الثلاثاء 16 أبريل, 2024

دراسة في أدب الشيخ فضل مخدّر

دراسة في أدب الشيخ فضل مخدّر

دينا خياط

514-1

523-11960871_10202499546609426_7301993193549992528_oشاعرنا إن حكى، فهو حكيم يتحدث الفلسفةَ بنبرة متواضعة .. وشاعرٌ لم يمنعه موقعُه الديني كشيخ جليل من أن يكتبَ الشعرَ المقاوِم إلى جانب الشعر الغزلي العفيف، وكأنَّ الوقار أعطاه عذراً ليكتبَ لنا الغزلَ بوحاً صريحاً لخفايا العاشقين وخباياهم، وإن على استحياء، وهو يحاول أسر معاني الحب… إضافة إلى براعته كرسام وفنان تشكيلي.

وهو على الرغم من ولادته في الكويت ونشأته فيها، إلا أنَّ هوى الجنوب متأصلٌ في قلبه وروحه، ويتمثَّلُ واضحاً في كتاباته الأدبية والشعرية .

نبدأ من روايته الأخيرة “اسكندرونة”، حيث برعَ كراوٍٍ قصصي، في سرد أحداث ونقل صور من أرض المعركة، عبر استرجاع أخبار الشباب المقاوِم، وذلك عبر حوارٍ سرديّ مشوّق بين بطليّ القصة “هاتف” و”رنين”، الذي كان يدور بينهما عبر آلة الهاتف. الحوار يتيح للبطلة رنين الإستماع باندهاش عن دور أبطال المقاومة وكيفية تحركهم على الأرض لدحر العدو الإسرائيلي، لنشعر من خلال الحوار بالتماثل والتماهي، فنتفاعل معهما، وكأننا نعيش في قلب الحدث.

513-1ومع هذا، فإن الحب لم يغب عن روايته “اسكندرونة” ، وكأنّما الحب دافعٌ آخر ومحفّز قوي في زمن السلم والحرب معاً . فننتظر مع البطل “هاتف” موعد لقائه والحبيبة ، ولو من بعيد، ونسمع تسارع نبضاته عند اقترابه من منزلها…

في كلمات الرواية يضيء الليل والحب والعصافير وأرض الجنوب ورائحة ترابه التي تشهد على حبهما الطاهر.

أما البطلة “رنين”، ففي طيّات الأحداث التي تحفل بها حياتها الكثير من الوقائع أو التي تذهل بدقتها، فهي المرأة التي ارتضت أن ترتبط برجل أرمل لتكون زوجة أب.

المجتمع … لا يرحم … لا يقدّر تضحياتها … ليطلقَ عليها الأحكام جُزافاً، وحتى المسبقة، لدرجة مقاطعتها إجتماعياً فترةً من الزمن.

أما من ناحية الرواية والسرد ولغة الحوار، فإن الشيخ فضل مخدّر وضع في هذه الرواية الكثير من نفسه. وهو لم ينقل لنا الواقع المقاوم بصورة سردية جافة .. فكان رميُه (معنى مجازي) لبعض النكات هنا وهناك أثناء الحوار، تأثيرَه المحبب لعدم الوقوع في الملل مع استخدام جميل للغة المحكية الجنوبية والأمثال الشعبية (تتمثل بشخصية الحاج نعمان) مما أعطى الحوار حياة وحيوية أكبر.

وبين جناح السارد للرواية، وجناح الشاعر المتأمل، تتحرَّك الأحداث. ما يجعل من الرواية تصلح لتكون مسلسلاً يؤرخ لحقبة مهمة من تاريخنا، أو أن يرفدها جزءٌ آخر ثانِ، إذ ترك الكاتب نهاية الروايه معلّقة على إحتمالات عدة.

هذه الخاتمة الهوليودية تركت الأحداث وخيال القارئ مفتوحينِ على خاتمات محتملة عدّة، ومما لا شكَّ فيه أنها تركته في حالة صدمة عندما اكتشف في النهاية أن اسكندرونة ما هي إلا منطقة عبارة عن شواهد لقبور أشخاص عاشوا فيها وماتوا لنحيا نحن بعزّ وكرامة.

ويبقى للتراب أثره الخاص في نفس ضيفنا الشاعر الشيخ فضل مخدّر، وكأنما التراب هو المحور، حيث يختلط الدنيوي والديني عند فكرة أننا من التراب وإلى التراب نعود. هذا التجذّر العميق بالأرض ما جاء عبئاً، فتراب الأرض هو لون الحقيقة، هو الواقع الملموس والمحسوس الذي يكوِّن سرَّ إرتباط وشريكاً في حياة.

64680_3382241254313_1105279572_nففي ديوانه “صلة تراب”، يمتزج الحب .. حبُّ الوطن وحبُّ الحبيبة. ليبدأ ديوانه بقصائد وطنية محورها الجنوب والـ 25 من أيار عُرسُه. فينادي بأعلى الصوت إلى الغناء والفرح والتعبير بفخرٍ عن هذا النصر الكبير، الذي أبى إلا أن يكون عرساً يشارك فيه الجميع، ليصبحَ تراب الجنوب وطناً للنجوم وللعُلا، يتحوَّل فيه رصاصُ البنادق إلى نغمةٍ وموسيقى.

فشاعرنا، في شعره عربيُّ عروبي، يخجلُ من موقف العرب المتخاذِل الذي بات دون وجه.

يدافع عن فلسطين الحجارة، والعراق المذبوح، لكأنما العالم المظلوم المكلوم إجتمع في ديوانه “صلة تراب”.. لكنَّ الأمل بالنصر باقٍ ولا بدَّ آتٍ.

من لبنان إلى فلسطين فالعراق، ترتدي ملحمةُ الأمل عند شاعرنا الشيخ فضل مخدّر ثوباً واحداً من العزّ، ووقفاتُ تحديَّات ونضالات وعطاءات.

“صلة تراب” يبدأه عشقاً بالأرض، لينتقل بنا إلى عشقه الخاص، فهو أسيرُ غرامه، الحائرُ بين البشر، الساحرُ المُسَامِرُ لضوء القمر. لا يكتفي فيها إلا بها .

موقعه الديني كرجل دين لم يمنعه أيضاً من كتابة قصيدته الغزلية “إلى محجبة” ، وما هذا إلا دليلٌ على انفتاحه الإنساني وبُعدِ الحب العفيف عن التزمّت، واعتبار أن المشاعر لا تُحجب وإن كانت الحبيبة محجبة، فهي إنسانة لها مشاعر وحقٌّ لها أن تُحِبَّ وتُحَبّ.

opac-imageلغته الشعرية جزلة تنساب بهدوء، تارةً عشقاً وحباً، وتارةً أخرى أزيزَ رصاص وقرعُ حجارة.

حرفه كبرياء من عُمقِ نزفِ جرحٍ أوجعَ الأعماق في أرضٍ جنوبية صامدة مكابرة، لا تذعَنُ أبداً لمغتصبٍ أو محتلّ.

سُكرُه نصرٌ، وخمرُه شهدٌ … والشعرُ بحرٌ والشراع جزرٌ ومد، يشحذ هممَ الخانعين لرسم مستقبلٍ شامخٍ، وليكونَ الإباءُ طرحةَ عريسٍ والدماء مهراً وعِقدا.

فالشيخ فضل مخدّر، رجلُ دين مجتهد. ولكن رغم ذلك هو فارسٌ شجاع خرج عن المتعارف عليه لدى رجال الدين، وأمتعنا في بعض قصائده حين برز شاعراً وطنياً، وفي البعض الآخر متغزلاً عاشقاً ولهان في حب صبية.

تجرأ شاعرنا أن يُعلنَ للملأ عن أسراره الجميلة وإنسانيته الراقية، ولم يخجل أن يُشركنا خصوصياته عند إهداء ديوانه “شقشقة قلم” علانيةً إلى شريكة عمره التي رحلت.

515أما في ديوان ” نصوص مسكونة” فحلَّقت به حروف الوجد إلى الأرفع من مدارات أفلاكها، فلحقَ بها وقلمُه أحرفُ الضوء دون انتقاء .. دون انتهاء.. دون مقاصد .. فنراه ينسخُ ما حلَّ به من رؤىً، كانت تلك العفاريت كأنها العفاريت، فوجدَ نفسَه مسكوناً بها، فنطقَ القلمُ، والحبرُ، والحرف، فانتشى بنارها.. فكانت له جاريةً عفريتةً في نصوصٍ مسكونة.

في الختام… إذا ما سمعنا شعر الشيخ فضل مخدّر الوطني طربنا، وحتى إذا ما قرأناه غزلاً سقطت من بالنا تلك الصورة الجافة المرسومة لرجال الدين. ما كتبه يستحق هذا التعاطي العفوي مع مشاعر القلب والجسد، ففي شعره رسالةً… إذ قادَ شعرَه إلى حيث لا يجرؤ الآخرون، وقادنا وراءه إلى صلاة جديدة هي صلاة الإنسان المليء بفطرة الخالق الذي لا عُقدَ فيه ولا إلتباسات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دينا خيّاط (إعلامية وأستاذة جامعية ـ وشاعرة) 

الدراسة منقولة عن موقع الإعلام اللبناني الدولي

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *