إعدام القصة القصيرة
إعدام القصة القصيرة
حسن م يوسف
تتراجع القصة القصيرة رغم أن الأجواء تشي بعكس ذلك. أخذنا القصة القصيرة عن الغرب رغم أنها موجودة في تراثنا واليوم يتم إعدامها.
صحيح أن فن القصة القصيرة لم يختفِ من حياتنا بعد، لكن الظروف المستجدّة في العرب وحولهم تقضم الفسحة المتبقية لهذا الفن الجميل العريق في حياتهم. فالمساحة المخصصة للقصة القصيرة في الصحافة اليومية والمجلات الأسبوعية والنصف شهرية والدورية تنكمش باستمرار، رغم أن تشابه الطبيعة بين وسائل الإعلام هذه والقصة القصيرة، يجعل من المفترض بها، أن تكون الرئة الطبيعية لهذا الفن الصعب، ذلك لأن القصة القصيرة هي نص إبداعي يمكن قراءته في جلسة واحدة.
ثمّة تصوّر شائع بأن الرواية أقدم من القصة القصيرة، لكن التاريخ يثبت أن القصّة القصيرة هي واحدة من أقدم الأشكال الأدبية التي ابتكرها الإنسان. فتاريخ مصر القديمة يثبت أن إنسان تلك الأرض كتب قصصاً خيالية قصيرة قبل أكثر من خمسة آلاف عام. وما قصص «ألف ليلة وليلة» إلا مجموعة من القصص القصيرة المنفصلة المتصلة. كما يمكن اعتبار مقامات بديع الزمان الهمذاني نقطة البدء في انطلاق فن القصة القصيرة العربية.
أحسب أن انكماش فن القصة وتراجع الاهتمام به خلال الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، يتصل بعملية انكماش كبرى لدور الثقافة الجادة عموماً والمقروءة منها بشكل خاص، لصالح الإعلام المرئي ووسائل الاتصال الحديثة. خاصة أن القراءة لم تكن يوماً عادة متأصلة في مجتــمعاتنا، فمن أشهر المفارقات المحزنة حقاً أن المواطن اليابــاني يقــرأ في يوم واحد ما يقرأه المواطن العربي خــلال عــام كامل.
صحيح أن لفنِّ القصة القصيرة جذوراً واضحة في الكتابة العربية القديمة، إلا أن عمر القصة العربية الحديثة لا يزيد عن مئة عام، وقد جاءت ولادتها نتيجة تأثر الأدباء العرب بأدباء الأمم الأخرى، وعلى رأسهم القصاص الروسي أنطون تشيخوف والفرنسي جي دي موباسان والأميركي إدغار آلان بو.
وقد حققت القصة العربية في خمسينيات القرن الماضي قفزة نوعية على مستوى تقنيات السرد والحوار والحبكة وبناء الشخصيات، كما حققت تطوراً ملموساً على مستوى الجرأة في الطرح والتنوّع في الموضوعات المطروقة، الأمر الذي يتبدّى في الإنجازات الإبداعية البارزة، المتحققة في نصوص يوسف إدريس وسعيد حورانية ويحيى حقي وزكريا تامر ومحمد زفزاف.
الاقتصاد الثقافي
يحكم الاقتصادُ الثقافي السائد على القصة القصيرة بالموت، فالقصة الجيدة كثيراً ما يجد كاتبها صعوبة في إيجاد مجلة أو جريدة تنشرها، لأن القائمين على الإعلام العربي، يزعجهم الحديث عن مشاكل المجتمع أكثر مما تزعجهم المشاكلُ ذاتُها. أما إذا وجد الكاتب مَن ينشر له قصته فإن مكافأة القصة لا تعادل الأجر الذي يتقاضاه سبَّاك لقاء قيامه بتركيب صنبور ماء خلال خمس دقائق!
وكيلا يُظنّ بأنني أقول كلاماً في الهواء سأحدثكم عن آخر تجربة لي في النشر. فقد أعددتُ مؤخراً مجموعة قصصية بعنوان «الساخر يخرس» تتضمّن ستة نصوص قصصية. والحق أنني بذلت في كل واحد من تلك النصوص من الجهد والوقت ما يفوق الجهد والوقت الذي أبذله عادة في كتابة خمس حلقات تلفزيونية. لكن مكافأة المجموعة ككل كانت أقل من مئة دولار بقليل، صحيح أنني، لأسباب لا يتسع المجال لذكرها، لم أعد أكلّف بكتابة أعمال درامية، منذ بدء الحرب على بلدي الحبيب سورية، إلا أن آخر عقد خارجي وقعته ولم يُنفّذ، كان ينص على أن أتقاضى على كل حلقة تلفزيونية ألفين وخمسمئة دولار، وهذا المبلغ يعادل مكافأة خمس وعشرين مجموعة قصصية مثل «الساخر يخرس».
ما لا شك فيه أن فن القصة القصيرة يملك كل مقومات الحياة، لكنكم أنتم، أيّها السادة، مَن تحكمون عليه بالإعدام!
(كاتب سوري)
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-07-15 على الصفحة رقم 7 – السفير الثقافي