الجمعة 29 مارس, 2024

«الحفرة» لبلاتونوف.. الجحيم أيضاً

«الحفرة» لبلاتونوف.. الجحيم أيضاً

عباس بيضون

baidon-1

لم يكن اندريه بلاتونوف مثل اخمانوفا وباسترناك وبرودسكي غريباً عن الشيوعية أو خصماً لها بل كان، هو الذي ولو قبل سبعة عشر عاماً من قيام الثورة البلشفية في روسيا، مناضلاً بلشفيا فقد قبل 1912 في الحزب الشيوعي، وناضل في لجنة الإصلاح الزراعي، وانتخب 1926 عضواً في اللجنة المركزية لاتحاد الزراعة وشؤون الغابات تقديراً لإنجازاته في مجال استصلاح الأراضي. الأمر الذي أتاح له ان يتجول في الريف الروسي ويتعرف إلى الفلاحين عن كثب، ومن ذلك استمد رواياته وقصصه التي لم تعد عليه بالربح، إذ سرعان ما وجدها ستالين نفسه سلبيه وفوضوية وانّب فادييف، أحد الذين لعبوا دور مفتشي الثقافة في العهد الستاليني، لأنه لم يمانع نشر رواياته. بقي بلاتونوف مغموراً إلى ان ازيح الرماد عنه في السبعينيات والثمانينيات، وَعُدَّ من ذلك الحين بين كبار الأدباء الروس. «الحفرة» من بين رواياته التي استمدها من حياة الفلاحين الروس الذين قادهم مشروع ستالين لتأميم الزراعة وتصفيه الملكية الخاصة الزراعية، إلى حال من الهياج الغاضب جعلهم يخربون ممتلكاتهم بأيديهم ويقتلون حيواناتهم ويعانون الفاقة والعوز. لم يكن بلاتونوف بعيداً عن هذا الوضع. لقد عرفه من قرب وعايشه وروايته «الحفرة» تشهد بذلك.

ليس لرواية الحفرة بطل واحد، هناك مجموعة من الأبطال يتوزعون بين القلق روحياً وبين قيادات الحزب الفلاحية والفلاحين العاديين والمناضلين الايديولوجيين. لكن أهمية الرواية هو انها تكاد تكون تقريراً ووثيقة عن الريف الروسي وقت مشروع التأميم الزراعي الستاليني. قد يكون تعدد أبطال أو بعبارة أخرى خلوها من الأبطال هو عنايتها بتصوير الوضع كله والمجتمع كله، لكن بلاتونوف من جهة أخرى ليس مجرد ناقل حرفي للواقع، انه يعيد بناءه فله واقعه الخاص وله انزياحاته الواقعية، التي تبدو أكثر واقعية من الواقع نفسه، بل اشد سواداً وقسوة منه، بل هي أحياناً تبني منه أسطورة سوداء، وبالطبع يبدو الواقع مصدراً للقبح والتشوه والفوضى.

تبدأ الرواية بشخصية برانية تقريباً. انها شخصية فوشيف الذي فصل في الثلاثين من عمره من مصنع الأدوات الميكانيكية لا لشيء إلا لأنه يفكر اثناء العمل، يفكر ويظن ان العمل يتوافق مع التفكير ولا يجوز أن نعمل بدون تفكير. وحين يعرض فوشيف قضيته على اللجنة العمالية يقال له إن الإدارة التي خففت ساعات العمل ساعة منحته هذه الساعة ليفكر. شخصية فوشيف لا تبدو واقعية تماماً، انها شخصية مركبة وبرانية. فوشيف لا يفكر فحسب، انه باحث عن الحقيقة التي لا ينفي وجودها، بل يتأمل ان تشرق له من وسط أفكاره. وبالطبع لا يصل فوشيف إليها بل يتأمل وجودها. لقد صرف من عمله لكنه يجد بدلاً منه عملاً في عمارة معدة لتسع كل الطبقة العاملة في المنطقة، يمكننا ان نحس هنا بروح التضخيم والسخرية خاصة حين نعلم ان هناك من يفكر بعمارة تسع كلها للطبقة العاملة على وجه البسيطة. ها هنا تضخيم وسخرية مضمرة ضمنية في ثنايا النص. هذه بالطبع وان بدت قريبة من الواقع إلا انها اقرب إلى الأبنية الاصطناعية، اقرب إلى نوع من السريالية التي تبني على الواقع لكنها تنفذ منه وتتخطاه.

سنرى في الحفرة شخصيات المناضلين المثاليين الذين كرسوا أنفسهم للعقيدة، كذلك المناضل الذي تخلى عن الحب في سبيل القضية، لكن للمثالية العقائدية هفواتها التي تغدو في بعض الأحيان قاسية واجرامية. هنا نجد ان «الحفرة» مكتوبة بروح القسوة، إذ لا يمكن ان ننسى مشهد الكلب الجائع، كجزء من الجوع العام، وهو يغرس انيابه في الفرس وينهش لحمها، هناك دائماً الجوع والهزال وفقدان المأوى والنوم جماعات وهناك أيضاً الجريمة والخطاب الأيديولوجي الأجوف، وبالطبع لا نتوقع ان نجد في رواية بلاتونوف حباً أو أحلاماً، فهنا الواقع مسخ أو على حد المسخ وهنا الأمور شوهاء فظيعة. رواية كهذه اينها من الواقعية الاشتراكية التي تتكلم عن البطل الإيجابي وعن المستقبل. انها رواية عن الجحيم إذ لا نجد فيها سوى بقايا وفضلات الواقع والإنسان.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-09-14 على الصفحة رقم 12 – ثقافة

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *