“حدائق الصمغ” ل حسن فالح
الأدب الكابوسي في كتاب “حدائق الصمغ” ل حسن فالح
بروكسل – أمل الراغب
من الواضح مؤخرا أن الروائيين يعودون إلى فن القصة الذي تراجع بشكل كبير منذ مدة، والذي كان الكاتب عادة يبدأ به قبل اقدامه على كتابة الرواية، أما اليوم فالأمور أنعكست.
بعد روايتيّه تاكسي كروان وقارئ الطين، يعود إلينا القاص والروائي العراقي حسن فالح بمجموعة قصصية بعنوان حدائق الصمغ الصادرة عن منشورات المتوسط-إيطاليا-2017.
عبر خمس عشرة قصة رحل بنا الكاتب إلى عالمه الخاص، الجريء، المتفرد. عالم لا يشبه الواقع أبدا، بل يذهب عبر تأوهات الواقع إلى التخيل العجائبي المبالغ به في إيصال المعاناة للقارئ بطريقة غير مألوفة. هي قصص تنتمي إلى الأدب الكابوسي أو الأدب السوداوي، وهو أدب غير معروف بشكل واسع لدى فئة كبيرة من الناس، وسمي بالأدب الكابوسي، لأننا من خلال قراءة القصص نشعر أننا في كابوس ما لا يحكمه منطق أو عقل، ولا نستطيع توقع أي شيء فيه. تماما كما يحدث عندما نرى كابوسا ليليًا، نرى أنفسنا نتحول إلى أشياء أخرى، مرة نطير ومرة تظهر أمور غريبة لا تفسير لها.
حسن الكفكاوي
في هذا الأدب لا يوجد منطق يحكم القصة ولا قيم بالمعنى المعتاد. بكل بساطة لا ضوابط لخيال الكاتب فيها.
وبما أن مؤسس هذا الجنس الأدبي يدعى فرنس كافكا مؤلف رواية المسخ، فقد وصفت هذه القصص بالكفكاوية، وأرجح أن يلقب الكاتب نفسه بعد مدة باللقب عينه ليصير حسن الكفكاوي. وهذا ما يدعوني للتساؤل هنا، لماذا علينا دائما تكريم الغرب والتمثل به؟ هل الإبداع والتميز حكرا عليهم؟ أليس لدينا عقول وأخيلة مثلهم؟ أم أننا طفيليون نقتات على نتاجهم، فنهرع لاقتناء الكتب المترجمة في حين لدينا كتّاب تبدع وتكتب، إلا أن الكتاب المترجم له قيمة أخرى في نظرنا لا نجدها لدى كاتب عربي.
أجد أن هذا الوصف هو تقليل من شأن الكاتب وليس تكريما له ولقصصه، لأنني أراه كاتبا في هذا الجنس الأدبي بالفطرة، وهذا ما لمسته من قراءتي لروايته السابقة قارئ الطين التي كشف فيها عن جانب الخيال الغرائبي بفكره، لتأتي هذه المجموعة -الصريحة- وتؤكد نظرتي بقلمه. لذلك أتوقع له مستقبلا ناجحا في هذا المجال فقد صعد اليوم الدرجة الأولى على هذا السلم.
ثورة على الذات
رغم عجائبية القصص التي تبدو للوهلة الأولى أنها لا تمت للواقع بصلة، إلا أن كل واحدة منها تحمل همًا من حياتنا اليومية، حوّله الكاتب إلى رموز غريبة ليعبّر عن معاناته وحزنه وينقلها للقارئ. فنراه مرة يتحول إلى ديك أو نملة ليمرر من خلالها رسائل عدة ضد التطرف، ومرة ينبت الشوك في جسده ليصير مثلة زهرة الصبار. تارة يأكل زوجته، وتارة أخرى يرى رأسه مقطوعا أمامه. هذه ليست قصص رعب كما سيعتقد بعض القراء من عرضي الموجز لهذا الكتاب، لكنه الواقع المجرد من أي تبرج ليظهر بشاعته كما يراه هو.
لقد حمل الكاتب على عاتقه في هذا الكتاب، ثورة على الذات والموروثات وجميع ما حوله، أراه في حالة تمرد يبحث من خلالها على أيجاد نفسه أولا. يرى نفسه لا يشبه ما يحيط به، لذلك يعيش في خياله الغريب، ولا ينفك يتحول إلى أشياء أخرى للهروب من الجسد المسجون فيه وهذا الجسد هو الواقع. هو يبحث عن الحريّة في أفكاره، عن نبذ التطرف، الخوف، النفاق، والارهاب، يفتش عن الابتعاد عن كل ما يغرقنا في حدائق الصمغ التي نعلق فيها ولا نستطيع الخروج منها، وإذا ما حصل ونجونا، فلا بد أن يعلق على أجسادنا البعض من صمغها. وهنا سؤال آخر يطرح نفسه، لماذا سماها حدائق الصمغ وليس حديقة مفردة؟ هو يرى أن هذه الحدائق الصمغية متعددة وموجودة في كل مكان وهذا يعني أن ثورته ليست ضد مشكلة واحدة وإنما مشاكل عدة.
أبجدية خاصة
يعتمد حسن فالح على إنشاء أبجدية خاصة به في جميع أعماله، فمن يقرأ له مرة، يستطع أن يتلقف كتاباته بعد ذلك حتى لو لم تكن موقعة باسمه، لغة راقية سلسة يتفنن فيها ويضيف بصمته عليها بانتقاء مفردات قل تداولها. لقد استخدم التكثيف في الجمل القصيرة هنا، فكانت القصص مشوقة ذات حبكة محكمة الإقفال. وأكثر ما يمتاز به هو الحرية والجرأة في التعبير، متخليا عن القيود التي يضعها كثير من الكتّاب على أقلامهم.
في النهاية أقول أن هذا الكتاب غير موجه لقارئ يبحث عن التسلية عبر قصص، أو لقارئة تبحث عن الرومانسية والحب، رغم أن القصص لم يخلُ بعضها من الحب لكنها كانت غريبة عن الحب المعتاد فنرى حبيبته بقدم واحدة تتحول إلى طائر، وأخرى بعين زجاجية. هي قصص موجهة للقارئ الذي يعرف كيف يفك الرموز ويخرج الرسائل المبطنة. وإلا ستبدو، مثل قصص أليس في بلاد العجائب، لكنها موجهة للكبار.
جريدة الانوار : 6/2/2018