الخميس 28 مارس, 2024

الصوتُ لغةٌ، واللّغةُ لسانٌ،

الصوتُ لغةٌ، واللّغةُ لسانٌ، واللسانُ إنسانٌ

د. منيف موسى

mousa-1تقولُ الفلسفةُ اليونانيّةُ القديمةُ، إنّ الكونَ قائمٌ على مُثلّثٍ أركانُهُ: الرَّقْمُ والنَغَمُ والحرفُ. وينصُّ أفلاطون في كتابِ الجمهورية: أنَّ النشيدَ مؤلَّفٌ من ثلاثةِ أركانٍ، هي: الألفاظُ، واللحنُ، والإيقاع … وإنّ حسنَ البيانِ، وصحةَ الوزنِ، والجزالةَ، والإيقاعَ، كلَّها، تتوقّفُ على الطبيعة الصالحة. وأقصدُ بالطبيعةِ الصالحةِ يقول أفلاطون العقلَ السليمَ سلامةً حقيقية … وكذا يسجّلُ أرسطو في كتابهِ: فنّ الشّعْر: أنَّ الفنونَ تحقّقُ المحاكاةَ بوساطةِ الإيقاعِ واللّغةِ والانسجامِ هرموني مُجتمعةً معًا أو متفرقةً … وفقًا لطبيعةِ الفنّ.

وإذا ذهبْنا بعيدًا في مسألةِ الخَلْق، أو خَلْق الكون، وما اسْتتبَعَهُ من أحداثٍ خارقةٍ، نكادُ نصلُ إلى محصِّلَةٍ علميّةٍ يشوبُها شيءٌ من الاجتهادِ، أو مِنَ الماورائيةِ الميتافيزيك حيثُ تَعتبرُ هذه المحصِّلة أنَّ الصوتَ أو ما يُشْتَقُّ منهُ تطبيقًا أو تنظيرًا، كالرنين، مثلاً، هو أساسُ البَدءُ الوجوديّ. أيْ كن فيكون. بحسب بعض المهتمّين بالموسيقى والغناء! وعلم اللسانيات! ويعتبر بعض علماء الصوتيّات أنَّ الرنَّةَ SON هِيَ أساسُ الصوتِ. وإذا كان جسم الإنسان سلّمًا نغميًّا فإنّ الكلامَ هو حركةُ الفِكرِ البشريّ بعينِه. وعلى الرغمِ من أنَّ الكلامَ وليدُ النَّفَسِ الصوت فهو تاليًا أقلُّ عرضةً للتلف. فهل يكون الإنسانُ بصوته؟

رَقْمٌ ونَغَمٌ وحَرْف

قلتُ في بدايةِ حديثي: إنّ اليونانَ حدّدوا أنَّ الكونَ مبنيٌّ على رَقْمٍ ونَغَمٍ وحَرْف. وعندما نتكلّمُ عن الإيقاعِ الموسيقيّ، نتكلّمُ عن الوزن. والإيقاعُ هو أحدُ الاجزاءِ المكوّنةِ للنغم، هُوَ شكلُ الحركة. أمّا الوزنُ فَهُو تقسيمُ الحركة … ويمكنُ القولُ: يجبُ أنْ يكونَ هناك توافقٌ بين الوزنِ والإيقاعِ والمعنى المنطقيّ … المحدّدة بالصوت والكلمة/اللّغة، مدار الفكر والكلام، الكلام الذي يبقى حركةَ الفكرِ البشريَّ وهو الفكرُ بحدِّ ذاتِه ….

اجتهاديَ هنا، أنَّ الفكرَ البشريَّ في مظاهرِه الساميةِ الأُولى، هو اللوغوس واللوغوس هو الكلامُ والكلامُ هو الكلمةُ. والكلمةُ، بحسبِ معجم الإيمان المسيحيّ هي كلَّ تعبير عن فكر الله .. وفي إنجيلِ يوحنا: في البَدْءِ كانَ الكلمة. Mot – verbe – parole.  والكلمةُ كانَ عندَ اللهِ، وكانَ الكلمةُ الله … اللّغة الأُولى هيَ اللّغةُ الجوهريّةُ، لأنَّ لها مفعولاً سحريًّا ودينيًّا.. فهيَ والحالُ هذه تدخل المفهومَ الدينيّ. كما عندَ المسيحيّينَ، وكما عند المسلمينَ. مثلَما جاءَ في القرآن الكريم إقرأ باسم ربِّك الذي خلق … أو ن. والقلمِ وما يَسْطرون. ففعلُ القراءة فيهِ معنى الكلمة – اللّغة. والقلمُ وفعلُ التسطير فيهما مبدأُ الكتابة. والكتابةُ لغةٌ وكلمةٌ. بل يتوافقُ هذا مع ما جاءَ في سِفْرِ التكوين الفصل الثاني، الآية 19 وَجَبلَ الربُّ الإلَهُ مِنَ الأرضِ جميعَ حيواناتِ البريّة وجميعَ طيرِ السماءِ وأتى بها آدمَ ليرى ماذا يُسمّيهَا. فكلُّ ما سمّاهُ به آدمُ من نَفْسٍ حيّةٍ فهو اسمُهُ…، ومع ما أتى في الذِّكْرِ الحكيم سورة البقرة، الآية 31: وعلّمَ آدمَ الأسماءَ كلّها … ليتلاقى هذا المفهومُ مع جماعةٍ من الفقهاءِ اللّغويّينَ العرب الذين قالوا إنَّ اللّغةَ إلهامٌ وتوقيف. وعلى رأسِ هؤلاءِ أحمد بن فارس في كتابه الصاحبي في فقه اللّغة.

الأصواتُ أصلُ اللّغات

واللّغةُ صوتٌ بأيّ معنى جاء Phone -son- voix وهذا الصوتُ يُحفظُ ويقيّدُ برمزٍ. والرمزُ هذا هُوَ الحَرْفُ. والحروفُ تشكِّلُ الكلمات. والكلماتُ تشكّلُ الجُمَلَ. والجُمَلُ تشكّلُ اللّغةَ – الكلامَ – القول، وأساس كلّ هذا الصوت، وهذا له أساس في تراثنا العربيّ، فقد جاءَ في كتابِ الخصائص لأبي الفتح عثمانَ بنِ جنّي في باب القول على أصلِ اللّغة أإلهامٌ هي أم اصطلاح: وذهبَ بعضُهُمْ إلى أنّ أصلَ اللّغاتِ كلِّها إنّما هو الأصواتُ المسموعاتُ: كدويِّ الريحِ، وحنينِ الرعد، وخريرِ الماء، وشحيحِ الحمار، ونعيقِ الغراب، وصهيلِ الفرس، ونزيب صوت تيس الظباء الظَّبْيِ، ونحوِ ذلك. ثمَّ وُلدتِ اللّغاتُ عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وَجْهُ صالحٌ ومَذْهَبٌ متقبّل.

وهذا المذهبُ قالَ به بعضُ علماءِ اللّغاتِ في العصورِ الحديثة. وقد سُمّيَ هذا المذهبُ مذهبَ المحاكاة أو نظريّة البو – وو Bow- waw  في أصلِ نشأةِ اللّغةِ الإنسانيّةِ وخلاصتُهُ أنّ الإنسانَ سمّى الأشياءَ بأسماءَ مقتبسةٍ من أصواتِها أيْ أنْ تكونَ أصواتُ الكلمةِ نتيجةَ تقليدٍ مباشرٍ لأصواتٍ طبيعيّة صادرةٍ عن الإنسانِ أو الحيوانِ أو الأشياءِ. وتُسمّى مثلُ هذه الكلماتِ عند علماء الغرب onomatopées أي المحاكيّة الصوتيّة. وكان أكبرَ المدافعينَ عن هذهِ النظريّة العالمُ الألماني هَرْدَر Harder في كتابه بحوثٌ في نشأةِ اللّغة. لكنّه عاد عن نظريّته، لما فيها من نقص. ويبقى لأصحاب هذه النظريّة فضل، وهو أنّهم فتحوا باب البحث الفلسفيّ في نشأة اللّغة، أمام الباحثين.

البداياتُ الشعريّةُ الأُولى

لذا أقولُ: إن اللّغةَ – تحت أيِّ اسمٍ اندرجتْ – هي من أهمِّ أدواتِ التواصلِ بين الجنسِ البشريّ، وبينَهُ وبينَ الكون. واللّغةُ في أساسِها صوتٌ. فالإنسانُ كان قدْ غنّى قبلَ أنْ لغا. وإنّ الغناءَ هو البداياتُ الشعريّةُ الأُولى، لأنّهُ تعبيرٌ عن النَّفْس. والنَّفْسُ لحن ويتمُّ الشِعْرُ عندما تذوبُ الأنْشودةُ والرؤيا في لَذَّةٍ مُبهمةِ النشيد. كما عند ملارميهْ. وعندما يقترنُ اللحنُ بالكلمةِ يصدعُ الإيقاعُ المتناغمُ بين الوزنِ واللفظةِ. ذاكَ أنَّ الألفاظَ بمعناها المألوفِ توْحي معنًى جديدًا رفيعًا عجيبًا ضروريًّا. فتعبّرُ الألفاظُ عمّا نفحَها به الشاعر، ويُدخل هذا التيارُ الصوتيُّ المنظَّمُ سامعَهُ إلى فكرةِ الخلاّقِ فتثمرُ فيه، بحسبِ ما ينصُّ الأبُ هنري بريمون، في كتابه الشِعْر الصافي.

والصوتُ المنظّمُ لحنٌ ونَغَمٌ وإيقاعٌ. وهو يُدوّنُ، فيحفظُ في رموز. هذه الرموزُ هِيَ رسومُ النوطاتِ الموسيقيّة. فللموسيقى إذًا لغةٌ، يقرؤها أصحابُها ومتعلموها، ويتواصلونَ بها. واللغاتُ التي يتكلّمُها الناسُ رموزٌ تحفظُ أصواتَها. فهناكَ، إذًا، تعادليّةٌ جدليّةٌ بين الصوتِ والرمزِ الحرف، وهما متوافقانِ منسجمانِ في عمليةٍ رياضيّةٍ حسابيّةٍ اسمُها الزمن الموسيقيّ، وهوَ رقْمُ .. أَلَمْ أقُلْ في بدايةِ حديثي إنّ الفلسفةَ اليونانيّةَ تقولُ: إنّ الكونَ قائمٌ على مثلثِ هو: الرقمُ واللحنُ والحرف؟. وفي هذه الدائرةِ تُقام الطقوس الصوتيّة مثل الرهابين في صوامِعهم، والدراويشِ في حلقاتِهم والمتصوّفةِ في تهجَّدِهم، فكأنّنا في كاتدرائيةِ أنغامٍ وتراتيلَ أوْ مسجدِ قراءةٍ وتجويد .. والأديانُ كلُّ الأديان، من كونفوشيوس إلى المسيح إلى النبيّ العربيّ تقيمُ طقوسَ صلواتِها في نغميّةِ التسبيحِ والتمجيد …

اللّغةُ حاجةٌ إنسانيّةٌ

واللّغةُ بمختلفِ مصطلحاتِها: Parole – Langage – Langue هي حاجةٌ إنسانيّةٌ – اجتماعيّةٌ – فيسيولوجيّةٌ – نفسانيّةٌ. وهي أصواتٌ. وبالأصواتِ تتشكّلُ الكلماتُ. في البَدْءِ صار ابتكارُ الكلمةِ من أجلِ حاجاتِ الإنسانِ الغريزية. كانت الكلماتُ أجسامًا عليا داخلية. ولكنْ مع الوقتِ اختلقتْ لنفسِها قصةً لها أوجهٌ متعددةٌ ومظاهرُ زمنية. لذلكَ تجمّدتِ الكلمات، وتوقفتْ عندَ خروجِها بفعلِ عواملَ مختلفةٍ منعتْها مِنْ أنْ تعيشَ تكامُلَها، ولم تسمحْ لها بأنْ تبقى أجسامًا عُليا داخليّةً خارجَ الزمن، وتشكّلُ تغييرات كُلِّ كلمةٍ عبرَ تاريخِها أسبابَ تجميدِ التواصلِ بين الناس. إنّ التواصلَ الكبيرَ هو في تفاعلِ الرنات، ومِنْ بينها صوتُ الإنسانِ. عندما يكونُ الصوتُ كاملاً، في الكلام، أو في الغناءِ، يستطيعُ أنْ يشاركَ في كلِّ شيء، وأنْ يمتلِكَ بذاتِهِ كُلَّ شيء، وذلك بفضلِ انتمائِهِ إلى الكونيّ. فللصوتِ، إذًا، بفضلِ فرديته الصافيةِ ومشاركتِهِ بكُلِّ ما يحيطُ به، القدرةُ على حَلّ المشكلاتِ الجسديّةِ والنفسيّةِ عند الإنسانِ في الزمانِ وخارجِه. كما جاء في كتاب الصوت بوابة الكون.

كلُّ هذه المعطياتِ، والنظراتِ والاجتهاداتِ والتقويماتِ محكومةٌ إلى الوعي، والوعيُ كامنٌ في الذهنِ والعقل. وهل للصوتِ علاقة في بلوغ الإنسان الكونيّة عَبْر الرنين والإيقاع؟

إذا كان الصوتُ تعبيرًا عن المقدّسِ كما عند بعض أصحاب الرأي، أقول: إنَّ الصوتَ لغةٌ، واللّغةَ لسانٌ، واللسانَ إنسانٌ. فالإنسانُ، إذًا مقدّس..

ويقول أحد الفلاسفة:ليسَ الإنسانُ سوى قصبةٍ مُفكِّرة. والقصبةُ سريعةُ العَطَب، وهي ليّنة، ومِنَ القصبةِ نصنعُ مزمارًا، أو نايًا، والنايُ يعطي صوتًا – لحنًا، واللحنُ مصدرُهُ النَّفَس، والنَّفَس مصدرُهُ الإنسان، والنَّفَسُ الأسمى مصدرُهُ الله. فالله، إذًا، صوتٌ ولحنٌ ولغة، والإنسانُ خُلِقَ بحسبِ الكُتُبِ السماويّةِ على صورةِ الله ومثاله.

ومن القَصبةِ نصنعُ يراعًا – قلمًا، وباليراعِ نكتبُ وندوِّن، ونشكّلُ رسومًا وحروفًا، ننشيءُ لغةً.. فبينَ اللحنِ واللغةِ عَبْرَ القصبةِ علاقة حميمة، هي الإنسانُ. فالإنسانُ إذًا، نتاجُ صوت، والصوتُ، نتاجٌ كونيٌّ. لذا، يمكن القول: الصوت كونيّ، رنين مفلت تيَّاه في المطلق اللامحدود. والإنسان كونيّ، فالصوت إذًا إنسان، وقل: حركة وحياة، فنردّد البيت الشعريّ الشهير: أتزعم أنّك جرم صغير/وفيك انطوى العالم الأكبر. لندرك علاقة هذا الإنسان بالكائنات والكون، وبالمبدع الأكبر: الله جلّ جلاله، وإليه المناب والمآب!

في كلّ لغة ترتبط الأصوات بعضها ببعض، ارتباطًا وثيقًا. فهي تكّون نظامًا متجانسًا، فثبت أنّ اللّغة لا تتكوّن من أصوات منعزلة، بل من نظام من الأصوات. فاللّغة نظام هي، إذًا، وهي غاية لا وسيلة، وعلينا ألاّ نجعلها لغوًا!…

جريدة الأنوار: 14/2/2019

 

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *