الرواية كيأس من التاريخ
الرواية كيأس من التاريخ
عباس بيضون
لا نبتكر جديداً إذا أعدنا القول بأن نجيب محفوظ هو مؤسس الرواية العربية، لكن ما يفوتنا قوله غالباً هو القواعد الذي تمّ عليها هذا التأسيس، ستكون قواعد غربية في جملتها، وسنتذكر دائماً ان نجيب محفوظ وضع دائماً إلى جانب بلزاك، سنتذكر أن نجيب محفوظ الذي لم يكن بعيداً عن مجريات الرواية الغربية تابعها وحاكاها فكان أن استعاد في «اللص والكلاب» وسواها تياراً لوعي، وكان ان حاكى الرواية المتعددة الأصوات والمتعددة الرواية في «ميرامار». مع ذلك ثمة قول بأن نجيب محفوظ وقف عند الرواية في القرن التاسع عشر أو عند الرواية الروسية، لكن هذا لا يكفي. الأرجح أن علينا ان نبحث في الرواية المحفوظية عن أكثر من ذلك، عن خصوصياتها نفسها.
تبنى محفوظ القاعدة الغربية التي تقضي بتحييد الرواية وبالسرد دون تدخل منه ودون انحياز ودون دعوة لشيء، والحال أن الرواية التي سبقت نجيب محفوظ كانت جزءاً من فكر تنويري، يجد غايته الأولى في الإصلاح الاجتماعي، لذا لا يخلو عمل أدبي من إشارة إلى هذه الدعوة أو التصريح بها، لا نستطيع ان نعفي روايات احسان عبد القدوس ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله من ذلك. ثم اننا في هذه الروايات امام واقعية ركيكة تقف عند مظاهر الواقع وسطحه ولا تغوص على علاقاته وأعماقه وتناقضاته، بحيث لا تتجاوز هذه الخبر الواقعي والحكاية البرانية، وحتى في رواية ملحوظة كـ «عودة الروح» لتوفيق الحكيم نبقى عند الدعوة التي تتأكّل الواقع وتطغى عليه.
لم يكن حياد نجيب محفوظ في رواياته موقفاً تقنياً فحسب، كان موقفاً واقعياً بالدرجة الأولى. إنه قراءة للواقع كجدل علاقات وتمظهرات متعددة ومتفاوتة وكظروف وتحديدات متنوعة وكساحة لتمثلات ومواقف وأصوات مختلفة. كانت وراء هذا الحياد نظرة سوسيولوجية طبقية انتروبولوجية للواقع كمتحد اجتماعي وثقافي وطبقوي. لنقل إن نجيب محفوظ دخل إلى الرواية من ثقافة أخرى، بل دخل إليها من تناول آخر وتحديدات أخرى، بل لنقل إن نجيب محفوظ كان يقرأ الترسيمة الاجتماعية من منظور مختلف. هذا المنظور كان يسارياً، إذن لم يكن الحياد خالصاً، لم يكن انكفاء عن تبني نظرية اجتماعية، بالعكس كان نتيجة لذلك وخلاصة لنظرة ترى المجتمع في تاريخيته وبناه وثقافيته وعلاقاته.
هكذا وجدنا أن رواية نجيب محفوظ ونعرض هنا ثلاثيته كمثال هي التاريخ الحديث لمصر، في الثلاثية نرى التجسيم الطبقي والسياسي والثقافي للحقبة التي سبقت ثورة يوليو، نجد التعقيد الاجتماعي والثقافي، نرى البرجوازية الكولونيالية والوطنية كما نرى الطبقة الوسطى. نرى التشابك الثقافي الاجتماعي، أي أن الرواية المحفوظية من دون هينمات لغوية ومن دون تغنٍّ أو وعظ ومن دون نماذج مركبة ومصنوعة ومن دون وجدانيات من أي نوع، رواية محفوظ هي التاريخ المصري، بل هي أقرب إليه من التاريخ الرسمي.
هذه الصلة بين الرواية المحفوظية وبين التاريخ المصري في مختلف حقبه ستستمر. ستكون حلقة وحقبة حقبة، وسيكون في كل ذلك، لا دقيقاً فحسب ولكن عميقاً وحقيقياً وصريحاً وجريئاً. أقول جريئاً لأنني أرى أن روايات نجيب محفوظ في تتبعها للواقع المصري، في أدواره وتطوراته، كانت، مباشرة وصريحة بما يشبه الفضح والتسمية المباشرة، لكن الذي حمى نجيب محفوظ من ان يلقى حساباً وان لا يعاقَب، في زمن لا يتورّع فيه الحاكم عن حشر المثقفين والكتّاب في السجون ولمدد طويلة، حمى نجيب محفوظ فوق وعي الحاكم لمكانته الثقافية والأدبية، حياده الذي جعل أكثر رواياته صراحة وانتقاداً، تبدو كأنها لا تتهم ولا تدعو ولا توجّه، لا بد انها لم تكن روايات دعوة وتبشير ولا بد أن خلوّها من ذلك جعلها بريئة بالنسبة للحاكم، وجعل نجيب محفوظ غير مسؤول.
انما لا ننسى أن وعي هذه الروايات السياسي والاجتماعي كان بالتأكيد متفوقاً، روايات محفوظ كانت افتضاحاً للنظام كله، للنخبة الحاكمة والمثقفين المتواطئين وللمخابرات والأمن والبيروقراطية، لا نجد في كل النتاج الروائي والأدبي يومذاك ما يمكن أن يضاهي الأدب المحفوظي في جرأته. طالما قال نجيب محفوظ عن نفسه أنه موظف، وطالما توارى خلف رواياته، لا بدّ أن هذا خدمه وحماه. لم يكن محفوظ بالتأكيد ثرثاراً ولا مناضلاً، كان كاتباً فحسب، لكنه ككاتب كان يفهم تماماً حق الكاتب ومهنته، لقد اختفى في أدبه ولم يحوّله إلى دعوة. لكنه فعل أكثر من ذلك، جعل من رواياته إعادة حقيقية، بقدر ما يمكن أن تكون الحقيقة ممكنة أو موجودة، لتمثل الواقع المصري والغوص فيه وبنائه روائياً.
من هنا يمكن الكلام عن رمزية نجيب محفوظ التي تبدأ بأسمائه، فهو لا يسمّي شخصياته عبثاً وإنما يبدأ الرمز من الاسم، كذلك نجده في الطبقة والمهنة والحرفة والمكان. هكذا نجد القاهرة مبثوثة ومنشورة على طول روايات نجيب محفوظ، بل هي المدينة المصرية وحقبة نمو وتكوّن الطبقة الجديدة، ما بعد الثورة المصرية. من هذه الزاوية نفهم معنى مقارنة محفوظ ببلزاك الذي تعلّم ماركس منه التاريخ الفرنسي أكثر مما تعلمه من المؤرخين، هكذا نجد في روايات محفوظ بنى واقعية وتاريخية، بل أمثولات في التاريخ المصري.
بيد أن واقعية نجيب محفوظ هي بنت معالجة التاريخ وسيره ومعاناته، لذا فإن قراءة محفوظ للتاريخ تكاد تكون يأساً من التاريخ ومعالجته للواقع خيبة من الواقع. لا نجد في روايات نجيب محفوظ التفاؤل التاريخي الذي نجده عند الواقعيين الاشتراكيين. لم يكن نجيب محفوظ صاحب دعوة أو مناضلاً في تناوله للواقع. كان واقعياً وأحياناً أكثر من الواقع نفسه. هذه الواقعية لا تترك مجالاً للتفاؤل، انها ترى الأشياء من دون زينة أو تحبيذ أو اغترار. ترى الواقع في تهافته وانحداره وتراه أيضاً في سوداويته وشلله وانسداده. كان نجيب محفوظ واقعياً، وكان وراء هذه الواقعية نظرة يسارية للواقع وللتاريخ، لكنه لم يكن ثورياً ولا واقعياً اشتراكياً. كانت الواقعية بالنسبة له هي الرؤية من دون اغترار ومن دون تنميق ومن دون أمل كاذب. الرؤية بقدر محسوب من التشاؤم والسوداوية أو على الأقل البعد. نهايات روايات نجيب في معظمها تؤدي إلى ذلك. لم تكن الحقيقة عند نجيب محفوظ إلا تلك الخيبة من الواقع.
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-09-02 على الصفحة رقم 6 – السفير الثقافي