القراءة ضرورة
القراءة ضرورة
علي راضي أبو زريق
الفضول إلى المعرفة إحدى الغرائز الرئيسية في الإنسان. مثلها مثل غريزة التكاثر او غريزة البقاء. وهي أداة الإنسان لاكتساب المعرفة التي تقوم عليها حياته. وككل غرائز الإنسان يمكن أن تكون وسيلة تقدم الإنسان ورُقِّيه بين الناس فيرتفع بها قدره في مجتمعه. وبقدر ما يحسن استعمالها ويُجهِد نفسه بتوظيفها بالاتجاه السليم يعلو، وترتفع منزلته ويشعر المجتمع بالحاجة إليه. وإن عطلها أو أساء استخدامها صارت أداة سقوطه وسبب رفضه وإقصائه من المجتمع، أو إهماله وعدم الإلتفات إليه لعدم فائدته أو لما يسبب من ضرر أو اذى للناس حوله .
وغريزة الفضول هذه تبدو قدراً مقدوراً لا فكاك للإنسان عنه. فإما ان يجيد توظيفها فيعلو، أو يسيء استعمالها فينحدر، ويخسر مكانته في المجتمع. ذلك لأنها تعتمد على طاقة هائلة في تكوين الإنسان، هي طاقته العقلية المتقدة والتي تكره الفراغ. تكره الفراغ خاضعة بذلك لقوانين الطبيعة. فالطبيعة ترفض الفراغ. فإن حدث فراغ في مكان أو شيء ما تحرك وافد من بعيد ليملأ الفراغ بما يناسب نوعه. والفراغ هنا هو في المعرفة والمعلومات بكل أنواعها. فهي ما يثير الفضول وينجذب إلى عقل الإنسان. الذي خُلِقَ ليعرف وليعلم وليفكر ويستمتع بنقل المعلومات . فإن لم يستعمله صاحبه بالمعرفة من أبوابها أتته من غير بابها؛ فامتلآ العقل بالشائعات والأكاذيب والخرافات والفكر الفاسد.
والفراغ في مجال الذهن وفضوله إنما يصنعه الكسل ويركزه الجهل. فالكسل يحول بين المرء وبين التعلم. خصوصاً في مرحلتي الطفولة والصبا. حيث العلم في الصغر كالنقش في الحجر. يثبت ويزيد صاحبه جمالاً وقَدْراً بين أقرانه. والكسل يبقيه صغيراً في عين نفسه وعيون أقرانه. بل قد يزيده انحرافاً عندما يشغل قلبه بحسد الأقران الذين تفوقوا بنشاطهم وجدّهم. فيتحول الكسول إلى شخص منحرف مدمّر للمجتمع. وقد يعينه فساده على إساءة استخدام طاقة الفضول ليستخدمها بالتلصص والتجسس على الأقران والأقارب والجيران. وقد تقوده لانحرافات أخرى. فالتلصص الفضولي يرتبط عادة بالرغبة بمعرفة ما يفعل الناس من محرمات وما يقعون به من أخطاء.
نعم ، إلى هذا الحد ينحدر من يسيء استعمال غريزة الفضول أو يتكاسل عن استعملها فيما خلقت له. وبما أنها تبدأ مع الإنسان منذ الطفولة، فأفضل ما يشغلها من أفعال، إرادية، هو فعل القراءة. والقراءة تحديداً، وليس أي وسيلة أخرى لطلب المعرفة . ولا أقلل من أهمية وسائل المعرفة الأخرى. التي خلقها الله لتستعملها المخلوقات جميعاً لتواصل بها نموها، والانتقال بها من مرحلة عمرية إلى أخرى، كتعلم كيفية ممارسة نشاطات الحياة جميعاً. وهي أمور تكاد تكون جبرية أو شبه إرادية. لأن الكائنات عموماً والإنسان خصوصاً، لا تستغني عنها لتتقدم في العمر منذ الطفولة. وبعض ما يحصل عليه الكائن الحي بالتقليد هو امتدادٌ للعقل الغريزي كالخوف الذي يجعلنا نهرب من النار بعفوية. أو ما يلهم الحَمَلَ الوليد تجنب السقوط عن حائط مرتفع دون أن يعلمه أحد ذلك.
إذاً، فلا فضل لمخلوق باكتساب المعارف الأساسية التي لا تقوم حياته المادية إلا بها. وهي غالباً خبرات مشتركة بين الإنسان وبقية أنواع الحيوان. ويبقى الفضل لما يميز الإنسان وهي اكتساب المعرفة بالوسيلة التي لا يقدر عليها إلا الإنسان ، وهي القراءة.
ولكن لماذا نقرأ؟ نقرأ أولا لنتصل بالحياة. فليس بحي حياة أنسانية من لا يتلقى اساسيات المعرفة قراءة. لا أنكر أن كثيراً من أساسيات الحياة نتلقاها شفوياً من الأبوين وبقية العائلة . ونحصل عليها دون حاجة للقراءة. لكن ما يأخذه الإنسان من الأبوين والعائلة لا يمكن أن يزيد عما لديهم . وهم محاصرون بأمرين، الجيل والمحدودية، وسواء أكانوا أميين أو متعلمين. ولا بد أن يصل الإنسان حالة لا يستطيع الإكتفاء بما يتلقى ببيته ومحيطه، إلاّ إذا أراد أن يبقى أمياً، ويكرر حياة والديه لا أكثر، ويعيش حياة بسيطة لا يصلح معها للانتقال إلى مرحلة اجتماعية أرقى، وهو ما لا يطيقه هذا الزمن. وهي الحياة التي عاشها العرب منذ قرون حتى بداية القرن العشرين. فبدأوا الانتقال أفراداً من الأمية إلى عهد الكتابة والقراءة. وما زلنا نزداد كل يوم بالقراءة والتعلم، وإن لم نتحرر بعد من خصائص المجتمع الأمي الذي لم ينمُ بل يكرر نفسه. (مسلسل باب الحارة أنموذجا )
فلا مناص من القراءة. أولاً: لتغطية النقص فيما يتلقاه الإنسان من أبويه، لسد الثغرات التي لا بد أن توجد. فالمعرفة الشفوية ليست منهجية ولا أكاديمية. فلا بد من ثغرات فيها. ولا مجال لإكمالها وسد ثغراتها إلا بالقراءة. وثانياً: لمواصلة النمو والتقدم. والقراءة في هذه المرحلة يجب أن تكون منهجية وبناءً على مناهج يضعها خبراء في العملية التعليمية. ليحصل الفرد على معلومات شبه أساسية عن ضرورات حياته. وتبدأ عادة بلغته، يتعلم منها ما لم يلتقطه من أبويه.
- كطريقة الكتابة والقراءة وقواعد اللغة التي تعين على الفهم والقراءة النافعة.
- ثم يحتاج معلومات أساسية عن جسده ونفسه يتلقاها من كتب مدرسية مكتوبة بعناية وباسلوب مشجع على القراءة والتعلم.
- ثم التعرف على البيئة المحيطة وما بها، وكيف يتعامل مع عناصرها الحية والجامدة، وما ينفعه منها وما يضره.
- كذلك يلزم التوجيه في التعامل السليم مع الناس ابتداء من علم الحساب الضروري لحفظ الحقوق، ولتعلُّم قيم الأرقام التي لا تجامل بل تفرض قيمة العدل على كل من يتعامل بها.
وفي هذه المرحلة تزرع المناهج في نفسه حب العلم وحب القراءة. وتنتهي هذه المرحلة مع نهاية مرحلة المراهقة. وهنا لا بد أن تتأصل فكرة القراءة خارج المنهاج في نفس اليافع. فإن لم يحدث فقد لا يحدث مطلقاً.
ولكن ما هي الأمور التي يلزم اليافع قراءتها خارج المنهاج ليصير فرداً ينتمي لمجتمعه ويشارك بالحياة كمواطن صالح ونافع للمجتمع؟ لعل الأفضل أن تكون المطالعة الخارجية امتدادا للمنهاج الدراسي يختاره الوالدان بعناية. فلو أخذنا مواد اللغة فتمديدها يكون بالاطلاع على آداب الأمة، قديمها وحديثها، ليتعلم الفتى قيم أمته. والأدب كله يدعو لترسيخ القيم العُليا في نفس قارئه. ومن منهاج العلوم يواصل معرفة البيئة، التي يمكن أن تحرك غريزة الفضول عند صاحبها للازدياد من معرفة أسرار الطبيعة وسلوك الأحياء التي بها . وفي الناس غالبا شوق لمعرفة أسرار الفَلَك والجو. ويشتاق الفتى المتحمس لمعرفة قومه، فيدرس تاريخهم وأوضاعم السياسية في سالف الدهر. ومن الحسن ان يُوجَّه الفتى إلى محبة بني البشر والاهتمام بالشأن الإنساني بالحدود التي لا تتعارض مع الانتماء القومي والوطني. ومن منهاج التربية الدينية يوسع الإنسان معلوماته ومداركه بشأن دينه وراء المنهاج المدرسي. ومن المستحسن أن يتعرف على كل أديان قومه ومذاهبهم ليتمكن من إنضاج مداركه وتوسعة معارفه في هذا الباب، والتعامل معهم من خلال خصوصياتهم فلا يجرحهم ولا يحرجهم عندما تجمعه بهم الظروف. وتكون وظيفة الأدب هنا أن يزرع في نفس قرائه المحبة بين طوائف المجتمع الواحد. ويقلل من أهمية الاختلاف في الدين.
والمعرفة وسيلة لتقليل العداوة بين البشر من مختلف الأعراق والألوان والمشارب والمذاهب. فالناس أعداء ما جهلوا. والمعرفة تزيل الخوف وتزرع المودة بالحدود الممكنة. وتعلِّم تقبل الآخر المختلف. ولا سبيل لكل هذه المنافع سوى بالقراءة. فلا يمكن الحصول على كل هذه المعلومات الضرورية بالسماع. وهي كما نرى من أساسيات تهذيب الإنسان واعتباره منتميا لوطنه وقومه والبشرية جميعاً. وبمزيد من الاطلاع يعرف الإنسان حدود الأشياء. ويعرف كيف يتعامل مع الآخر قريباً أو مواطناً أم مجرد إنسان.
والقراءة في هذا الزمن السريع النشط الزم للإنسان من أي زمن مضى. فالاختراعات والاكتشافات تحدث كل يوم. وللاتصال بها ومتابعة التقدم البشري لا بد من القراءة. وإلا وجد الإنسان نفسه متخلفاً غير قادر على مسايرة الناس من حوله. واذكر ، قبل بضع وثلاثين عاماً، ان قال استاذ جامعي أميركي: إن الذي لا يتقن التعامل مع الكمبيوتر يعتبر أمياً لانه لا يجيد لغة مهمة ووسيلة معرفة اساسية للبشرية. ووصلنا زمنا تحققت به رؤية ذلك الرجل. ففي الكمبيوتر الأن نقرأ أخبار الدينا على مدار الساعة. ونقرأ بواسطته كتبا تراثية وحية من كل التخصصات . وبواسطته نتراسل. ألا يكون من يحرم من كل هذا أُمّياً أو شبه أمي؟.
ولا بد من الكتاب الورقي. فالكمبيوتر يقدم الكثير. لكن الإنسان العصري المنتمي لزمنه بكفاءة لا يستغني عن الكتاب. فالكتب الفكرية والعلمية الحديثة لا توجد على الكمبيوتر. ولا بد منها لمن يهتم على ذلك المستوى العالي. وأنصح أن يقرأ الإنسان كتاباً ثقافياً في الشهر. وفي وطننا العربي تقوم مؤسسات رسمية تقدم كتباً شهريةً مترجمة أو مؤلفة لمؤلفين كباراً عرباً وأجانب. وهي مليئة بالحكمة والخبرة. وهي تُباع بسعرٍ متيسر للمثقف. واضع على رأسها كتاب سلسلة عالم المعرفة الشهري الذي يباع بدولار واحد. ويقدم خيرة ما تصل إليه البشرية من معرفة وحكمة.
وأخيرا كيف نقرأ ؟ يتفاوت الناس بالصبر على القراءة كما يتفاوتون بسرعة القراءة والفهم. ومنهم الذي يركز ومنهم الذي يشت ويمل. فلا يُجبِر أحدُ نفسه على ما لا يطيق، وليراع ظروف تكوينه. ولعل قراءة عشرين صفحة مع استيعابها يومياً يفيد، ويُمكِّن القارئ من إنهاء كتابه الشهري مع فهمه وتَشرُّب معلوماتِه ورسوخ المفيد منها في نفسه. والقراءة كلها مفيد فمن لم يصبِر على قراءة الفكر الملتزم الجاد فيستطيع أن يجد ما يسعده ويفيده في الروايات والمجموعات القصصية . فإن لم يجد ضالته بها ولم يصبر عليها وهو أمر نادر، فإن من الشعر لحكمة. المهم أن نقرأ مهما كانت ظروفنا. والمقصود هنا القراءة التي تشارك بصنع قيم الإنسان وتصوراته وليس القراءة المتخصصة بمادة فنية . فتلك لطلب الرزق. وهي ضرورة حياة ولا تحتاج إقناعا ً لنمارسها. وما أجملها لو تجتمع مع قراءة الثقافة والفكر . عندها يجمع صاحبها المجد من اطرافه، والخير كلَّه، ويصير إنساناً ناضجاً حكيماً بحق وحقيقة.