أولاد الغيتو ـ إلياس خوري
«أولاد الغيتو» رواية إلياس خوري.. لعبة الدمى الفلسطينية
فاتن المر
«أولاد الغيتو» رواية الياس خوري، تشبه لعـــبة الدمى الروسية، إذ تتفتق فيها كل حكـــاية عن حكـــاية أخــرى، الدمـــية الأولى هــــي الراوي الأول، أي الكـــاتب، أما الـــثانية فهي آدم الذي وجد يوم احتلال اللـــد رضـــيعاً مرمياً إلى جــانب أمــه.
تبدأ الرواية بحكاية آدم لقصة وضاح اليمن الذي ساقه الحب إلى الصمت كما حدث لأهل اللد حين تحوّلت هذه إلى غيتو إسرائيلي. هكذا تتردّد رواية خوري بين كلام منقطع وصمت مديد. «أولاد الغيتو»، بعد «باب الشمس» هي الرواية الثانية من «مشروع» رواية «منتظَرة» هي الرواية الفلسطينية.
تبرز في رواية «أولاد الغيتو» للروائي الياس الخوري تفاعلات حرب شاملة بين محورَي الحكاية والصمت، ذلك الصمت الذي أصاب ضحايا مجازر النكبة فخنق الحكايات في الحناجر المفجوعة، مستخدمة كل الأسلحة التي يوفّرها الفن الروائي، بدءاً باستعادة شخصيات روايته السابقة «باب الشمس» على الطريقة التي عُرف بها الكاتب الفرنسي بالزاك ( le retour des personages) إذ يؤكد آدم، بطل الرواية، معرفته الشخصية بخليل أيوب، راوي «باب الشمس» وبطلها، وكذلك بأمه نجوى إبراهيم… إلى تقنية الإدارة التي تتمثل في لجوء الراوي إلى التفكير والحديث عن كيفية إدارة روايته، بماذا سيبدأ وما الذي سيحذفه أو يضيفه، ومدى ثقته في الروايات التي بلغته من رواة آخرين، وإشـــراك القارئ في تفكيره هذا، وصولاً إلى تداول الرواية بين رواة عدة، فتغدو شبيهة بلعبة الدمى الروسية التي تفتح إحداها لتظهر أخرى في داخلها. الدمية الأولى أو الراوي الأول هو صورة للكاتب نفسه الذي يلتقي بآدم صاحب مطعم الفلافل في نيويورك، فيصبح هذا الأخير القصة والحكاية، أي أنه يتسلم زمام الرواية ويصبح راوياً ثانياً يحكي قصته التي تشبه قصة كل سكان اللد الذين لم يغادروا المدينة إبان النكبة، فسجنهم اليهود ضمن غيتو، كما تشبه قصة العديد من أبناء المدن الفلسطينية الأخرى. وآدم هو الراوي، وهو الشخصية الرئيسية التي يحمل العنوان الفرعي على غلاف الرواية اسمها «اسمي آدم»، ولكنه غالباً ما يترك زمام الرواية لرواة آخرين ممن عاشوا مجازر اللد وعرفوا فظاعة أيام الغيتو الأولى؛ فقرروا أن يعلنوا الثورة على الصمت ويحكوا ما حصل. عندها يتحول آدم إلى مستمع يجمع شذرات قصصه ليعيد تشكيل حكايته المفككة. البعض منهم كتّاب ينتمون إلى العالم المرجعي، ويذكر آدم عناوين كتبهم ودور النشر وتفاصيل أخرى تضيف جواً توثيقياً على الرواية؛ والبعض الآخر متخيّل، شخصيات ارتبطت بحياة الغيتو تروي، بعد أن بلغت عمر الكهولة، ما أمضت السنين في محاولة طمسه في ذاكرتها المرهقة. يقول مراد، أحد الرواة الذين نقلوا إلى آدم ما اختزنته ذاكرتهم عن أيام الغيتو الأولى، حين أجبرهم جيش الاحتلال على تجميع الجثث ثم دفنها أو حرقها: «عملنا في هذه المهمة شهراً كاملاً، وكان الصمت. بعرف إنك مش رح تصدّقني، والحقيقة بعرفش ليش انفكّت عقدة لساني، إسأل مرتي هيّاها قدامك اسألها، أنا قليل الكلام، بحس إنو الكلمة بتطلعش من تمي. […] شو عملت فيي يا زلمي حتى جبرتني افتح حنفية الكلام…» (ص.381)
وضاح اليمن
يعلن آدم الحرب على الصمت انطلاقاً من قصة تبدو في البدء منفصلة بشكل كامل عن مسار الرواية، ولا تظهر علاقتها بقصته الشخصية إلا من خلال الصمت، قصة الشاعر الجميل وضاح اليمن الذي قتله حبه وصمته… ولكن الاستعارة التي كان يبحث عنها في قصة الوضاح تبدو له عبثية، فيقرر أن يصبح هو الحكاية ويبدأ برواية قصته، تلك التي يحارب بوساطتها صمت أمه التي أخفت عنه تفاصيل كثيرة تتعلق بهويته، كما تتعلق بمعاناة السنوات الأولى في الغيتو، وحملته بالحكايات التي كانت ترويها إلى عالم سحري يبعده عن المأساة التي كانا يعيشانها، عالم البحر. يحكي آدم أيضاً ليستعيد هوية صمت عنها في ثورة المراهقة التي دفعته إلى اختراع شخصية يهودية يخفي وراءها حكايته. اختلق شخصية وأباً يهودياً لينتقم من أبوين قتلاه عندما رحلا وتركاه: الأب الأول هو حسن دنون الذي استُشهد قبل أن يولد آدم، والذي روت عنه منال والدته قصص بطولات غذّت فيها طفولته؛ والأب الثاني هو مأمون الشاب الكفيف الذي تولى تربيته في سنينه الأولى ثم رحل عن اللد إلى القاهرة. أما الأب الثالث فهو الأب البيولوجي الذي لم يعرف آدم بوجوده إلا في سن متأخرة، حين أطلعه مأمون في لقاء لهما في نيويورك، بعد سنين عديدة على فراقهما، على حكايته الحقيقية، عن أب أضاع ابنه، في أثناء هروبه من اللد «في مسيرة الرصاص والموت» وتركه على صدر أمه الميتة؛ فرآه صديق مأمون الذي أخبره عنه، فانتشله هذا الأخير من حضن الموت، ثم سلّمه إلى منال التي ربته مدعية أنه ابنها من الشهيد حسن دنون. هكذا يغدو غرض الحكاية ترميم الذاكرة للوصول إلى ترميم الهوية المتشظية. ولعل صورة المرآة التي تظهر بشكل متكرّر في الحكاية تعبر عن هذا البحث عن الهوية؛ فبعد أن أمضى آدم عمره في الهرب من هويته («جعلت من هذه النافذة مرآتي كي لا أنظر إلى وجهي في المرآة». ص.22) يحول الرواية إلى مرآة، مرآة متشظية، محطمة، مثل المرآة التي تمسّك بها أحد سكان الغيتو الذي كان يعمل، مع مجموعة من أقرانه على نهب منازل المدينة، تحت تهديد سلاح المسلحين اليهود؛ تمسك بها وصرخ أنها لعائلته، فانتهى به الأمر مستلقياً تحت حطامها… ولكن الحكاية تعمل على ترميمها، كما تعمل على إنقاذ الذاكرة المريضة.
اليأس
«يأس [وضاح] من الحب، الذي تحول يأساً من الحياة نفسها، هو السبب الذي قاده إلى الصمت». (ص.70) ويأس آدم من الحب والأم والأبوات والوطن والهوية حمله على الصمت، ولكن الكلمات بقيت تعتمل فيه، يرفضها ويدفعها عنه مؤكداً عبثيتها، ويعود إليها، موقناً أنك «حين تكتب تختلج [الكلمات] باحتمالات الحياة». (ص. 150). ففي صراع الصمت والحكاية، تكون الغلبة للحكاية، تلك التي كتبها وطلب من صديقته إحراقها بعد موته. ولكن في طلبه هذا إيمان خفي ببقائها، باستمرارها من بعده، وإن استمر في تأكيد عدم جدوى كل ذلك. وفي قيام الراوي الأول بنشر قصته انتصار نهائي على الصمت.
يروي آدم ليخبر عن نفسه. ولكي يغوص في عمق حكايته، عليه أن يعود إلى أصل مأساته، إلى انتمائه، ليس إلى أم أو أب أو عائلة، بل إلى الغيتو، إلى المساحة الصغيرة التي سيّجها الجيش الإسرائيلي بالأسلاك الشائكة غداة استيلائه على اللد وطرد سكانها؛ بينما بقي عدد قليل منهم داخل المدينة، فتمّ سجنهم داخل هذا القفص الكبير. ومع الأيام ستزال الأسلاك الشائكة، ولكنها ستبقى محفورة داخل سكان الغيتو، يحملونها معهم، كما يحملها آدم، أينما ذهبوا. لهذا السبب يقول الراوي الأول، أي الكاتب، انه اختار أن يُطلق على روايته اسم أولاد الغيتو، حتى يلقي الضوء على مصير من استطاع من الفلسطينيين البقاء في أرضه: «هم أولاد الغيتوات الصغيرة التي حشرتهم فيها الدولة الجديدة التي استولت على بلادهم ومحت اسمها». (ص. 18)
يتحدّث آدم عن «الرواية الفلسطينية المنتظرة»، تلك التي تتمكن من تحويل المأساة بأبعادها المترامية إلى كلمات، تلك التي تستطيع أن تسد ثغرات التاريخ… ربما ليست هناك ولن تكون هناك راوية منتظرة، ولكن هناك روايات تؤدي هذه الوظيفة بدرجات متفاوتة. ومما لا شك فيه أن رواية «أولاد الغيتو» تشكل قطعة أساسية في فسيفساء الرواية التي تسرد الحــــكاية الفلسطينية، رواية غنية تصلح كل صفــحة منها أن تشكل مادة للدراسة والتأمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(روائية لبنانية وأستاذة جامعية)
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-01-23 على الصفحة رقم 13 – ثقافة