الخميس 18 أبريل, 2024

الأميّة بين المفهوم والواقع تجربة لبنان أنموذجًا

الأميّة بين المفهوم والواقع تجربة لبنان أنموذجًا

د.درية كمال فرحات*

أستاذة في الجامعة اللبنانيّة – كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة الفرع الخامس

التّعليم هو تنمية للثّروة البشريّة، وكما تحرص الدّول على تأمين المواد الأوليّة لتنمية اقتصاد البلاد، فإنّ الاهتمام بالتّعليم يساعد على تكوين الثّروة المعرفيّة التي تساهم في بناء المجتمع، وفي تطوير اقتصاده، وعليه فإنّ للتّعليم دورًا في التّنميّة الاقتصاديّة، ومن هنا فإنّ الأميّة تؤثّر على مسار هذه التّنميّة. ويجب محو هذه الأميّة التي تسود في المجتمعات. فما هو المراد أوّلًا بالأميّة؟

الأميّة لغويًا واصطلاحًا:

الأميّة لغويًّا هي من أميّ: اسم منسوب إلى أمّ وأمّة، أي من لا يقرأ ولايكتب، غير متعلّم. وقد قال الفيروز آبادي: الأميّ من لا يكتب أو من على خلقة الأمّة لم يتعلّم الكتاب، وهو باقٍ على جبلته.[1] وقيل عن العرب أنهم أميّون، لأنّ الكتابة كانت فيهم نادرة أو عديمة.

أمّا اصطلاحًا، فقد برزت العديد من التّعريفات التي تحدّد معنى الأميّة، ومنها ما ذكرته اليونيسكو، يعدّ “أميّاً كل شخص لا يجيد القراءة والكتابة”[2]. ولعلّ هذا التّعريف هو الشّائع في معظم البلدان، وقد رأت الأبحاث الجديدة أنّ الشّخص قد يجيد القراءة والكتابة، لكنّه لا يفهم ما يقرأ ويكتب، لذلك غيّرت اليونيسكو تعريفها للأميّة، وأغنته بمعايير جديدة لها علاقة بالفهم، وعليه بات غير الأميّ هو الشّخص القادر على “قراءة وكتابة وفهم نص بسيط وقصير يدور حول الوقائع ذات العلاقة المباشرة بحياته اليوميّة”.

ومع تطور المعطيات في حياتنا العمليّة تعود اليونيسكو إلى وضع تعريف جديد للأميّة جاء فيه يعدّ “ليس أميًّا كلّ شخص اكتسب المعلومات والقدرات الضّروريّة لممارسة جميع النّشاطات التي تكون فيها الألفبائيّة ضروريّة لكي يؤدّي دوره بفعاليّة في جماعته، وحقّق في تعلّم القراءة والكتابة والحساب نتائج تسمح له بمتابعة توظيف هذه القدرات في خدمة نموّه الشّخصيّ ونموّ الجماعة، كما يسمح له بالمشاركة الناشطة في حياة بلده”[3].

ولعلّ الحديث عن تعريف الأميّة تدفعنا مع تطوّر العصر ودخول التّكنولوجيا إلى إدخال أميّة جديدة، وهي الأميّة التّكنولوجيّة، وعليه يصبح أميًّا كلّ من لا يعرف مبادئ التّكنولوجيا ولا يتعامل مع الشّبكة العنكبوتيّة وما يترتب عليها من تقنيات ووسائل معرفة. خصوصًا أنّ العالم بات يتّجه إلى الكتاب الرّقميّ وليس الورقيّ، فقد يعرف المرء القراءة والكتابة، لكنّه لا يعرف استخدام تقنيّات المعلوماتيّة، فينطبق عليه مفهوم الأميّة، لأنّه لن يستطيع الوصول إلى المعلومة.

أسباب الأميّة:

تتعدّد أسباب الأميّة، ومن الطّبيعي أنّها تختلف من دولة إلى أخرى، وترتبط بطبيعة البيئة العامة للمجتمعات، والتّفاوت الحاد في مستوى الدّخل بين الدول العربيّة يؤدّي دورًا كبيرًا في تفاوت الحركة التّعليميّة. لكن من أهمّ هذه الأسباب:

  • الأوضاع الاقتصاديّة:

إنّ المستوى الاقتصاديّ لكلّ دول من الدّول قد يؤثّر على تقديم التّعليم وغيرها من الخدمات الضّروريّة للمجتمع. ومن هنا فإنّ الدّول التي يتدنى فيها مستوى الدّخل للأفراد قد يؤدّي ذلك إلى ارتفاع نسبة الأميّة، وذلك نتيجة التّسرّب المدرسيّ، ما يؤدّي إلى وجود عدد كبير من الأطفال خارج البيئة المدرسيّة، وعليه عودتهم إلى الأميّة.

إنّ الفقر يعدّ عاملًا أساسيًّا في تفشي الأميّة بين أفراد المجتمع، وكلما ازدادت نسبة المنتمين إلى تحت خط الفقر، ازدادت الأميّة، لأنّ الأولويّة في هذه الحالة عند االفرد تكون بتأمين مقوّمات الحياة من طعام وشراب ومأوى، خصوصًا مع غياب ما تقدّمه الدّولة من خدمات.

  • العادات والتّقاليد في المجتمع:

لكّل مجتمع عاداته وتقاليده وقيمه التي يؤمن بها، من هنا فإنّها قد تؤثّر على الحركة التّعليميّة، فبعض المجتمعات ربما لا تؤمن بتعليم الفتيات، ولعلّ هذا أكثر ما نراه في المجتمع الرّيفيّ، أو في المناطق النّائيّة، حيث تكون هذه المناطق بعيدة من اهتمام المسؤولين في الدّولة، فتبقى تعيش تحت سلطة المجتمع المحليّ.

ولعلّ هذا العامل أكثر ما ترك تأثيره على المرأة، فبتنا نرى تفشي الأمية عند النّساء، ولهذا تكثر الدّعوات إلى الاهتمام بتعليم المرأة، ولا ننسى أنّ المرأة في الوطن العربيّ لم تعرف التّعليم إلّا في مرحلة متأخرّة فالمرأة دخلت مجال العلم والتّعلّم متأخرة عن الرّجل.

  • الأزمات والحروب

        إنّ الأزمات والحروب تشكّل عاملًا مهمًّا في تفشّي الأميّة، لأنّ هذه الاضطرابات تؤدّي إلى خلل في مسيرة حياة المجتمعات، فيكون البحث عن الأمان هو الهاجس عند الأفراد، ما يؤدّي إلى تعطيل العمليّة التّعليميّة، ومتى طالت الأزمة أو الحروب ربما يدفع هذا الأمر بعض الأفراد إلى التّنقل وترك الانتماء إلى المدارس.

       ولعلّ هذه العوامل تتفاوت بين بلد وآخر في تسبّبها بالأميّة، وأحيانا قد يكون هناك عامل مساهم في الوصول إلى العامل الآخر، فالحروب والأزمات قد توصل إلى الفقر.

       ولابدّ من الإشارة إلى أنّنا نعيش هذه الأيام محنة جائحة الكورونا، وقد استطاعت أن تصل بنا إلى أزمات اجتماعيّة واقتصاديّة سيئة، يمكن إن طالت مرحلتها أن نصل إلى أميّة مبطّنة. فمن المسلّم به أنّ إنهاء العام الدّراسيّ السّابق نتج عنه نقصان في إنهاء البرامج، وقد ارتأت معظم الدّول ومنها لبنان إلى ترفيع الطّلاب عبر إفادات نجاح، وهذا قد يؤدّي إلى وجود جيل من تلاميذ المرحلة الابتدائيّة يترفعون من صفّ إلى صفّ وهم لا يعرفون القراءة والكتابة، وبما أنّنا لا ندرك ختام هذه الجائحة فإنّنا امام أزمة تؤثّر على التّعليم خصّوصًا في المرحلة الابتدائيّة.

مشكلة الأميّة في لبنان:

انطلاقًا من العوامل السّابقة التي يمكن القول إنّها تنطبق على لبنان، وخصوصًا ما له ارتباط بالحروب والأزمات التي مرّ بها، فإنّ هذا البلد يعاني من أزمة الأميّة، وقد نضيف على العوامل السّابقة ما يلي:

  • القصور الإعلاميّ في التّوعيّة لمحو الأميّة، (أخطارها، مساوئها، المستقبل الواعد).
  • عدم وجود ضوابط لحث المتخلفين عن الالتحاق بالمدارس الابتدائية، وعدم وجود حوافز تشجِّعهم على الالتحاق بصفوف محو الأمية.
  • عدم توافر الأعداد الكافية من المؤهلين والمدربين في مجال تعليم الكبار وإدارة صفوف محو الأمية[4].

كل هذه الأسباب تؤكد أن مشكلة الأميّة متجذرّة وتطول نسبة كبيرة من إجمالي عدد سكان لبنان، ومن الطّبيعيّ أنّها ستزداد مع تردي الأحوال الاقتصاديّة والأمنيّة فيه.

وإنّ رأت منظمة الأونيسكو في تقرير لها إنّ الوضع غير مقلق في لبنان مقارنة مع الدول العربيّة المجاورة، إلا أن أعداد المتسرّبين من التعليم هي في تزايد، وهناك تقديرات مقلقة عن نسب إعادة الصّف والتّسرّب، بدءًا من الصّف الرّابع الابتدائيّ، وخصوصًا بالنّسبة إلى البنين. وقد التزمت هيكلية التّعليم الجديدة في لبنان[5] إلى جعل سنوات مرحلة التّعليم الأساسيّ/ الابتدائيّ من خمس سنوات إلى ست سنوات، وذلك خوفًا من التّسرب المدرسيّ والعودة إلى الأميّة، بينما في عمر السّت سنوات يكون التّلميذ قد تجاوز ذلك استنادًا إلى مفاهيم علم النّفس التّربويّ.

محو الأميّة في لبنان:

      لم تقف الجهات المعنيّة مكتوفة اليد أمام مشكلة الأميّة، وإنْ كان الأمل معقودًا على مزيد من الاهتمام، لهذا فقد أنُشئت “اللجنة الوطنيّة لمحو الأميّة وتعليم الكبار”، بموجب قرار صادر عن مجلس الوزراء، وهي تضمّ ممثلين عن القطاعين الرسمي والأهلي والمنظمات الدوليّة التي تُعنى بمحو الأمية وتعليم الكبار، وقد سعت هذه اللّجنة إلى تأمين التّنميّة البشريّة المستدامة والبشريّة والشّاملة، وذلك من خلال إعطاء مفهوم محو الأميّة بعدًا تنمويًّا وإنسانيًّا، لتصبح معه مهارات القراءة والكتابة وسيلة يستخدمها الأفراد من أجل بلوغ مستوى عيش أفضل[6]. وعلت الأصوات التي دعت إلى اعتماد عبارة استراتيجيّة وطنيّة لتعيلم الكبار في لبنان عوضًا عن محو الأميّة.

        وفي الشقّ العلاجيّ، تشير مديرة برنامج محو الأميّة في وزارة الشؤون الاجتماعية إلى أنّ الوزارة أطلقت برنامجًا لمحو الأمية، يُعنى بتعليم الكبار ابتداء من عمر 15 سنة، وتحوّلت أيضاً اليوم إلى تعليم الأولاد من عمر 9 سنوات، لكنّ «التّجارب أظهرت نقصًا في الجهاز البشريّ.. وهذا النّقص غطّته بعض المدارس التي تتعاون مع الوزارة للتّخفيف من جهد المشرفين على البرنامج، معلنة عدد المتسرّبين منها. ولا ننسى أيضًا ما تقوم به الجميعيات الأهليّة من دور في ذلك.

تجربة ذاتيّة في تعليم الكبار/ محو الأميّة:

انطلاقًا من فكرة الحديث عن دور الجمعيات الأهليّة في لبنان، فقد كان لي تجربة خاصة في هذا المجال مع جمعية الإحسان الخيريّة في عربصاليم في آواخر التيّسعينيّات من القرن الماضي، حيث كنت من الهيئة الإداريّة، وتمّ طرح فكرة عمل دورات محو الأميّة لفتيات قرية عربصاليم.

وفي بداية التّحضير للعمل لم أكن أتوقع أن يكون عدد المشاركات في الدّورة إلّا بعدد أصابع اليد، وقد أذهلني لاحقًا العدد الذي تسجّل في الدّورة، مع الإشارة إلى أنّ هناك نسبة لم تشارك خجلًا من أن يُعرف عنها بأنها لا تقرأ ولا تكتب، وقد بذلنا جهدًا في إقناعهن بالتّخلّص من هذا الأمر، وإفهامهنّ أهمية تعلّم مبادئ القراءة والكتابة لما فيه من مصلحة لأبنائهنّ.

وهذه التّجربة تؤكّد بعض العوامل التي ذكرناها سابقًا عن عوامل انتشار الأميّة، فقرية عربصاليم هي قرية من قرى لبنان تعدّ من القرى المحاذية لما كان يُسمى الشّريط الحدوديّ، وقد وقعت تحت الاجتياح الإسرائيليّ إلى سنة 1985، وكانت تتعرّض دائمًا إلى  قصف العدو الصّهيونيّ، وإلى تهجير أبنائها في مرات عديدة بحثًا عن الأمان. كلّ ذلك أدّى إلى التّسريب المدرسيّ للبنين، فكيف الحال مع الفتيات، إضافة إلى أنّ هذه الاضطرابات، أدّت إلى وقوع عدد كبير من أبناء البلدة تحت خط الفقر. ولم يكن مستغربًا وجود عدد من الفتيات اللواتي كنّ في عمر صغير لكنهنّ وقعنّ في أزمة الأميّة.

في الختام:

إنّ المطالعة السّابقة ما هي إلّا رؤية موجزة لمفهوم الأميّة وما له علاقة بتعريف هذا المصطلح، وتحديد أسباب هذه الظّاهرة، وربط ذلك بتجربة لبنان، مع الإشارة إلى أنّ لبنان ينقصه الكثير من القيام بالدّراسات الحديثة التي تدرس نسبة الأميّة في البلاد، فإذا كان هناك إهمال للقيام بإحصاء أعداد السّكان، فإنّ الإحصاءات لنسبة الأميّة حكمًا هي مفقودة.

وإنّ ذلك يؤكّد أهمية الاهتمام بمسألة محو الأميّة إذا كنا نصبو إلى بناء مجتمع متطوّر وإلى تنمية مستدامة تُخرج الوطن من أزمته. فإذا كانت المسألة ما زالت شائكة مع إزالة أميّة القراءة والكتابة، فإنّنا نحتاج إلى الكثير للتّخلّص من أميّة التّكنولوجيا والمعلوماتيّة.

وكلّ الأمل ينعقد على أصحاب الهمم المهتمين بقضايا المجتمع العربيّ، خصوصًا أنّ تجربة لبنان هي نموذج عن تجربة الوطن العربيّ.

هوامش

[1] الفيروز آباديّ، القاموس المحيط، مادة أمم.

[2] مؤتمر تأمين حاجات التعليم الأساسية ١٩٩٨ ، اليونيسكو، ص ٥٥.

[3] الأمية في الوطن العربي، منشورات اليونيسكو ١٩٧١ ص ١٤.

[4] د. مصطفى الزعتري، الخريطة التربوية: اسلوب جديد في التخطيط المحلي، مجلة التربية الجديدة، العدد ١٢ سنة ١٩٧٧ ص ٦٢.

[5]  التي أقرّها مجلس الوزراء في 25/ /10/1995، بعد أن أقرّ خطّة النّهوض التّربويّ في لبنان بتاريخ 17/8/1994.

[6] وفاء عواد، لبنان.. لعبة الأبجدية تتجاوز فكّ الحرْف بتطوير المهارات، بيروت، فبراير 2011.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *