الجمعة 29 مارس, 2024

التكثيف الرّمزيّ ودلالاته في رواية “الحقيقة”

التكثيف الرّمزيّ ودلالاته في رواية “الحقيقة” لمحمد إقبال حرب

الدكتورة دريّة كمال فرحات

frhat

          harbالحقيقة تشير إلى معان عدّة، فهي الصدق في تعارضه مع الكذب، وهي الواقع في تعارضه مع الوهم. وقد أثارت هذه اللفظة الكثير من الإشكاليات الفلسفيّة، باختصار وببساطة نقول الحقيقة كما هي، فهي الأمور كما هي حقاً، وأية وجهة نظر أخرى هي خطأ. من يستطيع أن يؤكّد هذه الحقيقة؟! فما يراه البعض حقيقة قد يراه الآخرون مزيّفًا، فالحقيقة نسبيّة، غير مؤكّدة.

وبين أيدينا رواية لأديبنا محمد إقبال حرب، يعنونها باسم الحقيقة، فأية حقيقة يريد؟ وعن أية حقيقة يتحدّث؟ وهل سنصل مع روايته إلى الحقيقة السليمة؟

          الحقيقة الأولى التي نصل إليها مع أديبنا حرب، أنّ ما بين أيدينا هو عمل سرديّ، ينتمي إلى فنّ القصّ والقصة اصطلاحًا : تتبّع تفاصيل حدث أو أحداث… أو رواية / سرد حدث أو أحداث. إذًا القصة هي مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب / القاص وهي تتناول حادثة أو حوادث عدّة ، تتعلّق بشخصيات إنسانيّة مختلفة، تتباين أساليب عيشها وتصرّفها في الحياة، على غرار ما تتباين حياة النّاس على وجه الأرض. ويكون نصيبها في القصة متفاوتًا من حيث التّأثّر والتّأثير(1) .

          لكنّ اللافت في روايتنا أنّها لا تتعلّق بشخصيات إنسانيّة، إنّما هي شخصيات من عالم الطيور أو “الرّيشيّات كما كان معروفًا”(2)  المنقسم إلى عالمين أحدهما أرضي وآخر جويّ، إضافة إلى عالم الدّجاج الصّناعيّ. إذا نحن أمام حكاية تشبه حكايات كليلة ودمنة، هذا السّفر العظيم الذي جاء من أصوله الهنديّة، وأعاد صياغته الكاتب العباسيّ ابن المقفع، وقد تخفّى هذا السّفر وراء عالم الحيوان ليعبّر عن قضايا جوهريّة. وهنا ندخل في عالم الرّمز كَمكون جماليّ وقيمي منح العمل السرديّ عمقًا مجازيًّا بعيدًا عن أساليب الواقعية، وانعكس ذلك على بنية النص القصصي الذي تجاوز الجزئي الضيق إلى المطلق الشامل لتجنب الوقوع في مأزق التعبير المباشر وهكذا امتلكت صياغة جديدة وتيمات متميزة، احتل فيها الرمز مكانة أساسية متصلة بإثبات فلسفة الذات من خلال محاورتها لظلال الواقع.

          وإذا كان الفيلسسوف بيدبا واضع كليلة ودمنة قد لجأ إلى الرّمز هربًا من بطش الملك دبشليم، فإنّ لجوء محمد إقبال حرب إلى الرّمز في زمن باتت فيه الآراء أكثر جرأة، والنّفوس أشدّ اتّجاهًا إلى الواقع، ما هو إلّا “أكثر امتلاء وأبلغ تأثيرًا من الحقيقة الواقعة”، وهو أكثر شعبية من الحقيقة الواقعة. فهو ماثل في الخرافات والأساطير والحكايات والنكات وكل المأثور الشعبي. والتفاهم بطريق الرمز بين الناس شيء مألوف. فهم يلتقون عند الرمز؛ لأنه أثر للتراث السحري؛ فهو يأسرهم ويجذبهم إليه بقوة لا تجذبهم بها الحقيقة الواقعة.

          وندخل في الحكاية لنكتشف خباياها، ونفكّك رموزها وندرك ما قدّمته من أفكار تحاكي الحياة، من مطامع السلطة إلى الطائفيّة وما ينتج عنها من فتنة وصناعة تاريخ مزيّف، واستخدام سلاح العنصريّة والحقد، وفي المقلب الآخر تلمّح إلى الاختلاف بين الحضارات، وتقدّم قضايا فكريّة بمواجهة الخرافات والوقوع فريسة لها.

          فتنفتح الرّواية على وصف المكان الذي يعيش فيه الدّيك سهم مع أفراد عشيرته من الطيور الأرضية، هو مكان فريد من نوعه، وأجمل ما فيه أن “ابن أدم ترك حضارة الحجارة للطبيعة فرسمت أبدع صورة للزّمن”(3) ، فالكاتب من خلال هذه العبارة البسيطة يوجّه سهامه إلى الإنسان الذي شوّه الطّبيعة وحرمها النّقاء والصّفاء، وفي ذلك إشارة إلى طغيان الإنسان وقسوته، فهذا الكائن يمارس بطشه عبر رياضة القتل أي الصيد فتقع العصفورة الجميلة ضحية له، فتسقط على الأرض جثة هائمة نتيجة طلق ناريّ يمنعها من متابعة المسيرة مع أبناء بجدتها والانتقال الموسمي بسبب البرد.

          وفي موضع آخر نستشفّ من خلال الديك الزّعيم طبيعة هذا الإنسان وما يتميّز به من سمات شرقيّة تجعله يتباهى بذكوريته، فنراه ينظر إلى الحرملك الذي لديه نظرة المستسلم لقضائه وقدره، وإن كان يأمل في حياة أخرى مع صنف آخر من الإناث، فها هو الديك سهم يرى “دجاجاته كلّ يوم بدينات ثقيلات الخطى ينقنقن بأصوات جشَّاء ويصدرن نشازًا، وكلّما رأى سربًا في السّماء يتساءل إن كانت بينهم نغم”(4) ، هو صراع الرّجل الشّرقيّ بين ما يملك وما لا يملكه.

          ويقدّم لنا الكاتب رؤية جديدة يغلب عليها الشّكل الرّمزيّ، فمن خلال عالم الطيور ينقل لنا واقعًا سياسيًّا يتمثّل بالسّلطة ومطامعها، وما يتبعها من انتخابات وصراع بين الزّعامات، فالزعيم يأمل في ابنه البكر حفّار أن يكون سنده في السلطة ” سارا بتوافق طبيعيّ بين أب متمرّس في القيادة ويطمح لزعامة اتّحاد مزارع الهضبة كلّها وابنه الذي قد تمّ تعيينه لمنصب نائب المزرعة المجاورة. إنّ وجود ابنه في الحكم سيوجد له سندًا في الانتخابات، بل ربما أخذ مكانه حالما يُصبح هو الحاكم العام كما يحلم”(5)  ، نعم هذا هو الواقع السياسيّ الذي نعيشه إنّه عالم التمسّك بالسّلطة وصولًا إلى التوريث السّياسيّ، فلم تتوقّف أحلام الديك الزّعيم بأن يسيطر على الحكم، إنّما أراد هذا المجد لابنه أيضًا، ولكن هذه الشّهوة السّلطويّة تجعله ينتزع السّلطة من والده من قبل، ويضع لنفسه الأعذار بذلك:” لقد فعلت هذا من أجل المصلحة العامة. فوالدي كان يهدر القمح لجلب الدّجاجات البيضاوات من مزارع بني آدم. كانت ملذّاته تستنزف أرزاقنا والصّيصان لا يجدون حبة قمح أو شعير لأيام. كان لي عذري” (6).

وربّما كان يضع لنفسه تسويغًا خوفًا من أن يفعل ابنه به كما فعل بوالده، وهو ما حدث فعلًا حيث كان حفّار بمواجهة والده سهم، وكان هو الأداة التي اُستخدمت لإثارة الفتنة: ” الابن: مهلًا، مهلًا يا أبتاه فأنا قد عيّنت نائبا للحاكم في المزرعة المجاورة، ولم أعد الدّيك الصغير الذي تفرض عليه ما تريد. وسيتم تنصيبي بعد بضعة أيام ونصبح متساويين”(7) ، نعم إنّها حقيقة الحياة فالجزاء من جنس العمل، فكما فعل بوالده سيُفعل به، وبغض النّظر عن مسوّغاته، فهنا الحقيقة نسبيّة، ما يراه هو صالحًا قد يراه الآخرون طالحًا، وكما رأى نفسه مضحيًّا بوالده من أجل الصالح العام، سيرى ابنه أنّ الآخرين لن ينسوا فضله لأنّه ضحّى بوالده من أجل الوطن، وما هذا إلّا بتأثير شيطان السلطة. 

          ونغوص في هذا البناء السرديّ لنصل إلى حقيقة أخرى من عالمنا، إنّها حقيقة الطائفيّة، وما تخلّفه من دمار وفتك في البلاد، فتنتشر في الرّواية إشارات إلى هذا العالم الطّائفي، فالدّيك /سهم من عالم الطيور الأرضيّة لكنّ ذلك لم يمنعه من الوقوع في حبّ عصفورة من عالم الطّيور الجويّة، وهنا يقودنا الكاتب (حرب) إلى عوالم متشعبّة فيها إشارات إلى الاختلاف الدّينيّ بينهما، وعبر ذلك يمرّر لنا حقائق يؤمن بها: ” لقد أثّر فيها أنّ مبادئه الدينيّة مختلفة فمنذ مدّة سمعته يصيح بينما هو قادم إليها فسألته عن زعيقه هذا فقال: إنّه يصيح كلّ يوم صباحًا وشرح لها إنّ هذه هي صلاته. قالت له: أتزعج المخلوقات كلّها بصوت حاد وتقول عبادة، اتق الله ياعزيزي. قال: ألا تصلين؟ قالت بلى، بصوت عذب رقيق في أوقات وأماكن لا أزعج بها أحدًا كما أمرنا الرحمن”(8) ، ويمتدّ الحوار لنكتشف الفروقات بين الدينين بسلوكياتهما وطقوسهما، وما ولّد من ابتعاد بين عباد الخالق، فجعل أحدهما جنسًا أدنى من الجنس الآخر، بل إنّه من المعدومين، ومن خلال هذا البناء الدرامي بعلاقة العصفورة/نغم مع الديك الزّعيم /صيّاح ينقل محمد إقبال حرب الصّراع الطائفي الذي نعيشه والخلاف الديني الذي نمارسه، فالدّهاة يجدون في بنود عبودية الله مدخلًا فيبنون عليها مذاهب وأساطير ليحكموا بها العامة، استنادًا إلى أنّها من أساسيات العبادة، لهذا بتنا نرى فرقًا ومجموعات متعدّدة، تنسب إلى نفسها الحقّ وأنّها الأقرب إلى الله، وتبدو الحقيقة التي يراها الكاتب جليّة، فينقلها عبر الديك صياح وهو الاسم الجديد الذي سمتّه به العصفورة نغم: ” طالما أنّ الإيمان هو السبيل وإنّ رضا الله هو الهدف. وطالما أنّ الخشوع والإبتهال إلى الله في قلب سليم هو المرتجى فطريقة هذا العالم أو ذاك العابد لبست هي الميزان. فكلّ العبادات تصعدد إلى الله الذي يتقبّل منها ما يشاء”(9) . هي حقيقة واضحة لكنّها تظلّ في تطبيقها نسبيّة طالما هناك من يستغلّها لينشر الفتنة ويدقّ إسفين الخلاف بين الجماعات.

          ولن تتوقّف الصّراعات على الأبعاد الدّينيّة، إنّما يمكن نشر الخلافات عبر الاختلاف من خلال اللون والطّبقيّة، فالدّجاج الأبيض الذي هو صنيع حضارة الإنسان يهدف إلى التّخلّص من عنصرية الدّجاج الملوّن الذي هو الدّجاج الأصليّ، إنها رمزية تشير إلى الاختلاف الحضاريّ، بين شعوب تميّزت بأصالتها وبحضارتها الحقيقيّة، وشعوب تسلّقت هذه الحضارة وسعت إلى السّيطرة، ولن يكون ذلك إلّا عبر نشر الفتنة بين أبناء العشيرة الواحدة، فكان الديك الأبيض صنيع الحضارة هو من تقمصّ دور المدرس الأبرص القادر على التحكّم بالدّجاج الملون(10) ،  نعم إنّه صراع الحضارة القديمة مع الحضارة الحديثة. وهو صراع من لا هوية وأرض له مع أصحاب الأرض والهوية، صراع المرتزقة الذين يسعون إلى إيجاد وطن قوميّ لهم على حساب الآخرين   يقول الديك سهم ” من أين لك المال والسلطة لتقوم بكلّ هذا؟ ما أنت إلّا من مزرعة لا خير فيها ولا ثروة. من أين لك هذا؟ أنت أسوأ مما تتصوّرن تريد أن تشتري شعبًا كاملًا من أجل أن تنتمي فقط. من أجل أن يكون لك وطن. اذهب بعيدًا واندحر فالأوطان تنبنى ولا تشترى”(11) . حقيقة لا خلاف فيها ورمزيتها واضحة في إشارتها إلى هذا الكيان الغاصب لأرض فلسطين، السّاعي إلى تزييف التّاريخ وصناعة ” المجد والتّاريخ كذبًا ورياءً على أكتاف الضعفاء(12)” .

          ولم تقف الرّواية عند هذه الإشارات الرّمزية، بل تناثرت حقائق يؤمن بها الكاتب عبر عمله السّرديّ، فنراه يتطرّق إلى الأفكار الرّاسخة في الأذهان، وتجعل الفرد أسيرًا لها، فالجبن ليس أصيلًا في جنس الدّجاج، بل هو دخيل عليه،  وما هذا إلّا تلفيق من بعض الأفراد لحاجة في نفوسهم ” فبات الجبان هو المواطن الصالح بل أصبح الخوف من سمات الوطنيّة”(13) ، هي حقيقة يريد الكاتب من خلالها بعث الحياة في نفوس هذه الأمّة التي استسلمت للضعف،ودجّنت على الجبن.

          ومن الأساليب المتبّعة أيضا للسيطرة على الشّعوب تزييف الحقائق القديمة وتغليفها بالترهات، وحمل الأفراد على تصديق الخرافات وتمرير ما يريد الطّامعون عبر هذه الأساطير والخرافات ” لقد سرّبت كثيرًا من المعلومات على أنّ قصة سيّدنا نقّار حقيقة وليست كذبًا وبات كثيرًا من أهل المزرعة وما جاورها خاصّة المثقفين منهم يعتبرونها حقيقة ثابتة”(14) . ومن خلال ذلك يمكن السيطرة على العقول فهو السلاح السريّ الذي يسمح بنشر الزيف ليكون هو الحقيقة بما أنّها منسوبة الى أسطورة نقار.

 والرّواية تراودنا عن أفكار تأخذنا إلى عوالم بعيدة منها ما نخشى اقتحامه خوفًا من أن تجرفنا إلى ما لا نشاء، ومنها ما نقف منها موقف الرافض، ومنها ما تجعلنا نستلذ رمزيتها التي تضع يدها على الجرح تضع يدها على الحقيقة التي قد نعلمها أو لا نعلمها.

          أمّا الحقيقة المؤكدة التي لا نستطيع نسيانها فهي تميّز أديبنا بأسلوب شاعري جميل ودفق عاطفيّ، مع اعتماد تقنيات السّرد والحوار والوصف ووحدة الحدث والعمل السّاري في الرواية، مع إبداع الكاتب في رسم الشّخصيات، التي نسجها من خياله وأسقطها على هذا الواقع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. محمد يوسف نجم، فنّ القصة، بيروت، دار الثّقافة ، 1979، ط. السابعة، ص 9.
  2. الرواية ص 21.
  3. الرواية ص 10.
  4. الرواية ص 28.
  5. الرواية ص 31.
  6. الرواية ص 31-32.
  7. الرواية ص 37.
  8. الرواية ص 21.
  9. الرواية ص 23.
  10. الرواية ص 49.
  11. الرواية ص 136.
  12. الرواية ص 37.
  13. الرواية ص 80.
  14. الرواية ص 50.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *