خمسون غراماً من الجنة
خمسون غراماً من الجنة… أسئلة الذاكرة
ايمان حميدان
هذه الرواية تكمل دائرة روائية، للرجل فيها صوته ولو لم تكن الروائية مهاجرة لما استطاعت أن تكتب عن المهاجرين، إنها الرواية الأولى التي أكتبها خارج لبنان. أراها تحاكي بشكل أو بآخر روايتي الاولى باء مثل بيت مثل بيروت، والثانية حيوات أخرى. أقفل مع روايتي الجديدة دورة مرتبطة بأسئلة الذاكرة، في مواجهة الحرب والعنف والهجرة. ذاكرة تشهد تغيّر مصائر الناس وانطواء أحلامهم في خزائن مقفلة. أشعر في هذه الرواية أنني أكملت دائرة ما. لكن الدوائر في الكتابة لا تنتهي، بل كل دائرة هي مقدمة لدائرة ثانية وثالثة.
في “خمسون غراما من الجنة” بقيت المرأة هي الراوية أولا وأخيرا. لكن قد تكون هذه المرة الاولى التي يدخل رجل بصوته المباشر الى روايتي، عبر رسائل كتبها كمال فِرات الصحافي التركي الى حبيبته نورا التي هربت من سوريا الى لبنان طلبا للأمن والحرية. صوت الرجل هنا هو صوت المرأة ايضا. هو ظل لها، هو مرآة ورفيق. العلاقة معه حرة وشفافة. لكن الأمر مختلف مع الشخصية النسائية الثانية “صباح” التي رسم حياتها ومستقبلها قرار عائلي، ولا أقصد هنا قرار الرجال فحسب بل نساء العائلة ايضا. أحيانا تلعب المرأة لعبة المجتمع والرجل بالعلاقة مع أولادها من الإناث، لأنها تخاف ولأنها اعتادت، ولأن الانصياع أسهل وعواقبه أقل خطورة من قول “لا” ومن النقد والسؤال ومن تذوق طعم الحرية. لكن عدم تذوق الحرية يشبه موتا صغيرا.
إنها تجربة الكتابة في مكان جديد، أي في باريس. أمر لم أعتد عليه. تجربة تبدو لي صعبة ومحفزة. لكنها تجعل من العلاقة مع النص ومع جهاز الكتابة (الكومبيوتر) أكثر حميمية وقربا. يصبح مكاني الخاص هنا، في تلك البقعة المضيئة الضيقة. يكفيني هذا. مكان حميم وخاص. أتآلف مع لغتي الغريبة عن المكان، والتي لا يفهمها أحد في المبنى حيث أقيم. نتصادق لغتي وأنا ونتصارع. أجد في الغربة قوة أكثر لتطويعها، وهي أحيانا تقاومني وتخبئ عني مفرداتها. أشعر لوهلة بأنني ربما نسيت الكلمات في وطني الأم. لكن رغم ذلك، وفي هذا المكان الغريب بالذات، وجدت لغتي أكثر رحابة، أكثر ألفة وتتسع لذاكرة وتعبير لم أجرؤ على مواجهتهما من قبل. لغة تتسع لخيال يواجه الرقيب بقوة.
أنا المهاجرة، كتبت قصة نساء مهاجرات. ربما لم أستطع الخوض في موضوع مشابه لو أنني لم أعش تلك التجربة. كذلك الكتابة عن مدن أخرى الى جانب مدينتي بيروت. كتبت عن النساء اللواتي يهاجرن لأسباب عدة. بدءا من لقمة عيشهن كالعاملة الآسيوية مالا، الى المرأة التي سافرت لمتابعة الدراسة مثل مايا أو العمل في المجال الصحافي مثل نورا أو لأسباب اخرى مثل سفر صباح. واذا أردت اختصار اسباب هجرة النساء لكتبت كلمة واحدة فقط هي: العنف!
حين كتبت الكلمة الاخيرة في الرواية وجدت نفسي أكتب تحتها: باريس ربيع 2015
لا بد ان هذا المكان الجديد ايضا صار جزءا مني ومن كتابتي.
لذا أشعر بالخوف الآن من أن يصل اليه عنف هربت منه ولم أعد أستطيع مواجهته.
نشر في السفير بتاريخ 27-11-2015