الخميس 28 مارس, 2024

تقنين التواضع

تقنين التواضع

علي راضي ابو زريق

ali rady-1

قرأت خبر نعيه هذا الصباح، فتذكرت نصيحته لي بتقنين تواضعي. رحمه الله كان رجلاً ذا منظر مهيب وقور طويل القامة رياضي الجسد زاده المنصب الوزاري إجلالاً، وجلب له تدينه احترام العامة والخاصة. وقد حضرت بمعيته عدة مؤتمرات دينية.

وبعيداً عن المؤتمرات المشتركة بيننا التقيته مرة في فندق فخم في مدينة الدار البيضاء. ورآني اقف باهتمام مع مراسل في الفندق. شدني للجلوس إلى جواره وبدا على جبينه الجاد سيماء حزم أوشك أن يخيفني لولا أنه صديق وتقوم علاقتنا على الاحترام المتبادل والتقدير الحقيقي. واستعجل قائلا: علي! يجب أن تُرَشِّد احترامك للناس!

لم افهم بدقة ما أراد لكني دافعت عن طبعي باحترام الآخرين بأنني تربيت على احترام الإنسان المجرد منذ النشاة المبكرة. فأبي رجل صوفي عرفاني يتباهي بمنزلة ” فقير” كبقية أهل التصوف. ومعها يعتز بالإنسان الذي في داخله، وعلى ذلك رباني. فأنا ما زلت على تلك التربية التي دعمها عدم انشغالي بالأشياء المادية والممتلكات. فلم يعطني الله يوماً فوق حاجتي. ولكني لم احتج أحداً منذ استقلالي عن أبي. وبذا اشتغلت بتهذيب نفسي وتنمية الإنسان الذي في داخلي حتى استحق احترامي لذاتي، وإكراماً لإنساني الذي في داخلي صرت أحترم كل إنسان، متوقعاً أن في داخله إنسانا كالذي في داخلي مهما كان مظهره او عمله ما دام من ذرية آدم وحواء.

قال  صديقي المرحوم: إني أعرف عنك كل هذا وأعرف كيف تفكر. لكن مظهرك هذا ومحياك الذي يوحيان أنك ابن نعمة. ضحكت وقلت هذه مشكلة ترافقني منذ الصبا فما رآني أحد لا يعرفني من قبل إلا ظن أنني ابن مليونير أو أنني شديد الثراء.

قال : نعم هذا ما يستنتجه كل من يراك. وعليك أن تعلم أن هذا المظهر الذي أنعم الله به عليك مسؤولية ذات أبعاد خطيرة، ويجب عليك معرفة تلك المسؤولية بكل أبعادها، ومراعاتها حتى لا تظلم أحداً دون علم منك أو تقع بمصيبة لا تستحقها.

هربت الابتسامة من وجهي نتيجة قوله وسألت: ولكنك بدأت بالحديث عن ترشيد احترامي للناس فأين الخطورة في ذلك.

قال : لأني أثق بك وأعلم انك تثق بي ساروي لك قصة لم أحدث بها أحداً من قبل. ولا يرويها عادة مثلي لأن الناس يميلون لسوء الظن.

قلت: ولكنك عندي فوق الشبهات وتعلم أني لا أسيء الظن بمعاليك.

قال: قبل أشهر نزلت لليلة واحدة في فندق فخم كهذا وفي هذه المدينة. ولم أنزل به هذه المرة نتيجة القصة التي سأرويها لك. كانت إقامتي في الفندق استعدادا للسفر في اليوم التالي من مطار الدار البيضاء. وقبلها كنت أحضر مؤتمرا في مدينة فاس. وصلنا الفندق ضحى. وارتحت قليلاً ثم مشيت على شاطئ البحر مع أحد الأصدقاء من الوزراء العرب الذين حضروا المؤتمر . وبعد الغداء عدت إلى الفندق لأرتاح بعد يومي الشاق.

قبل أن أغفو اتصل بي صوت نسائي حياني بلطف ولكني لم أعجب بنغمة الصوت فلم أشأ أن اطيل الحديث؛ فقالت هل آتي إلى غرفتك لثوان . احترت في الأمر وقلت تفضلي! طُرِق باب الغرفة، ففتحته فإذا بها شابة تلبس زي عاملات النظافة في الفندق. وبمجرد فتح الباب اسرعت إلى السرير وجلست والقت بنفسها وقالت أنا تحت أمرك. ظننتها عاهرة تريد مالاً، فقلت لها: ولكن ليس معي مال لأكافئك به فقد سُرِقت محفظتي، ظناً مني أنها ستغادر الغرفة فور سماعها هذا الخبر. لكنها قالت، لا أريد منك مالاً . أنا أحببتك من أعماق قلبي. فافعل بي ما تشاء. قلت لها :أنا الآن متعب فقد جئت بحافلة ركاب كبيرة من فاس إلى الدار البيضاء ولا أستطيع عمل شيء، فإن أردت إكرامي فاذهبي الآن، وعودي غدا الساعة الثامنة صباحا أكون قد ارتحت. واتركيني الآن انام لأنني متعب. ولكن قبل ذلك ما الذي جعلك تحبينني إلى هذا الحد؟ قالت: عندما قلت لي صباح الخير ساعة الضحى أحسست أن قلبي يطير من صدري من شدة الفرح.

فهمت الذي فعلتُ بها. فلن تعتد أن يحييها شخص بمثل مظهري. وصرفتها متأملة بانتظار لقاء الغد الذي لن يكون. وبدأت أتذكر متى قلت لها صباح الخير. فتذكرت أنني عندما جئت لاستلام الغرفة مع  موظف الفندق شعرت بوجود شخصِ عند الباب فالقيت عليه تحية الصباح دون أن التفت إليه، ولم أُفكر به إن كان ذكراً أو انثى. وأظنها أنها هي التي كانت عند الباب وتلقت تلك التحية التي كانت ستهلكني لو كنت شاباً مثلك.

قلت : حاشا لله أن تقع بها. ولكن  كيف تدبرت أمرك في الصباح التالي؟

قال: لم يكن صباح تالٍ، فكنت أعلم أنني ساغادر الفندق قبل الخامسة صباحاً لأن طائرتنا إلى عمان انطلقت تمام الساعة الثامنة.

 قلت : أي أنك لا تريدني أن أجامل أحداً من عمال الفندق ومراسليه .

قال : أعلم كيف تفكر، وأشعر باستنكارك لنصيحتي . ولكن ليس ذنبنا أن المجتمع دمر هذه الفئة نفسيا. فلم يعودوا قادرين على تحمل مجاملتك المقدمة بإكرام واحترام. ولكن لا بأس أن تجامل من يعرفك ويفهم قصدك مهما كان مستواه، وهذا ما قصدت بترشيد تواضعك الكريم.

تذكرت هذه القصة وأنا أقرأ خبر نعيه صباح اليوم، وبدأت أضع خطة يومي لأتمكن من تقديم واجب العزاء حيث لا قيمة لعزائي برجل على تلك الدرجة الاجتماعية العالية. وبالمقابل تراقصت في ذاكرتي  نصيحته بترشيد التواضع للفقراء بحيث لا نؤذيهم. واذكر الآن وبعد مرور عشرين سنة على تلك النصيحة، كم تعبت وأحرجت نفسي وأنا أحاول تطبيق نصيحته المخلصة رحمه الله.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *