الخميس 28 مارس, 2024

الهرمينوطيقا: مقاربة المفهوم

الهرمينوطيقا: مقاربة المفهوم

عمارة الناصرthaqafah-1

 الأفكار المتعلّقة بالظواهر الطبيعية والاجتماعية والمعارف المرتبطة بمحاور الإنسان والتاريخ والوجود، ولكلٍّ من هذه الظواهر والمعارف خصائص عميقة تساهم في توجيه الحقيقة داخلها، غير أن تلك الخصائص تفلت من قبضة العلم، لأنها تتلون بلون الظاهرة وما هي بالظاهرة، وتأخذ شكل الحقيقة وما هي بالحقيقة، إنها تظل مختبئة في الشروخ والتصدعات التي يخلفها الفرق بين وعي غير مكتمل وظاهرة تامة التكوين، وبالقفز فوق هذا الفرق يحصل الوهم.

وليس من سبيل للإمساك بتلك الخصائص العميقة وترميم الشروخ والتصدعات والإطاحة بالأوهام إلا بتثبيت تمظهرات الحقيقة المختلفة بالكتابة، فإنها إن ثُبِّتت كانت قُبالة الذات بكليتها وأمكن حينها حصر الأفهام ومراجعتها بالقراءة، وفي الدائرة التي ينشئها جدل بين الكتابة والقراءة يعمل التأويل، والتأويل إذ يكتشف الفن كمكان للحقيقة، فهي الطريقة التي بها يستدرج العالم إلى الكتابة، ثمَّ يحرّر الكتابة من جمودها ويخلّص المعنى من رتابتها بفعل القراءة، وحينها ينتشر عالم النص ويتم الإمساك بالوجود الذي هو شرط في إقامة الحقيقة، ونطلق على مجموعة أفعال التأويل هذه، بالهرمينوطيقا.

الهرمينوطيقا: مقاربة المعنى

إنَّ التحول من مقاربة الطبيعة إلى مقاربة النص حمل معه مجموعة من المعطيات يتمُّ إنجازها ضمن خطاب من الكلام والكتابة، ومن بين تلك المعطيات الانتقال من تفسير الظاهرة إلى فهم المعنى، ذلك المعنى الذي لم يعد ذاك المستهلك في القراءات المنطقية والنظرية والمنهجيات الإنسانية الصارمة، التي يلفّها الوهم الناتج عن فكرة الإنجاز التَّام للغة الحاملة للمعنى، بحيث يمكن إخضاعها لمنطق الصدق والكذب، وهو ما استدعى في كلّ مرّة قراءة لتحرير هذا الخطاب من الأوهام الثاوية في الشروخ العميقة، التي يخلفها صدام المنطق باللامنطق والمعنى باللامعنى، وكذا تخليص المعنى المغمور تحت رتابة الكلمات والأصوات والتراكيب التي تجمعها.

وفي مقاربة أولية يمكن تعريف الهرمينوطيقا الفلسفية – حسب ريكور – كتأمّل حول عمليات الفهم الممارسة في تأويل النصوص(1) وترتبط الهرمينوطيقا كفنٍّ للتأويل بالنص كنائب عن العالم، وعلى التأويل أن ينجز الخطاب الذي تحمل فيه اللغة العالم إلى النص، فالهرمينوطيقا هي نظرية عمليات الفهم في علاقتها مع تفسير النصوص، هكذا ستكون الفكرة الموجهة هي فكرة إنجاز الخطاب كنص(2) وتمثل الهرمينوطيقا النشاط الأكثر فعالية لجهد الذات في تحصيل الحقيقة وتخليصها من الوهم الذي تفترضه شروط إسكان هذه الحقيقة في الخطاب المتصل بالكتابة وتوسط الرموز وغموض العلاقات، وعليه تقوم الهرمينوطيقا بتجهيز الفهم بقاعدة أنطولوجيّة ذاتية لاستقبال الحقيقة وخطابها ضمن ظروف تاريخيتها، فهي تمكنه من مزامنة اللحظة التي تتمفصل فيها الكتابة مع المعنى دون افتراض هويّة مأخوذة من المنطق أو من الميتافيزيقا.

فالتأويل يستمدّ فاعليته من تحليله للوجود الذي يسبق المعنى وإلحاق الفهم به، ومنه يتمكن من فهم العالم من خلال استعادة علاقة الفكر بالوجود إلى سكنٍ تستطيع الذّات أن تثبته لتراقبه وترصد حركة الدلالة فيه، وهذا السكن هو اللغة، ولكي تحمل اللغة الوجود ذا الدلالة يجب أن تكون خطاباً، والخطاب يتضمن الحامليّة(3)، تلك الفاعلية النصيّة في إصدار العلامات والرموز.

الهرمينوطيقا وعالم النص

لقد أعاد هيدغر توجيه الفكر إلى أصالة الوجود ومنه العالم الذي يتحرّك فيه، إذ يرى أننا لم نجد لحدّ الآن مدخلاً إلى كينونة الفكر الخاصَّة به بحيث نقيم فيها، وبهذا المعنى فإنّنا لا نفكّر بعد على نحو خاص.. لم نتمكن لحدّ الآن من التعرّف بما فيه الكفاية على العنصر الذي تحرَّك فيه الفكر من حيث هو فكر(4)، فإذا كان الفكر يستطيع أن يمسك بنفسه من حيث هو فكر، أي أن يتمثّل نفسه في اللحظة التي يقدم فيها جهداً تأملياً، فإنه يقوم بخلق عالمه الذي يتحرك فيه حيث يتم تثبيت تعبيرات جهده من أجل الوجود، هذا العالم هو عالم النص، حيث تقوم الكتابة بتثبيت الدلالات التي في الوجود، فالكتابة وحدها يمكنها أن تحيل إلى عالم ليس هنا بين المتخاطبين، إلى العالم الذي هو عالم النص، والذي مع ذلك ليس في النص(5)، ففي عالم النص مدخل إلى كينونة الفكر بحيث يتم استدعاء معناها وتثبيته بالكتابة، لتتمكن الذات من تأويله وفهم رموزه.

إن مهمة الهرمينوطيقا هي فتح الذات على عالم النص لاكتشافه، وهي في هذه المهمة لا تشبه التفكيكيّة، حيث التفكيك أقل إبداعاً وأقل مرونة، إذ يعمل على لَيّ عنق النص ليقول ما ليس فيه، بل وما يتناقض مع قدرته على الانقذاف خارجاً، بينما تكون مهمة الهرمينوطيقا حسب ديكور: البحث داخل النص نفسه، من جهة عن الدينامية الداخليَّة الكامنة وراء تَبَنْيُن العمل الأدبي، ومن جهة ثانية البحث عن قدرة هذا العمل على أن يقذف نفسه خارج ذاته، ويولد عالماً يكون فعلاً هو (شيء النص) اللا محدود، إنَّ الدينامية الداخلية والانقذاف الخارجي يكوّنان ما أسميه عمل النص، ومن مهمة الهرمينوطيقا أن تعيد تشييد هذا العمل المزدوج للنص(6).

الهرمينوطيقا والمنهج

عرفت العلوم الإنسانية – منذ هوسرل – انعطافاً هامّاً داخل المقاربة المنهجيَّة لمواضيع المعرفة، حيث فتحت الظواهرية عالم الذات على الوجود الأصيل للظواهر، وأعادت تشكيل الوعي بما يمكنه من مقاربة عميقة لموضوع المعرفة، وظهرت بعد ذلك منهجيات عديدة من تقويض وحفريّات بنيوية وتفكيك.. وكلها تعتمد قواعد ومعايير لمقاربة النصوص واستخراج الحقيقة، غير أن الهرمينوطيقا ليست منهجاً للحصول على الحقيقة، هي ليست منهجية للعلوم الإنسانية، وإنما هي محاولة من أجل فهم ما في الحقيقة.. وما يربطها بكلية تجربتنا في العالم(7)، ففهم العالم وتأويله من خلال اللغة التي تحمله يستند إلى ذات واعية بوجودها الساكن في هذا العالم نفسه، وعليه يمكن طرح السؤال: هل تتضمن كل محاولة للحصول على الحقيقة وفهم تمظهراتها في الحياة المكتوبة على منهجية ما؟

يرى غادمير أنه ليس ضرورياً وضع منهج للفهم العلمي، فالذي يهمنا هو المعرفة والحقيقة، والظاهرة التأويلية ليست – مطلقاً – مسألة منهج(8)، هذا لأن المنهج يتحول إلى غاية معرفية في حد ذاتها كما هو الحال بالنسبة للبنيوية، وهذا ما يزيد في المسافة ويكثف العماء الذي بين الذات وموضوعها، ففي حين تعتقد المناهج العلمية أنه بإمكانها رصد موضوع المعرفة في كل تمظهراته، واستدعاءه خطوة خطوة إلى فهم عميق وواضح بواسطة تعليق الذاتية، فإن هذا الموضوع كما يرى هيدغر: لا يمكننا أن نرغمه من جانبنا على المجيء، وذلك حتى في أفضل الحالات، حيث ندركه بعمق ووضوح، لم يبق بوسعنا إذن ما نعمله سوى أن ننتظر حتى يتوجه إلينا هذا الذي يجب التفكير فيه ويقال لنا(9)، وما الانتظار إلا التأمل الداخلي لما يكون قد استقر في الذات، أي التفكير فيما تمّ رصده بالقراءة وهو عمل التأويل.

وعليه فالهرمينوطيقا تقوم على استراتيجية تنفلت من المنهجية، إذ تقوم باستدراج الوجود إلى اللغة لتستطيع الإمساك بالكائن وفكره من خلال رمزيته داخل عالم اللغة، فالوهم يحصل من الاطمئنان إلى حماية المنهج الذي يقفز فوق الكينونة الأصلية لموضوع المعرفة وللكائن العارف.

الهرمينوطيقا والمنطق

 لقد أشار غادمير إلى أن محاولة دلتاي (Dilthey) ترمي إلى توسيع التأويلية إلى أبعاد أورغانون لعلوم الفكر(10)، غير أنَّ هذه المحاولة لم تَعْنِ أبداً، في بداية تشكّل معالم التأويلية، أن التأويل يتضمن منطقاً ما، وتبرز إشكاليَّة النص، هل يفهم من خلال جماليته أم من خلال منطقيته؟ وقد لاحظ غريش (Grisch) في مبحث الهرمينوطيقا والمنطق أنه لا يوجد تأويل صحيح للنص، وإنما توجد تأويلات متعددة(11).

وبهذا فإنّه ليس للتأويل منطق خاص يمكن الحصول من خلاله على نتائج صحيحة، وتكون الحقيقة الهرمينوطيقية حقيقة إمكانية، لا تخضع للمبادئ المنطقية، أي أنّه لا يمكن أن نميز بين تأويل صحيح وتأويل غير صحيح، وبناءً على هذا المبدأ يكون الكاتب هو أفضل مؤول لمؤلفه(12)، لأنه الوحيد الذي يمتلك المعنى الأصلي لهذا النص، ويكون كل تأويل انزياحاً جزئياً أو كلياً عن هذا المعنى.

وإذا لم تمتلك الهرمينوطيقا منطقاً، فإنها تمتلك دينامية لاقتحام النصوص، للتعامل مع الرموز والعتامة المكثفة داخل الكتابة، هذه الدينامية، ليست إلا ظاهرة المساءلة، وفتح حوار مع النص ليقول أكثر ما فيه، والمساءلة ذات البنية: سؤال/ جواب، تدل ابتداءً على عدم امتلاك النص من طرف المؤول، وهذا يعني أن الظاهرة التأويلية تحمل في ذاتها الحوار الأصيل ذا البنية: سؤال/ جواب، فعندما يطرح النص نفسه كموضوع للتأويل فهو يطرح سؤالاً على المؤول، وبهذا المعنى، فالتأويل يحتوي دائماً على إحالة مهمة للسؤال المطروح على أحدهم، وفهم النص هو فهم السؤال وهو ما ينتج الأفق التأويلي(13)، فبواسطة السؤال لا يتم الحصول على إجابة فقط، وإنما على تأويلات متعددة ومتصارعة تقوم بإنجاز عالم النص الخاص وتشكيل كينونته.

إن النص يتقدم إلى الفهم – ابتداءً – ككينونة، أي أن الشيء الذي يقوله النص يوجد ولا يمكن البرهنة عليه منطقياً، وكينونة (شيء النص) هي أولى الرموز التي ينبغي على الهرمينوطيقا أن تفهمها، وتعيد تمظهرها في خطاب من الكلام والكتابة، دون أن تتخذ طريقة منطقية للبرهنة والتدليل على أشياء النص.

حدود التأويل

هل آفاق النص هي آفاق منهجية؟! سؤال يحرج المؤول ويجعله يعيد رسم الخارطة التي يوزع عليها منتجات الوعي المرتبط بالنص، وهذا ما يمكن تسميته بـ: (جغرافية النص) التي تضع حدوداً لكل تأويل، فالمعاني القابعة في الزمن المجمّد داخل الكتابة، لا يمكن أن تتعدّى مستوى الظهور الذي يتأسّس بمستوى الفهم أو الشرح المبدئي، وبهذا فالأفق الذي تنخرط فيه هذه المعاني هو أفق منتهٍ عند حدود الكلام والكتابة، وخارج هذه الحدود فإن هذا الأفق يتلاشى ويدخل مجالاً للوهم لا للحقيقة، لسبب بسيط هو أن كل تأويل إنما هو تأويل مكتوب، وكل مكتوب يحتاج إلى قراءة، وفي فعل (الاحتياج) ترتسم الحدود.

المقال منقول عن : 

http://www.kalema.net/v1/?rpt=110&art

ـــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

?* قسم الفلسفة: جامعة وهران، الجزائر.

(1) Grisch (lean), (L,Hermeneutique et la philosophie) in: Encycloedie philosophi que Universelle Tome (IV) Le discoursphilosophique Edit: P.U.F. Paris, 1998, P:1841.

(2) ريكور (بول)، من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل، ترجمة: محمد برادة، حسان بروقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الهرم، القاهرة، ط1، 2001م، ص58.

(3) الحاملية، مفهوم يعني إمكانية النص على حمل المعاني الأساسية، وهي الإمكانية التي تتحدد على أساسها مهمة تأويل ما.

(4) هيدغر (مارتن): التقنية – الحقيقة – الوجود، ترجمة: محمد سبيلا، عبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1995م، ص201.

(5) Ricoeur (Paul), Lectures III, Ausfrontieresde la Philosophie Eolit: Seuil, Paris, 1994, P: 286.

(6) ريكور، المرجع السابق، س25.

(7) Rartu (Richard) L,Homme Speculaire Trad: thieng Marchaisse, Seuil, Paris, 1990 P: 394.

(8) Gadamer (H.G) Verite et Methode les grandes Ligneso une hermeneutigue philosophigue trad: Pierre Fruchon, Seuil, Paris, 1996, p:11.

(9) هيدغر: المرجع السابق، ص200.

(10) Gadamer, op. cit. p: 286.

(11) Gadamer, ibid. p: 1843.

(12) Gadamer, op. cit. p: 1843 .

(13) Gadamer, ibid. p:393.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *