قصة قصيرة

الفـتـيـلـة

الفـتـيـلـة

بهيجة العباسي

3odبعد وفاة زوجها فكرت الأم في الزواج من رجل آخر يسترها ويساعدها على تربية أبنائها الأربعة . تزوجت دون أن تراعي مشاعر أبنائها الصغار الذين كانت تكبرهم فتاة تبلغ عشر سنوات .

قبلت الأم بالزوج لطيبته وتواضعه ، في وقت تراه ابنتها البكر فاطمة الرجل الشرير الذي خطف ما بقي لهم في هذه الحياة (الأم) . فما كان أمامها سوى صنع المكائد وتفريغ الحقد بخفاء ملقنة إخوتها سموم أفكارها تجاه ذاك الرجل ، أما الأم فقد خفت مسؤوليتها وأصبحت سعيدة لأنها كونت أسرة متكاملة وهانئة ، لم تفكر يوما أنها أخطأت الاختيار أوأن يكون بأسرتها عود ثقاب غادر . كانت فاطمة هي التي تعتني بإخوتها الصغار إطعاماً وشراباً وتنظيفاً ونوماً ، فهي الأم الثانية لهم .

تخرج الأم للعمل بعد الفجر ولا تعود إلاّ بعد العصر ، إذ كان عملها بالمزارع ، هنا كانت فاطمة تجد الحرية لتلقّن إخوتها السموم التي تكنّها لزوج أمها وتحذرهم بعدم إخبار الأم بما يجري .

الزوج يتصرف على طبيعته التي اتّسمت بالجدية والمسؤولية ليكسب من جهة قلب زوجته ، ومن جهة أخرى ضمان عدم انحراف أبنائها والتصرف دون اعتبار لوجوده . تنجب الأم إخوة جدد فتزيد مهمة فاطمة ويزداد شقاؤها وتعبها .

ففقر الأسرة ،أجبر إخوة فاطمة من الأم على العمل في وقت الفراغ وهم صغاراً. محمد وأحمد لم ينعما طوال طفولتهما من عطل المدرسة ، لقد كانا يبيعان الخضر في الأسواق الأسبوعية . محمد ولد صالح كان يتبع نصائح الأب الجديد ويجمع المال ، أحمد طفل طائش يصاحب أولاد ميسوري البلدة، فكل ما يربحه يخسره في المقهى، وبدأ يميل إلى تدخين السجائر . كلما دخل للبيت إلاّ ووبخه زوج الأم ، حتى كره العيش بذلك البيت المعدم .

تعوّد على الدخول متأخرا حتى يتأكد أن من في البيت قد نام، إلاّ أخته فاطمة التي تتستر عليه وتبقى مستيقظة لتحكي له ما حدث في غيابه، وتقدم له الأكل الذي أخفته عن زوج الأم وراء أشجار الخيزران.

أحمد: الطعام بارد.. وما هذا الخبز المدهون بالمرق؟

فاطمة : أحاول أن أجمع لك ما تبقى من الطعام حتى لا يرميه الغريب (الزوج).

أحمد : (يرد ووجهه كلون القدر متجهماً) لوكان أبي لما تركني بدون طعام ، لَمَا نام وأنا هائم في الشوارع.

فاطمة: (عيونها كعين دافقة، والدموع تنزل على وجهها) إنه رجل ساحر . فأهل منطقة سوس مشهورين بالسحر والشعوذة. لقد جعل قلب أمِّنا لا تميِّز بين الجمال والقبح فيه، وأنه دائماً على صواب وهوالقدوة الحسنة ما على أبنائها إلاّ طاعته.

أحمد : (مبتسما في وجه أخته التي يراها منبع الحنان) علينا أن نعمل كل ما يجلب له المشاكل، ولا نشاركه الحديث، ونتبع خطواته أين يخزن الخبز .

فاطمة : (تضحك.. ونسيت أن الليل له آذان) أنا أراقبه وأعرف تحركاته . فمفتاح القفل دائماً يضعه في قب جلبابه . ونومه خفيف كالنمل رغم صفارات شخيره .

تقلبت أختها المدللة ربيعة في فراشها، تحسَّست مكان فاطمة وجدته فارغاً ، عرفت أن أخيها العنيد أحمد قد عاد. خرجت متسللة من الفراش كي لا توقظ باقي إخوتها الصغار، لتطمئن على أحمد، فهي تشتاق إليه لكثرة غيابه نهاراً عن البيت. تدخل وهي تغني بصوت خافت غناء يملأه الحزن على فقدان أبيهم . هذا الحب الدفين الذي شكل جداراً عالياً بينهم وبين الزوج الجديد . تعانق أحمد وكأنه قد عاد من بلد بعيد، فهودائماً يحمل معه حلوى سكر لربيعة . يبدأ الثلاثة في اللعب وقول الحكايات، إذ يعيشون طفولتهم وبراءتهم الحقيقية ، فهم يعتبرون (الغريب) سحب من بساطهم بسمة ومعنى الحياة.

ظل أحمد كما هوعنيد، نادراً ما تجمعه طاولة الطعام مع زوج الأم .

فاطمة تعمل بكفاح لتُشعر الأم أنها هي من تساعدها وليس ذلك الزوج كما تعتقد.

ربيعة تتعلم الخياطة بنادي القرية وتصنع جوارب وقفازات من الصوف لتبيعها وتشتري ما تحتاجه من ثياب ، ولحرفتها في ما تصنع كانت أسر القرية تستظيفها، فتنعم بالأكل عندهم ، تعوّد زوج الأم على غيابها .

محمد مُجد في الدراسة، كان أمل الأسرة مرهون عليه لإنقاذها من الفقر بعد تخرجه من الثانوية ، كما كان هاوياً كرة القدم وبات عضواً في فريق القرية، يتقاسم المسؤولية مع زوج الأم في توجيه باقي الإخوة وتعليمهم . إلى أن جاء خبر وفاته الصادم وهو راجع بعد فوزه في مباراة كرة القدم . فاجعة موته جعل الأمر ينقلب سلباً على الزوج ويدخل في صراع مع الزوجة وأبنائها (فاطمة، أحمد، ربيعة).

حزنت الأم وبدأت تعيد النظر في هذا الزواج الذي تسبب في إهمالها لبيتها وأبنائها ،تخلت عن عملها بالمزارع وبدأت تعمل بالبيت نساجة تحيك الصوف وتصنع الزرابي هي وإبنتها فاطمة . هنا بدأت فاطمة تظهر قبح -الغريب – لأمها ،كلما سألتها هذه الأخيرة عن أمور الأكل توجه بأصبعها نحوالزوج وتجيبها أن عليها ان تسأل الزوج لا هي ، فكل أمور البيت كان يتحكم فيها ،أدركت الأم معاناة فاطمة وأصبحت تقبل بتعاطي أحمد للتدخين وأعطته حرية الخروج والدخول للبيت متى شاء. وسمحت لربيعة بزيارة صديقاتها والذهاب عند زبنائها خارج القرية . بشكل عام جردت الزوج من مسؤولية أبنائها ، وهو حرٌ في التعامل مع أبنائه من صلبه . تمنت فاطمة أن تُطلَّق الأم منه بدل إبعاده والتخلُّص من سلطته عليهم .

تمر الأعوام فتنتقل العائلة من تلك القرية إلى مدينة صغيرة ليتابع الأبناء دراستهم . ويكون هذا العام عام حظ لفاطمة ؛ حيث سيتم تزويجها لرجل من المدينة . تحملت طباع زوجها العنيد والفظ وسريع الغضب، وفضلت العيش معه على أن تعيش تحت بطش زوج أمها . كبر إخوتها الأشقاء . أحدهم أصبح معلماً وابتعد عن إخوته ناكراً لجميل ذلك الرجل ، فما كانت تلقنه فاطمة لهم كبُر معهم وظلوا يعتقدون أن ما يصرف عليهم ليس إلاّ من رزق أمهم . أما ذلك الزوج فقد أكل مالهم ومال ديَّة أخيهم محمد الذي مات ، وأنهم لن يكفوا عن الدعاء حتى ينتقم الله من هذا الزوج .

لم يعلم الرجل المسكين طيلة حياة زوجته بغض أبنائها ، الذي ربّاهم كما ربّى أولاده ولم يفرق بينهم طيلة حياته فكلهم سواء . بل كان يفضل عليهم فاطمة لِمَا تظهره من حنان وعطف واحترام، وذاع صيتها بين الجيران لدرجة أنه لم يشك أحد في عدائها الداخلي وما تخططه من إرهاب وتدمير داخل الأسرة.

وجدت فاطمة في إخوتها من الأم تربة خصبة لتمرير حقدها وانتقامها من أبيهم ، فقد ظلت كعود الثقاب مشتعل لهيبها الخفي بينه وبين أبنائه .

أصيبت الأم بمرض مفاجىء قاتل إنه سرطان الكبد ، ضحّى أبناء زوجها الثاني بمالهم ووقتهم لتنجومن هذا المرض الفتاك ، بينما أبناؤها الآخرون كانت مشاغلهم ومشاكلهم تُبعدهم عن مرض الأم . ففاطمة لا بُدّ أن تراعي زوجها المُعاق حتى تتجنب غضبه ، أما الأخ الموظف، فكانت مشاكله مع مطلّقته يحلّها بكؤوس الخمر .

تفاقم مرض الأم الذي نتج عن معاناتها الداخلية وحظ أبنائها التعيس من جهة، وعلى أحزانها الدفينة التي تخفيها عن الجميع من جهة ثانية. فالزوج تغيَّر ولم يعد كما عهدته، فكثرة أسفاره أبعدته عنها، وقد تعرف على امرأة أخرى ، لقد جعلها الزمن تتحمل مشاكل أبنائها صغاراً وكباراً في وقت لم يعترفوا لها بالجميل، فهم يعيشون عقدة زوج الأب ، ويعاتبون أمهم بتعذيبها بمشاكلهم التافهة .

اتهمت فاطمة الزوج بجرم مرض أمها وظلت تنقل الأخبار القبيحة عنه مساً بكرامته وأخلاقه، لأبنائه ووسط العائلة والجيران، حتى تضمن كرههم الشديد لأبيهم وتبعدهم قدر الإمكان عنه . يأتي موت الأم كالحطام على قلوب الإخوة، اتحدوا فيما بينهم في وقت كانت تتربص فاطمة لأقل صدام بين الأخوة من جهة ، ومن جهة أخرى بين الأبناء وأبيهم . إخوة فاطمة ظلوا مخلصين لبعضهم لأن حبهم وودهم كان حقيقيا ، أما فاطمة فعود ثقابها كبر وأصبح جاهزاً لعملية تفجيرية تأخذ شرعيتها كجهاد داخل الأسرة لتقويم وضع لم ترضاه يوماً في حياتها ، وقطع حبل الوصال مع زوج الأم وطعنه من أقرب الناس إليه، وجعله يعيش مرارة الوحدة والحرمان .

يقف أحمد صارخا : لن نبيع حصة أمّنا في الأرض والبيت ، لن نفرق ما تركته من حب نشترك فيه ويقوي أخوّتنا. بينما فاطمة تتكلم بصوت خافت : ما أتمناه هوالقيام بعمرة .

يؤكد أحمد قوله (وهو يدرك جيداً ما ترمي له أخته فاطمة): قلت لن نبيع ما تركته لنا أمّنا ، طالما (الحاج) ما زال على قيد الحياة .

فرح الأب وباقي الأبناء من موقف أخيهم الأكبر . شعر الأب أن ما قدمه من جميل وخير في أبناء زوجته قد أثمر، ورد وهو باكٍ حزينٍ على فراق الزوجة الصالحة : ليشهد الله أنكم أبنائي جميعاً وأسأله الرّضا عليكم .

قامت فاطمة من مكانها وكأنها كانت تجلس على فراش من شوك تتأوه من عدم تحقيق رغبتها المقيتة . الفتيلة بدأت تقطر من الجوانب ، إنها فاطمة تتنقل من أخت لأخرى بعدما قرر (الغريب) الزواج من جديد . كل أبنائه وافقوا على الزواج إلاّ أمينة .

تهاتفها أختها رشيدة لتشرح لها ظروف الأب وضرورة الموافقة على زواجه والرضا بالأمر الواقع .

تجيبها أمينة ثائرة وبعنف : أنا دفنت أمي وأبي معاً .

آه ؛ وأخيرا تقول فاطمة : إن الفتيلة زاد لهيبها وبدأ دخانها يتصاعد ، إني وجدت طُعماً لصنارتي، فصيد الفرص لم يعد سهلاً . وهدفي قَرُب أوانه. أمينة تعتبر فاطمة الأخت، الأم ، الوجهة الصائبة لكل استشارة ، ثقتها بها لا حدود لها . إنها تعمل بالمهجر وغالبية تواصلها تحتكره فاطمة، فهي تملك هاتفاً تابثاً بالبيت ، فاطمة فضولية بامتياز فأخبار الإخوة والعائلة والجيران تعرفها وبتفصيل .

إنه يوم السبت، إجازة أمينة ، ويوم السعد لأنها ستهاتف أهلها بالمغرب . ستكلم فاطمة، إنها جريدتها الأسبوعية .

أمينة : كيف حالك أختي الغالية فاطمة ؟

فاطمة : الحمد لله والجميع بخير ، كيف أنت مع العمل ؟

أمينة: منهكة جداً من كثرة العمل ، إنه قدري أن أعمل ليل نهار لجمع المال.

فاطمة: تعملين من أجل الآخرين وهم مرتاحون نائمون.!!

أمينة : قلبي لا يطاوعني.. ربما خلقت لأخدم إخوتي.

فاطمة : من يحمل همّك غيري ، لقد تعبت من تنبيهك وضرورة اهتمامك بنفسك .

أمينة ترد بحسرة: الله غالب.

تعلم فاطمة أن أبو أمينة حكمت عليه المحكمة بإفراغ البيت الذي يكتريه ، لكنها لم تطلع أمينة بالخبر ، تتابع فاطمة الحديث مع أمينة وهي تقول في نفسها سأجعلك تتمنين الموت حين ترين أباك مرمياً بالشارع.

تؤكد أمينة (هل الكل بخير) تقول لها فاطمة وهي تصدر ضحكات متقطعة تدل على فرحتها الداخلية ( نعم نعم الكل يأكل ويشرب )، تصدقها أمينة وتجيب بتنهدات ( هنيئاً لهم هذا ما أبغيه).

تلتقي فاطمة برشيدة وتسألها عن حالها وعن حال بناتها ؛ (الحمد لله) تقول لها رشيدة ، بعدها تنظر لها فاطمة نظرة التأسف وتقول : إن أمينة تسلم عليكم ، ولم أخبرها بما حل ب (الحاج).

تضرب رشيدة بيدها على فخذيها وهي غاضبة : أليس لك قلب ؛ لوكان أباك لأخبرتها.

تجيب فاطمة بهدوء : لو كنتي في مكاني لفعلت نفس الشيء ، إن أمينة مريضة ولها مشاكل بعملها ، فكيف لي أن أثقل عليها وهي بعيدة ؟

رشيدة التي تعلم دخيلة فاطمة بحدسها، لم تعد تنظر إليها كأخت حقيقية، بل تأكدت أنها كانت أكبر كذبة في حياتها ، ترفع رأسها للسماء وتدعو الله أن يبين حقيقة نفاق فاطمة لبقية إخوتها .

كان الأمل في أن تتحمل أمينة مسؤولية الأب وتكتري له بيتاً آخر ، غير أن إخفاء الخبر عنها وجهلها بما وقع للأب، جعل هذا الأخير ينكر إبنته بشكل نهائي. وها هو يتنقل في المبيت بين بناته. أما أمينة فقد أصيبت بمرض خبيث ناتج عن ندمها لثقتها بالأخت المزورة فاطمة وكرهها لأبيها . أما فاطمة فقد تم نبذها من إخوتها ومن أهلها ومن الجميع، وهي تحصد ما زرعت، لأن النفوس الخبيثة لا تهنأ في عيش، فالأفعى إن لم تجد ضحية تنفث سمّها به، نفثته في جسدها..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى