السيد نظام الدين فضل الله
السيد نظام الدين فضل الله: حياته وقصائده
علمت “مدارك ثقافية” أن ديواناً يجمع أعمال السيد نظام الدين فضل الله، والد الصديق الدكتور إبراهيم فضل، والنائب الأستاذ حسن فضل الله، يتضمن قصائده التي نضمها في مراحل وأوقات محتلفة من حياته، إلى جانب سيرته الدينية والأدبية والنضالية والاجتماعية. وقد جاء في المقدمة، حسبما نقله موقع عيثرونيات مايلي:
الشاعر السيد نظام الدين فضل الله(1927 – 2006)
ينتمي السيد نظام الدِّين إلى عائلة آل فضل الله الحسنيَّة المقيمة في بلدة عيناثا، وامتدّ انتشارها إلى مناطق بلاد الشام. امتازت هذه العائلة عبر تاريخها الطويل بأنها من العائلات العلميَّة التي توارثت العلم والأدب جيلاً بعد جيل، والتي حافظت على توليد العلماء عبر عصورها المتنوِّعة، وهي عائلة تمتلك شجرة عائلة تعود فيها بالنسب إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع).
السيد نظام الدِّين هو امتداد لأسرة علميَّة عريقة، والده الأديب والشاعر السيد حسين حيدر فضل الله ووالدته الفاضلة السيدة نور الهدى ابنة الفقيه الشيخ موسى مغنية. فالسيد نظام الدِّين يعود في النسب من جهة أبيه إلى آل فضل الله، ومن جهة إمه إلى آل مغنية، وكلاهما من العائلات العلميَّة العريقة في جبل عامل، والَّتي كان لكلٍّ منها إسهاماتها الكبيرة في نشر العلم والثقافة، وفي تأدية أدوار علميَّة وسياسيَّة سواء في جبل عامل، أم على إمتداد البلاد الشاميَّة.
أ ـ الأب الأديب والشاعر كان والد السيد نظام الدِّين، السيد حسين( 1872 ـ 1963) امتداداً لمسيرة آبائه وأجداده في حمل راية العلم والتعليم. بدأ حياته في أسرة علميَّة، وبيت عامر بأجواء الأدب والثقافة. والده السيد حيدر، ووالدته الفاضلة السيدة هدلا بنت السيد هادي بن السيد فخر الدِّين العالم والفقيه الذي مرَّ ذكره سابقًا. تلقَّى السيد حسين علومه الأوليَّة في البلدة، ومن ثمَّ استكمل دراسته على يد علماء كبار كانو قد توافدوا على المنطقة بعد افتتاح مدرسة بنت جبيل على يد الفقيه الشيخ موسى أمين شرارة.
بدايات السيد نظام
ولد السيد نظام الدين في حدود العام 1927. توفيت والدته وهو طفل، فاحتضنته خالته السيدة زينب، واعتنت بتربيته، ومن أجل الاستمرار في رعايته مع شقيقتيه، ما لبثت أن وافقت على الزواج من أبيه، وسكنت مع زوجها، ووالدها، وأبناء أختها في بيت واحد. بدأ الطفل نظام الدِّين خطواته الأولى في بيت زاخر بالعلم والأدب، تلقَّى فيه أصول التربية والتعليم، ونهل من ثقافة ذلك البيت. فالأب عالم وخطيب المنبر الحسيني وشاعر، وله صلاته الكثيرة بالعلماء على امتداد الجبل العاملي، وصاحب الأملاك الواسعة، والمربية هي الخالة الأديبة، والشاعرة، والجد هو العالم والفقيه والأستاذ، والاخ هو الأديب والشاعر. تلقَّى السيد نظام الدين علومه الأوليَّة في كتَّاب البلدة، عند قريبه السيد محمد فضل الله، (ابن خال أبيه)، وكان الأولاد يجتمعون في بيت المعلم، لتلقي مبادئ القراءة والكتابة، والكِتاب التعليمي هو القرآن الكريم، يُدرَّس قراءة وحفظًا، ويتعلُّم الأولاد الكتابة والخط، وكان يتذكر هذه المرحلة بالقول “إنه أنهى المرحلة الأولى في الكتَّاب حيث تعلَّم القراءة والكتابة، وكان الأجر على التعليم الَّذي دفعه والده، عبارة عن شاة ساقها إلى بيت المعلِّم، وتخرَّج من تلك المرحلة وهو يجيد القرآن الكريم قراءة وكتابة”.
رعاية الجد
ب ـ رعاية الجد كانت المرحلة الثانية من حياة السيد نظام العلميَّة على يد جدِّه الشيخ موسى مغنية. فبين ولادة السيد نظام ووفاة جدِّه الشيخ موسى إحدى عشر سنة (1927ــ 1938)، توازي مرحلة دراسيَّة كاملة، فعلى الرّغم من صغر سن الفتى، فإنَّ الشيخ كان يرى فيه وريث علمه وتراثه، وهو وإن لم يبق له ذكور، فقد عدَّ سبطه بمثابة ولده الَّذي سيكمل مشواره العلمي، ولذلك كان حريصاً على العناية به عناية خاصَّة، وتربيته وتعليمه منذ نعومة أظافره. كان والد السيد نظام يترك لجدِّه أمر هذه التربية، لما كان يراه من تعلُّق الجد بالسبط. لقد قارب الشيخ العلامة سن الخامسة والثمانين، وهو آنذاك لا يزال في أوج عطائه العلمي، وفي حركة دائمة لا تهدأ، وعلى الرغم ممَّا فعلته سنوات التدريس الطويلة في بصره، بإطفأ وهج عينيه في سنواته العشر الأخيرة،، فإنَّ بصيرته كانت متوقدة، وكان سبطه بصره الَّذي يرى فيه دروبه إلى مجالس الدرس في قريته وقرى الجوار. رافق السيد نظام الدين جدَّه في تنقلاته، ولازمه في مجالس العلم الَّتي كان يعقدها في قريته والقرى المجاورة، وكانت تلك المجالس تشهد نقاشات علميَّة وأدبيَّة بحضور دائم لكبار علماء تلك المرحلة. أمَّا مجالس الدرس فيحضرها طلاب العلم ممَّن كانوا يستكملون دراسة المراحل العليا. كان الشيخ مغنيَّة يشجع سبطه على البقاء إلى جانبه في تلك الدروس، بهدف تنمية قدراته العلميَّة، وتوسيع قابليَّاته الذهنيَّة، وتنشيط ذاكرته، وهو الَّذي كان يشهد على قوَّة الذاكرة، والَّتي لا تحتاج إلا لتلاوة آية قرآنيَّة، أو حديث نبوي، أو قصيدة ليحفظها ابن العشر سنوات. لم تقتصر استفادة الحفيد على هذا الجانب، بل سمحت له مرافقته لجدِّه بالتعرف على بيئة علميَّة، وأدبية، ومهتمّة بالشآن العام، وسيتسنى له من خلال هذه المعارف أن ينسج في المستقبل أي عندما يبلغ مبلغ الرجال علاقات داخل هذه البيئة، وسوف يغزل صداقات كثيرة مع علماء كبار من آل شرارة، وشمس الدِّين، ومغنية، والأمين، وفقيه، وشرف الدين، …إلخ، فضلاً عن صداقاته مع علماء آل فضل الله وشعرائهم.
بقي السيد في كنف والده السنوات الأولى بعد رحيل جدِّه، وواكبه في دوره التبليغي على المنبر الحسيني، واستفاد من مخزونه الديني والثقافي. بموازاة هذه المواكبة اليوميَّة مع والده، انتقل السيد نظام الدين إلى استكمال دروسه في البلدة. كان الدرس يقام في الحقول القريبة، أو في المسجد. وقد أشار إلى هذه المرحل في إحدى قصائده:
على الربعة الخضراء ندرس تارة
وطــورًا نصلي للألــه المـوحَّــــد
ونـدرس فــي ألفيــة لابــن مالـك
تقـرِّب الأقصــى بلفـــظٍ مســـــدَّد
شبَّ الفتى بين تلك الدروس، وفي تلك البلدة العامرة، بمجالس الشعر والأدب، وأخذ يهيئ نفسه لاستكمال طلب العلم، جرياً على نهج آبائه وأجداده. وقد صار واحدًا من المشاركين في اللقاءات الأدبيَّة العفويَّة الَّتي كانت تعقد في باحة المسجد، أو في بيوت القرية. لكنَّ متطلبات الحياة فرضت عليه الاستقلال في شؤونه المادية، فكانت وجهته كما هو حال الكثيرين من شبان جبل عامل، الأرض الفلسطينيَّة للعمل هناك، فغادر قريته إلى حيفا، وبدأ هنالك العمل لإنشاء تجارة مستقلَّة.
فدائي في حيفا
كانت حيفا سوق العمل للعامليين، فهي مقصد الشبان والتجار، وفيها عدد من أبناء بلدة السيد وأقاربه، بمن فيهم أخوه الأكبر، لكنَّ المدينة كانت تشهد ـ في فترة وصول السيد إليها ـ حراكاً فلسطينياً، لمواجهة العصابات الصهيونيَّة، وصار العامليون شركاء الشعب الفلسطيني في قضيته الملتهبة، وفي المقابل كان الاحتلال الإنكليزي يضيِّق الخناق على العامليين، ويفرض قيوداً على حركة التنقل، وهو ما دفع بالسيد ورفاقه إلى سلوك الطرق الجبليَّة للتخلص من عيون العسكر الأنكليزي.
الهبت القضية الفلسطينيَّة مشاعر العامليين، ومن بينهم السيد نظام الدين، فباع ما لديه من بضاعة، واشترى سلاحاً من حسابه، وقرَّر الانضمام إلى صفوف الثوار العرب، ومواجهة العصابات الصهيونيَّة والعسكر الإنكليزي.
لقد روى بمرارة ما أصاب حيفا في تلك الأيام العصيبة، ” كانت المتاريس التي قاتلنا من ورائها عبارة عن أكوام من التنك، والسلاح الَّذي بيدي مسدس يطلق رصاصة، ربَّما لا تصل إلى مسافة قريبة، رابطنا مع عدد من الفدائيين، ومن بينهم من عيناثا، وأطلقنا الرصاص على الجهة المقابلة، وكنا نقفز من خلف المتراس، وهم بدورهم كانوا يطلقون علينا النار، وكنَّا نقفز من مكان إلى آخر، فيصدر التنك أصوات تسمع وكأنَّه أزيز رصاص، فتخيف أفراد العصابات الصهيونيَّة. كان السلاح المتوفِّر بأيدي الفدائيين، هو عبارة عن بنادق قديمة لا تصلح للصيد، وأغلبها كان يُتلف بمجرد إستعمالها، بينما الصهاينة كانوا يملكون آنذاك أحدث البنادق والمتفجرات”.
بقي السيد في حيفا، وحوصر مع ابن بلدته وصديق عمره عبد الرؤوف بسام في أحد بيوتها، بعد تضييق العصابات الصهيونيَّة الخناق عليهما، وأدرك في تلك اللحظات أنَّ خياره الوحيد القتال حتَّى النهاية، وليس في اليد إلا سلاح بسيط، وهو الذي كان يسمع ما يتناقله الفلسطينيون عن إرتكابات تلك العصابات بحقِّ العرب، وتدمع عينه حين يتذكَّر الخيانات العربية، والتخاذل عن نصرة المحاصرين في حيفا. بقي لأيام في ذلك المنزل، وهو يحاول الصمود دفاعاً عن المدينة. ولمَّا أدرك أن الأمور انتهت خرج من مكانه المحاصر بعد انسحاب العصابات إثر معارك مع العرب، مزنراً بقنابل يدويَّة، لحماية نفسه ورفاقه من الوقوع في الأسر، وغادر من هناك إلى عكَّا، وقرَّر مع رفيقه عبد الرؤوف بسام الصمود في المدينة، لكنَّها تعرضت بدورها للهجوم، ومن هناك انتقل بحراً إلى صور. ثمَّ عاد إلى قريته بعدما تنقَّل لأيام من قرية إلى أخرى ـ وأحيانًا سيراً على الاقدام، ـ ومعه سلاحه وقد إحتفظ به على أمل العودة مرَّة أخرى إلى حيفا.
ألقت الهزيمة العربيَّة في فلسطين بثقلها على أهالي الجنوب، وهم الذين عايشوا مرارتها عن قرب، وبدأت قوافل النازحين تعبر الحدود إلى القرى الحدوديَّة، ومن بينها بلدة السيد، وفيها تمركز أيضاً جيش الانقاذ، وقد ضمَّ حينها متطوعين عرباً وفلسطينيين. استُقبل اللاجؤون، وجيش الإنقاذ بالترحاب في عيناثا، وبعضهم نصب خيامه إلى جوار منزل السيد، فبدأ العمل على تقديم يد العون والمساعدة بما أمكن. وعلى المقلب الآخر كادت مهمَّة بعض أفراد جيش الإنقاذ تتحوَّل إلى مهمَّة ضدَّ سكان القرى الحدوديَّة، فبدأت ممارسات المتطوعيين تُضيِّق على الأهالي، فصاروا يفرضون أعمالاً بالسخرة، أو يصادرون الأملاك، ويعتدون على المواطنين، وهو ما دفع بالأهالي إلى رفع الصوت بوجههم، بعدما غيَّروا وجهتهم من تحرير فلسطين إلى الإطباق على قرى الحدود.
النشاط الاجتماعي
إنخرط السيد نظام الدين بعد العام 1948 في النشاط الاجتماعي لتحسين مستوى الحياة العامَّة في قريته، فأنشأ مع بعض أقرانه جمعيَّة أهليَّة وانتخبوا رئيساً لها من فقراء القرية تحديًا للواقع الإقطاعي القائم آنذاك، ولتقديم نموذج جديد للمسؤولية بعيداً عن الزعامات التقليديَّة الموجودة، وبدأت الجمعيَّة القيام بتحسينات في البلدة التي لم يكن فيها بلدية آنذاك، وكذلك القيام ببعض المشاريع الخيريَّة، ومساعدة المحتاجين، وكانت تُموِّل صندوقها من اشتراكات أعضائها، أو من التبرعات، ولمَّا توسَّع نشاطها صارت عرضة لاستهداف الإقطاعيين بخاصَّة، عندما قاربت الموقف من الانتخابات النيابيَّة، فلم تعمر طويلاً. لم ينفصل نشاط السيد نظام الاجتماعي عن نشاطه الأدبي، فكان يشارك في مجالس الشعر العامرة في بلدته، فجمعته علاقة أدبيَّة بالشاعر الشيخ علي مهدي شمس الدِّين، ولطالما تبادلا تلاوة القصائد من محفوظاتهما الشعرية، أو من نظم الشيخ والسيد، لكنَّ تلك القصائد التي قالها السيد نظام لم تدوَّن، وذهبت مع ذاكرة هذين الشاعرين، وهو الأمر ذاته الذي تكرَّر لاحقاً مع قريب السيد، الشاعر الشيخ عبد الحسين سام، ومع الشاعر السيد عبد الحسن جعفر، ومع شعراء وأدباء آل فضل الله. ترافق هذا الجو الأدبي مع رغبة السيد نظام الدين في الذهاب إلى النجف الأشرف، فجهَّز نفسه بداية الخمسينيَّات للسفر إلى العراق، ولكن حال بينه وبين تحقيق هذه الأمنية وضع والده الصحي، والذي كان قد بلغ من العمر ثمانين عاماً، ولم يبق معه في البيت من أولاده إلا نجله السيد نظام الدين، وهو نجله الأصغر، فقد سبق لأبنائه وبناته أن استقلوا في حياتهم العائليَّة. وبين الرغبة في السفر إلى النجف الأشرف لاستكمال الدراسة الدِّينيَّة، وواجب خدمة والده، اختار السيد نظام البقاء إلى جانب أبيه. وكان قريبه ورفيقه العلامة المقدس السيد عبد المحسن فضل الله قد سبقه إلى النجف الأشرف، فراسله من هناك في العام 1370/ 1950 في بعض شؤونه الخاصَّة، وشرح له في رسالته حال الدراسة هنالك، ويستدل من الرسالة أنَّ الرجلين كانا متواعدين على استكمال الدراسة سويًّا.
خطيب المنبر الحسيني
لم يتمكَّن السيد نظام من الذهاب إلى النجف الأشرف، وبقيَ يُردِّد أنَّه حُرم من هذه الفرصة للتزوُّد بالعلوم الدِّينيَّة، واستكمال مسيرة آبائه وأجداده، ولكنَّه ظلَّ مواكباً للنشاط العلمي بعدما قرأ المقدمات من لغة وأدب وفقه، مستفيداً من ملازمته لأبيه، ومن المكتبة التي تركها له جده، وما احتوته من كتب قيِّمة، ومن مجالس العلم والأدب بين العلماء والشعراء.
كان الاستقرار في عيناثا يتطلب استقراراً اجتماعيًّا، فتزوج في العام 1952 من السيدة بثينة فضل الله. استقرَّ السيد نظام الدين مع العائلة في بلدته عيناثا، والتي بدأ فيها بتكوين عائلته الصغيرة الخاصة به، وسكن مع زوجته في منزل متواضع ورثه عن والدته، وكانت زوجته خير معين له على صروف الدهر حيث تولّت أعباء تربية أطفالهما على مبادئ الدين الحنيف، والأخلاق الصالحة، وعلى قيم الخير، والصلاح، والإيمان، وعززت فيهم صلابة الموقف في مواجهة صعوبات الحياة، وخصوصاً أن العائلة مرّت بظروف حياتية صعبة مثلها مثل العائلات المحيطة بها، وكانت تلك المرحلة مرحلة الفاقة والعوز وشظف العيش، وكان الزوج في هذه المرحلة في ميدان نشاطه وعمله سواء كخطيب للمنبر الحسيني، أو حينما كان يتردد إلى بيروت لتوفير سبل العيش الكريم. وتسنَّى له في بيروت الّتي انتقل إليها في العام 1954 لبضعة أشهر، أن يشهد حجم التفاوت في الخدمات والامتيازات بين مركز القرار والأطراف، فعاد إلى قريته، وبدأ بممارسة دور تبليغي من خلال المنبر الحسيني، متنقلاً بين عيناثا وجوارها، مستفيدًا من مخزونه الثقافي والأدبي، وصوته الشجي في شحن العواطف اتجاه ملحمة كربلاء، وفي بث الوعي الدِّيني بين الناس.
كانت إرهاصات ثورة العام 1958 تبلغ الجنوب، وقد إنضمَّ اليها الكثيرون من ابناء عيناثا، بينما شهدت القرية لأوَّل مرَّة هجرة معاكسة عندما عاد إليها أبناؤها من بيروت على وقع أحداث الثورة ضدَّ حكم كميل شمعون.
واظب السيد نظام الدين على القيام بدور تبليغي من خلال المنبر الحسيني حتَّى العام 1959، حيث غادر إلى الكويت، وفضَّل عدم القيام بالمهمَّة ذاتها في تلك البلاد، حتَّى ولو سنحت له الظروف. فهو على الرغم من تردُّده على المجالس العاشورائيَّة، ومشاركته الفعَّالة في إحياء المناسبات الدِّينيَّة، وقيامه بدور وعظي في صفوف العامليين المهاجرين، فإنَّه فضَّل العمل في ميدان آخر، فاختار وظيفة في مؤسَّسة رسميَّة، وبقيَ فيها حتَّى العام 1964، قبل أن تضطره ظروفه العائليَّة للعودة إلى قريته على أمل معاودة السفر، ولكنَّ الظروف عاكسته، فمكث في عيناثا سنتين في ظلِّ أوضاع ماليَّة صعبة. كانت فرص العمل ضئيلة، والأراضي لا تعطي المنتوج الكافي، والأب المموِّل في ظروف الشدَّة قد ارتحل. قرَّر السيد نقل عائلته إلى حي النبعة في ضاحية بيروت الشرقية. سكنت العائلة في ذلك الحي إلى العام 1975،عندما وقعت الحرب الأهلية اللبنانية، فعاد السيد بعائلته إلى ضيعته عيناثا بعدما خسرت العائلة ما كانت تملكه في بيروت. مرّعامان قاسيان على العائلة في تلك البلدة جرَّاء انعدام الأمن، وضيق سبل العيش، وتكرَّر مشهد التهجير نفسه في العام 1978م، عندما تهجرَّت أسرة السيد نظام الدين من البيت الآمن إلى الحقول القريبة، ومن ثمَّ إلى القرى البعيدة نسبيًا عن الخطر، ولمَّا تصاعد العدوان الإسرائيلي صارت وجهة السيد نظام مع عائلته ييروت، وتنقلت العائلة في رحلة التهجير الجديد من مكان إلى آخر إلى أن استقرَّ بها المقام في محلَّة الاوزاعي، وبدأ السيد نظام الدين من جديد البحث عن فرصة عمل لاحت له في مطار بيروت الدولي، وقد أشار إليها السيد شعرًا:
قضيـت أغلـب أيـامـي وأوقـاتـــي
بالكـدّ والجـدّ فـي جمـع البيـانــات
وذاب جسمي ذهـابـاً للمطار وقــد
ولّت حياتي وطارت في المشقات
بقي على تفاؤله منذ منتصف الثمانينات بأنَّ إسرائيل لن تتمكن من البقاء في الجنوب، وستهزم، ومهما طال الزمن سيعود إلى قريته محرَّرة، وكان له ما توقع، فزحف مع الجنوبيين في أيار من العام 2000 إلى عيناثا محرَّرة، وأنشد التحرير شعرًا:
تعلَّمــوا كيـف حـزب الله قد عملـــوا
قد طهروا أرضنا من رجس من فسد
فـرّ العـدو يجــر الـذّل منهـزمـــــــاً
ومجدنـا قـد عـلا رغـم الـذي حســـد
لم يستقر وضعه الصحي منذ العام 1989، عندما صدمته سيارة، فأصيب بكسر أضطره لإجراء عمليات متتالية مما أثر على حياته، وبقي يعاني لسنوات إلى أن أصيب بقصور في الكلى، فعاش سنوات عدَّة مخاوياً للأمراض بصبر وجلد، وبعمارة مجلسه بقراء الشعر ونظمه، إلى أن توفاه الله في الثاني من شباط من العام 2006، ودفن في بلدته عيناثا.
الأديب والشاعر
امتاز السيد نظام الدِّين بثقافته الأدبيَّة المتنوِّعة في مجالات الأدب، والشعر، والتاريخ العربي، وهو أديب وشاعر، وراوية للشعر، ومفسِّر له، وقد كان حافظًا لأغلب أشعار العرب، وهو امتلك ذاكرة قويَّة منذ صغره، ولم يكن يُذكر أمامه بيت من الشعر إلا ويعرف قائله، ومناسبته، وتفسيره وإعرابه، وقد قيل فيه:
أحبّ الشعر موزوناً قريضاً
وقد نظم القوافي كالنجــوم
فكم قرأ الكثير من القوافي بمجلسه من الشعر القديم، كان صاحب مجلس أدب وحكمة كما قيل فيه:
يا صاحب الخلـق الزكـي
وصاحب الأدب الرصين
كم رحت أسمـع حكمـــة
من فيــه كالـدُر الثميـــن
لم يعتمد السيد نظام الأسلوب التقليدي لأبناء جيله من الشعراء في نظم الشعر في المناسبات، بل كان ينظم الشعر بحسب القضايا التي تطرأ أمامه، فهو شاعر لم يستخدم الشعر وسيلة تكسُّب وما كان الشعر منه إلا للتعبير عن قضية مّا أو تعميم قيمة أخلاقية هنا، أو الإشادة بموقف إنساني هناك، كما قال فيه أحد معارفه:
إني رأيتــكَ بالعليــاء معتصمــــاً
وأنت في شيم الأخلاق موصوف
وما شغفت بدنيا زاف بهرجهـــا
لكنمـا أنـت بالآداب مشغــــوف
فقد ولد السيد نظام الدين مع الأدب والشعر كما وصفه أحد أصدقائه: هو شاعرٌ بحنانه ولسانه وكلامه الجاري، كنهر حنين. كان شغفه بالأدب والشعر موصوف، سواء في كتاباته أم في مجالسه المتنوِّعة، وقد جمع إلى هذه الخاصيَّة ثقافته الدِّينيَّة الواسعة، وابتعاده عن زخارف الحياة.
لم يُقدَّر للسيد نظام الدين أن يروي ما في مخزونه الثقافي من شعر وأدب، فما خطَّه قلمه هو النذر اليسير ممَّا حملته ذاكرته، وفاضت به قريحته، فقد كان يتنفس شعراً، ويحكي أدبًا، لكنَّه فضَّل بدل الاهتمام بتدوين قصائده أن يكون جليسه القرآن الكريم وكُتب الأدعية التي لم تفارقه، فهي بالنسبة إليه خير جليس وخير معين حين لا ينفع المرء إلا عمله، ومن أتى الله بقلب سليم، فغادر قصائده، وحياته المفعمة بالعطاء بقلب سليم لا يلوي على شيء إلا كسب رضى ربه.
إن كنـت ترجــو فــي الجنــان ثوابــا أقــم الصلــاة ولازم المحـرابـــــــا
واقــرأ كتـاب الله وادعُ بخشيــــــــة واستغفــر الله الكـريـــم تجابــــــــا
وأنفق من الأموال لا تبخــل بهـــــا فالبخــل يــورث للبخيــــل عذابـــا
كن صاحب الخلق الجميل ولا تكن فظـــاً غليظـــاً سيئــاً مغتابــــــــــا
وإذا أتــاك فتى فقيــرٌ سـائــــــــــلٌ أحســن إليــه واعطـــه فتثابـــــــــا
يا صاحب المــال الـذي جمّعْتـــــه هلا حسبت إلـى الحساب حسابـــــا
فالــمال إن أنفقت منـــه خمْســــــه وزكاتــه لـذّ العطـــاء وطابــــــــــا
وإذا حسبت المـــــال مــا أنفقتــــه تلقــى بمالـك في الجحيــم عقابـــــا
كن مؤمناً أو كــن تقيــاً صادقــــا لا فـاسقـاً شـرســاً ولا كذابـــــــــــا
إن كــان جارك سيئاً ومشاغبــــاً فاـلزم ديــارك واغلــق الأبوابـــــــا
واعمـل ليــوم الحشر قبـل أوانـه واكتـم لغيظــك تحتشــم وتهابــــــــا