قراءات نقدية

إشراقات الحياة شمس لا تغيب

كتاب “رحلتي” لفداء طه:

إشراقات الحياة شمس لا تغيب

علي .أ. دهيني

أبرعت الإعلامية فداء طه في التوفيق بين التحقيق أو المقال الصحفي وبين كتابة حكاية رجل تصنف من كتابات أدب السيرة.

للوهلة الأولى يطالعنا عنوان الكتاب بمفردة درجت كثيراً على الألسنة حين صدر كتاب “كفاحي” الذي يحكي عن حياة هتلر وصموده وعناده في مواجهة الصعاب، ورؤيته في بناء دولته التي ما فتىء يسعى لتوسّعها بضم البلدان المحيطة بدولته. بينما في هذا الكتاب الذي عنونته الكاتبة بـ “رحلتي” ـ لكأنه تصحيف لعنوان كفاحي ـ جاء العناد والتوسع فيه ليحصد نجاحاً قل من يقدر على تحقيقه؛ على عكس التوسع في “كفاحي” الذي أوصل إلى الفشل الذريع.

يقول صاحب السيرة في الفصل الثاني عشر:” لا أخاف من الفشل لأنني سأهزمه بإرادتي وقوة عزيمتي” وبحسب مسرود الرواية هو أثبت ذلك ولم يتوانَ عن التقدم خطوة جديدة كلما شعر بأن ما أنجزه حتى هذه اللحظة لا يلبي طموحه، فيسعى إلى لون جديد من السعي إلى النجاح.. وينجح.

كم من الجميل في حياة الإنسان أن يكون ذو رؤية بنائية وعقل مبدع  دون قيد، أو الوقوف عند حيز من القنوط يستنزف قدراته. فالكاتبة فِداء طه ـ وهي ابنة صاحب السيرة ـ سعت لتظهير علاقتها بوالدها كإنسان مكافح يجدّ في تنمية قدراته لتحقيق طموحاته، وليس كواحدة من أبنائه، وهي صاحبة الحاسة الصحفية، لا يخفاها التقاط الموضوع الذي يستحق تقديمه للرأي العام ليكون مثلاً يحتذى.

في الحقيقة  الأسرة في سياق حياة الراوي هي جزء من إبداعات رؤيته المستقبلية، لأن شعاره الأساس الذي لا يتقدم عليه شعار مهما كان من الإيجابية، هو النجاح في العمل، أكان من بدايات حياته كمرشد سياحي وصولاً إلى بناء أكثر من مصنع تتجاوز كلفته ملايين أساسها دريهمات قليلة كان يخبؤها حتى من نفسه كي يبني فيها ما يطمح إليه.

تتهادى بنا فِداء طه في سردها الجميل ولغتها السهلة الممتنعة وقدرتها على ربط تطور مسيرة حياة صاحب السيرة، فتأخذنا معه إلى مشاركته كل خطوة يخطوها فينتزع منا الإعجاب. وفي ذات الوقت تخبرنا فداء على لسانه بأن الصبر .. والصبر وحده هو ما يشد العزيمة ويوصل إلى النجاح.

لن أدخل في تفاصيل حياة صاحب السيرة فضل طه، وإنما اتوقف عند مراحل حياته الأولى وشعوره الوطني لبلده فلسطين المغتصبة، وانتماؤه القومي العربي؛ فقد قدم لنا الراوي، بانوراما عن حقبة تأسيس حركة القوميين العرب ـ وهو من مؤسسيها مع تسمية شباب تلك المجموعة ـ انطلاقا من بيروت. و الشعار الذي أتخذته المجموعة، يعني ويهمّ كل مواطن عربي بأن يرى هذه الأمة في كتلة جغرافية واحدة لا حدود بينها، وقدرة دفاعية صادة لكل محاولات استنزافها أو الاستيلاء على مواردها أو استعمارها، أكان عسكرياً بالحضور المباشر أو سياسيا من خلال زرع الشقاق والفتن بين الأقطار العربية من خلال تنصيبه قادة حكم يمتثلون لأوامره ويحققون له أطماعه.

ثم ينتقل بالحديث بعد انفراط العقد القومي الذي سعى إليه مع رفاقه وبذلوا الكثير من الجهد والنضال في سبيل تحقيقه، فينصرف إلى بناء ذاته وتحقيق طموحاته، فانطلق من أولى خطوات النجاح وهي البحث عن السلاح الذي سيواجه به العقبات التي يمكن ان تعترضه، وهو سلاح العلم، فانتسب للجامعة التي يحكي لنا عن نشوئها وتأسيسها وتطورها حتى صارت “جامعة دمشق”، وتخرج منها ميمما شطره نحو ممارسة التدريس، والتي شعر بأنها لا تلبي طموحاته، فعاد إلى وطنه لينطلق في عالم الصناعة، ويتدرج في ذلك من صناعة إلى صناعة ومن بلد إلى بلد ينشىء وينجح، ليستقر به الأمر في السودان بعد الآردن وموريتنيا صناعياً، وقبلها لبنان والسعودية عملا. وخلال ذلك بدأت ترجمته لسُنّة الحياة وصار رب أسرة تنامت وكبرت بالتوازي مع تنامي مصالحه، وكان لهذه العائلة دور هام في مساعدته في إدارة مصانعه فيما بعد. والملفت في حياة الراوي أن سعيه للتجديد في إنشاء عمل جديد كان يترافق مع دخول زوجة جديدة في حياته، ” فكنت في كل عام أو عامين على الأكثر أرزق بطفل حتى بلغوا 15 ولدا من ثلاث زوجات”.(الفصل الثالث عشر).

وبعد سنين من السعي الدؤوب والصبر وتذليل الصعاب، يصل به الحال إلى الواقع اليوم فيرى أن الاستعمار بأكثر من وجه تمكن من التغلغل في أوساط مجتمعنا مستغلا ثغرات كثيرة للأسف يمكن النفاذ منها لشرذمة فئاته وعنصرة مجموعاته الإثنية، من خلال تنميط سلوكيات شبابنا بالطريقة التي يرغبها هذا المستعمر عن طريق الإعلام الحديث من جهة. ومن دس السموم الطائفية والمذهبية في الكيانات الدينية.

لقد تمكن أعداء هذه الأمة من الاستيلاء على عقول الشباب وحتى بعض المثقفين المخضرمين ، وأخذهم باتجاه بعيد عن قضية العرب الأولى وهي قضية فلسطين التي ناضل وسهر فضل طه على أمل تحريرها وعودتها إلى أبنائها، فلم تعد إسرائيل عدوة ولم تعد جسماً غريباً وسط عواصمنا العربية وصار لها سفارات وعلاقات، أدمت قلبه وجعلت هم الوطن في نفسه وقلبه يزداد ألما كل يوم. وألمه من هذا الواقع ردده في قوله في الباب الثاني عشر مخاطباً أهل الفتنة التي شبّت نارها في الوطن العربي الكبير من دولة إلى دولة ومن طائفة إلى طائفة ومن مذهب إلى مذهب، حتى صار القابض على دينه كالقابض على الجمر بحسب الحديث الشريف، بل إن  السباحة في بحر العدو لم تعد أمرا منكراً، يقول: “إذا لم تكن مصلحاً فلا تكن مفتناً، ولا تصبّ الزيت على النار لتزيد وقودها ولا تكن ممن غُسلت أدمغتهم، وينشرون ما يريده الأعداء ويخدم مصالحهم عبر تشويه الإسلام والتفريق بين المذاهب الإسلامية وإشعال الفتن والحروب بينها بما يصبّ في مصلحة العدو الإسرائيلي”.

الكاتبة والإعلامية المتمكنة فداء طه قدمت لنا سيرة شخصية تؤخذ مثلا في النجاح والعزيمة والصبر، لتقول لنا أنه لا يأس ما دام الإنسان يملك إرادة ورؤية وإصرار على النجاح لأن الوهن والاستسلام أكثر الأعداء للإنسان.

وأختم هنا لأسأل نجوى التي عبّرت عن أمنيتها بأن تكون سيرة حياة والدها وثيقة يرجع إليها كل ساعٍ في بناء مستقبله، هل أوفت فِداء حق أبيها فقدمته ليكون هذا المثال الراقي بعصامية قل من تمكن من السير بها ليحقق كل هذا النجاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى