العجوزان
العجوزان
د . دريّة كمال فرحات
كعادتهما ، وبعد الانتهاء من العمل في الحقل ، وحرث الأرض والزّراعة ، وتجهيز مؤونة العام القادم ، وكعادتهما في تناول العشاء مبكراً المكوّن من طبيخ بائت أو بيض مسلوق و البطاطا المسلوقة ، هذا الطّعام الذي نادراً ما يحتوى على قطع من اللّحم أو الدّجاج ، أو ما يجعلهما ينفقان المزيد من المال ؛ هذا المال لا ضـرورة لإنفاقـه طالما سيأتي الغائـب ، لا بدّ من المحافظة عليه لأنّه بحاجة له عند رجوعه . وكعادتهما اليوميّة يأويان إلى فراشهما مبكرين ، ويضع كلّ منهما رأسه على الوسادة ، يراقبان القنديل الشّاحب ، يتدافع دخانه ، فيرسل إلى حيطان الغرفة نوراً ضئيلاً ، والنّسيم يتسلّل عبر الباب والنّافذة يداعب ما في الغرفة . غرفة لم تعرف التّغيير من زمن بعيد ، فكلّ شيء في مكانه ، العدسات المكبّرة ما زالت على المنضدة ، و بعض الأوراق التي تعود ملكيتها للعزيز الغالي ، حتّى البطاقات التي طبع عليها اسمه عندما كان في ذلك العمل المرموق ، ولم يعد بحاجة إليها ، فإنّها ما زالت داخل الدّرج محفوظة لعودته . هذه الصّورة التي تُغطّي الجدار ولم يتغيّر مكانها منذ أن وضعت لأوّل مرّة ، ما زال وضعها المعوّج كما هو ، لم يُحاول أحد تغييرها .
وكعادتهما عند النّوم لا بدّ من الحديث عنه ، ويحلمان ، فقد طالت غيبته . يقول العجوز : ” ها هي غيبته تقارب العشر سنوات ” . وبكلّ هدوء ـ وهو ما تعوّدت عليه العجوز ـ تصحّح له وتقول : ” بل عشر سنوات ونصف ” . فيصرخ وينتفض ويعلو صوته : ” أتعرفين أكثر منّي ، إنّني ما زلت في وعي ولم أخرّف ، إنّني أعدّ الدّقائق منذ غيابه ” . فتردّ عليه بهدوئها المعتاد : ” بل عشر سنوات و نصف ، إنّه قلب الأمّ ، فأنا أعدّها منذ تزوّج وسافر مع زوجته وطفله الرّضيع ، ومفكرة الأيّام ما زالت في غرفته منذ سفره ” . فيضحك العجوز منها ساخراً : ” وهل تعرفين القراءة لتعرفي الأيّام من بعضها في المفكّرة ، ثمّ إنّ هذه المفكّرة لن يحتاج إليها ، قلت لك ألف مرّة لن يحتاجها ، فالأيّام تتغيّر ، وكلّ سنة لها مفكّرة جديدة ، و لكنّك ما زلت تحتفظين بها، فنحن الآن في السّنة الثّانيّة من الثّمانينات ، وهي تعود إلى السّبعينات ” . وتردّ عليه بنبرة ساخرة : ” وأنت، ألم تخبئ له بعضاً من أوراقه التي طلب منك أن ترميها قبل سفره ، لأنّه لن يحتاجها، هو طلب منك رميها ولكنّه لم يطلب منّي أن أرمي هذه المفكّرة ، إذاً سيحتاجها ” . ويستمران في هذا الجدال و الحوار ، يتذكّران كلّ صغيرة و كبيرة وكلّ ما يخصّ ابنهما الغائب ، إلى أن يغلبهما النّعاس ، ويسود عينيهما الكرى .
وعلى جري عادتهما ، كاد النّوم يغلبهما ، لولا خطوات كانت على بلاط المنزل ، يسمعانها مع ضجيج يعلو ، وهتف قلبهما أملاً بأن تكون هذه الخطوات هي خطوات الغائب العائد ، وخبأ كلّ منهما عينيه عن الآخر خشية أن تفضح العين ما أمل به القلب ، خوفاً أن تكون النّتيجة في الأمل كسابقاتها ، فيخيب أمل العودة. وكادت العجوز تصرخ هاتفة لولا حدسها ، فعرفت أنّ هذه الخطوات غريبة لا تعرف طريقها ، وأنّها تتخبّط في تحرّكها ، فسمعت تناثر القمح من أكياسه ، وارتطام الأرجل بكلّ ما تحويه ” سطيحة الدّار” و هبّ العجوز فزعاً ليرى ما حدث ، فتراجع مذعوراً خائفاً … مصفّر الوجه … مرتعش الشّفاه … وخفت صوته فلم يستطع البوح بكلمة ما ، حتّى حسب أنّ أنفاسه قد آثرت البقاء في صدره عن الخروج لمواجهة هذا الفزع .
وعلى ضوء القنديل الخافت رأت العجوز ما أفزع زوجها ، فوّهة البندقيّة داخل فمه وخلفه مسلّحون ، يبدو الشّؤم في وجوههم ، والثّغر مبتسم عن ضحكة ساخرة ، ويهمهمون . فشهقت العجوز شهقة قوية ، و علا صوتها : ” الله أكبر ، حرام عليكم ، إنّه شيخ كبير ” . فردّ أحدهم بعربيّة مكسّرة يقلّد صوتها : ” الله أكبر ، والديك مشحبر “. و تعالت ضحكاتهم ، وقهقهاتهم ، وأدخلوا العجوز إلى الغرفة ، وما زال صوتهم السّاخر يعلو. فلم يستطع العجوز الحراك ، فحياته رهن حركة من إصبع هذا المعتوه الذي أمامه ، ونظر إليه خشية أن يتحرّك… فعن نفسه يستطيع أن يجمد كالصّخر ، ولكن ماذا عن الذي أمامه؟! ولم بعد يعي ما يحدث فعيناه على السّلاح، و نفسه تنتظر ما الذي سيحدث . وانتشر المسلّحون يعيثون فساداً في الغرفة المجاورة ، يحرّكون فيها ما لم يستطع الزّمن أن يحرّكه … فهذه الصّورة المعوجّة قد وقعت من مكانها ، وتغيّر وضع الأدوات فوق المنضدة ، ولم تعد الغرفة كما كانت ، فانقلب حالها ، ونظرت العجوز إلى يد أحد الغزاة ، و رأته يقلب الفراش ويبحث عن شيء ما تحته ، فتأوّهت ، وتألّمت ، ها هو يستولي على سند العمر … على ما يحفظهما من ذلّ السّؤال ، ماذا تفعل هل تمنعه، وفوّهة البندقيّة في فم زوجها، وتذكّرت ، و لدّموع تلهب وجهها ، أنّها منعت زوجها من أن يأخذ مزيداً مـن المال ليشتري قليلاً مـن اللّحم ، فلماذا الإسراف والتّبذير ؟ يكفينا ما نشتري يوميّاً ، لماذا نغيّر عاداتنا ؟ آه لو سمحت له بأن يشتري بالمال كلّه ، و لكن لا فائدة … ماذا يريدون الآن ، ألا يكفيهم هذا الرّعب ؟ !
وتحرّكت أرجلهم نحو الباب ، وتراخت معها أنفاس العجوزين ، وهدأت عيناهما بانتظار خروجهم لكي يعودا إلى ما كانا عليه من أحاديث يوميّة ، وما إن خطت الأرجل خارجة ، حتّى تراجعت أولى الخطوات تسأل عن هذا الباب المقفل ، و عمّا ورائه ، وتعالت سخرية أحد المسلّحين : ” لعلّها خرابة أخرى تعود إلى القرن الماضي ” . وكادت الأرجل ترحل ، لولا نظرات القلق في أعين العجوزين ، ولولا حركة العجوز مسرعة إلى باب الغرفة ، تقف أمامها سداً تمنع أحداً من الدّخول ، ما جعل الغزاة يتراجعون ، وقد منّوا أنفسهم بمغنم جديد . وعلا صراخ العجوز خوفاً حيناً ، ورجاء أحياناً بعدم الدّخول ، وتقول : ” لا أحد يدخل هذه الغرفة إلاّ عند مجيء صاحبها ” . وتشبّثت بكلّ قوّة لديها ، وكأنّ هذه العجوز عادت فتيّة ، لديها القوّة التي تجعل الشّابة تنقلب لبؤة أمام من يريد تدنيس شرفها . هذه القوّة التي نزلت بالعجوز لم تظهرها ، وفوّهة البندقيّة في فيه زوجها . ولكنّها الآن أمام مصيرها … أمام حياتها كلّها … آمالها … أحلامها … فإذا دنسّوا هذه الغرفة فقد دنسّوا كلّ شيء تمثّله ، ولكنّهم هيهات يرحموا هذه العجوز ، دخلوا وعويلها يعلو ويرتفع … وتعجّبـوا ممّا في هذه الغرفة . جالت أنظارهم على جدرانها ، وفي أنحائها ، وضحك أحدهم قائلاً : ” انظروا هذه الغرفة ، يعـود تاريخها إلى ما قبـل عشر سنـوات ” . و سُمع صوت يقول : ” ونصف ” . و نزع المفكّرة عن الجدار كمن نزع طفلاً عن حضن أمّه .
فركضت العجوز تجمع فتات الورق ، وعيناها على الآخر يفحص السّرير الخشبيّ الهزاّز ، ويقول هازئاً: ” لعلّ لهذين العجوزين طفلاً يأبيان وضعه إلاّ في هذا السّرير ” . فصرخت في وجهه : ” لا تفعل به شيئاً، إنّه سرير حفيدي ، و سيعود ، لقد تركه منذ عشر سنوات و نصف … إنّه لا ينام إلاّ فيه ” . فضحك وقال : ” منذ عشر سنوات و ما زال طفلاً ، إنّها أحسن فكاهة سمعتها “. ونظر إلى رفيقه يخبره بما سمع ، فوجده يقلب في أكواب عليها صور ، فسأله صور من هذه ؟ هل صاحب هذا البيت شخصيّة مهمّة ، فنكون في مهمّة رسميّة نسجّلها في تقرير ؟ فأسكته زميله هازئاً منه : ” إنّه مجرّد شخص نرجسيّ ” . و تركه مذهولاً وهو يقول : ” دعونا نغادر فلا شيء في هذه الغرفة ” . ولكن أبت نفس الآخر أن تترك الغرفة تنعم بسباتها الطّويل ، ولم يغنم منها شيئاً ، فبدأ بتكسير الأكواب و كلّ محتوياتها . وانقلبت العجوز مرّة أخرى إلى وحش ثائر ، وحاولت منعهم بقوّة ما تمتلك من حبّ وعشق و حنان وعطف لهذه الغرفة … حاولت منعهم بقوّة آمالها وأحلامها بعـودة الغائب … حاولت بكـلّ لحظة حافظت فيها على نقاء هـذه الغرفـة وسلامتها . و لكن … طلقة بسيطة من فوّهة البندقيّة أخمدت كلّ هذه القوّة .
وفي الصّباح وجد أهل القرية باب الغرفة المغلق منذ عشر سنوات ونصف مفتوحاً … و قد انقلبت محتويات الغرفة ، كأنّ ريحاً هوجاء ، عاصفة عبثت فيها . وأمام بابها وجدوا العجوز و قد سال دمها على الأرض ، هذا الدّم المبارك يزيد الأرض بركة . ووجدوا بين يديّ العجوز صورة حاولوا أخذها … لكنّهم لم يستطيعوا ، فما زالت روح العجوز لديها القوّة للمحافظة على الصّورة التي عرفها أحدهم من إطارها ، إنّها صورة ابنها الغائب . و بالقرب من العجوز وجدوا زوجها قابعاً ، وهم حائرون هل رحل أيضاً … أم انّه ما زال ينتظر عودة الغائب .