ باحتدامِ الجوارحِ،
بالعشقِ مختنقاً
يستحثُّ بلا أملٍ زفرة الروح،
بالإفتراس المضافِ
إلى لهفة الجسد الشاعريِّ،
وبالنّفس مخذولةً فوق جثة أقدارها
رقصتْ
مثلما ترقصُ امرأةٌ
في مزاد التمزُّق بين الخياراتِ
فيما،
على طبق الإنتصار لخيبتها،
كان ينتقم اللحمُ من نفسهِ
حيث يمضي إلى حتفهِ
في مقايضةِ الرقصِ بالرأسِ
أكثرُ من معمدانْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* هي المرأة التي رفضت أن ترقص للحاكم الروماني هــيرودس إلا بعد أن أحضر لها رأس يوحنا المعمدان (النبي يحيى) على طبق من فضة.
** من مجموعة تصدر قريباً عن دار الآداب بعنوان (إلى أين تأخذني أيها الشعر).
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-10-23 على الصفحة رقم 9 – السفير الثقافي