أوراق شخصيّة جدا (2)
أوراق شخصيّة جدا (2)
رجاء بكريّة
“.. ذلك لأنّي لم أعد أوافق على السّحجِ لمن هم أقلّ منّي طاقة وقدرة وفنّا مثلا بذريعة الذّوق. لن أسحج لمن أعرفُ ويعرفُ أنّه سرق أفكاري واعتبر روايتهُ إنتاجا شخصيّا خلبتهُ بنات أفكاره. ولا من وضع روايتي أمامه ونقل عنها ترتيب مفرداتها وأصول عوالمها فقرةً ومفردة..”، رجاء. ب
مسافة..
صدّقتُ دائما، أنّي أملك قدرة عجيبة على قلب المعايير حين تعترض طريق تسميتي للواقع. وليس المهمّ أنّي أعارض الواقع كثيرا، وأضع في طريقه عقبات كثيرة ليقتنع أنّ ما أؤدّيه يصلح أن يُعتنَق أكثرَ منهُ. ليس سحرا، ولكن لأنّ جماليّات الحياة أقوى من أشكال البشاعة الّتي نخترعها نحن البشر حين نقرّر أن نعلن الإستياء والشّكوى من الحياة. كأنّ الحياة قناة مفتوحة علينا، ولا همّ لها سوى هواجسنا الخرقاء غالبا، كالأدب تماما. هل جرّبتم أن تستمعوا لرأيه فينا؟ بإنجازاتنا وانقساماتنا. بتجنّينا المستمرّ على قوانينه مثلا؟ إنّه في الحقيقة لا يهمّه مطلقا ما نقول، فلهُ شرائعه الّتي لا تخيب. حرّة في مداها وانفجاراتِ هواها، وربّما لأجل ذلك ينتصر علينا دون حاجة لإعلان حرب. لأنّه لا يلتفتُ إلا لأثر جماليّاته في خلق اللّه. ألا يصبح الكونُ ريشة نمتطيها إلى فضاءات وسماوات، وأمزجة كواكب لمجرّد أنّ الفكرة أصبحت بحجم الكون ذاته، بل وخفّت حتّى تجاوزته؟ ليس لأنّها لجأت إلى الخديعة الّتي تسندُ رؤوس البشريّة جمعاء، ولكن لأنّها انكشفت على مفاتيح الجمال الأبديّ الّذي لا يعترف بحدود الأشواط ذاتها الّتي يقطعها الرّأس إلى القدم ليقيس طول حماقاتهِ. أتذكّر الآن أنّي حين وقعتُ في غرام أحد الرّجال، أمضيتُ وقتا لا بأس به في قياس مسافة الطّولِ الّتي تفصلني عن عنقِهِ حين أدبّق صورتينا الواحدة إلى جانب الأخرى. أتذكّر كم مرّة غضبتُ لأنّ كتفي لا تصلُ عُنُقهُ. ولا أعرف إذا كانت خدعة البشر للفوزِ بنساء جميلات، هي من قادتهُ لإقناعي بطولهِ النّخيليّ. فقد اكتشفتُ يومَ التقيتُهُ للمرّة الأولى في مطار اسطنبول أنّي أبعد منهُ خطى وأمتن ثقة بقدمي وهي تتجاوزهُ لتبحثَ عن الرّجل الّذي كاتبَ دَعساتي لشهور طويلة، بتلكَ اللّهفة والثّقة الّتي لم تمشِ حولي لتلفت انتباهي وأنا أتجاوزها. كان سحر الأدب أقوى منّي ومن المسافة الّتي أحلتها لريشة وجُلتُ بها العالم. حين تجاوزتهُ بخطوات فهمتُ أنّ القصائد الّتي كان يرسلها آخر اللّيل إليّ كتبها عنهُ شاعر عظيم كتب عِشقاً لم يَعِشهُ. ألِذلك يسمو الأدب؟
- نظريّة أم حِشرِيّة؟
هكذا هو إذا! شرطُهُ أن يظلّ محلِّقا كي يُستساغ، فحينَ يتناثرُ ريشهُ استسلاما وخنوعا لن يصلح لغير إمتاعِ حشوِ المِخدّاتِ الخاوية.
والحاصل، يا للغرابة أنّ معظم الجوائز الأدبيّة العربيّة منها خصوصا، وعلى مدى سنوات . انطلاقا من البوكر مرورا بالمسابقات العربيّة الّتي لا نشارك فيها لنفاذ صلاحيّة بطاقاتنا الزّرقاء وضرورة استبدالها بالأخرى الفلسطينيّة، يحوز عليها رجال دون النّساء. منطق قبليّ بعينيّ ولا علاقة له بمستوى الإبداع ولا فنيّة الرّواية، لا يمكن للقرن الواحد والعشرين إلاّ أن يخرّ صريع جهادِهِ الطّويل ضدّ التّفرقة العنصريّة على طولِ سماوات وشوارع الوطن العربيّ. فالرّواية النّسائيّة قد تصل للقائمة القصيرة مثلا في البوكر، لكنّ الخيارات تعلن في اللّحظات الحاسمة عن تذكير الجائزة لهذه السّنة أيضا. هكذا يُزاحُ منطق الأدب عن مزاجيّة الكتابة كشرط لتفوّقها ويُستبدل بالمفردة انحياز كي يُشرّعَ مَنطِقَهُ.
لن أناقش من يعتقد أنّ الأدب الجيّد لا يحتاج إلى جوائز، ذلك لأنّي لم أعد أوافق على السّحجِ لمن هم أقلّ منّي طاقة وقدرة وفنّا مثلا بذريعة الذّوق. لن أسحج لمن أعرفُ ويعرفُ أنّه سرق أفكاري واعتبر روايتهُ إنتاجا شخصيّا خلبتهُ بنات أفكاره. ولا من وضع روايتي أمامه ونقل عنها ترتيب مفرداتها وأصول عوالمها فقرةً ومفردة، ولا من استعار موضوعاتي وشخوصي وادّعي بقلّة حياء نادرة، أنّه أسّس لمنطق إبداعيّ آخر، رغم تطابق الطّرح والتوجّه، ولن أفاخرَ بأنّي قبضتُ عليه|ها مقلّدا|ة بالحرف، فمهما لفّ لن يصل لأبعاد خيالي .
صمتُّ طويلا أمام التّصنيفات الفكريّة الجارية في حقول الأدب، والمردودة غالبا إلى التّاريخ السّياسي لفلان ممّن كتبوا، والعلاقات الشخصيّة الّتي لا يُزاوَد عليها، لكنّي أُثير القضيّة بكثير من الرّغبة في نفض غبار الورق الملتصق بسقف الحلق. كلّ ذلك يجري وأدب ال 48 خارج خارطة الأدب لأنّ الخارطة الّتي يسيل دمها محزّزة بخطّ أخضر فاصل لحدود الدّاخل عن الخارج. لقد ابتعلنا الدّاخل وأغلق العرب علينا كلّ خطوط التّماس معهم، أليس مهينا بحقّ خطوط الطّول والعرض الّتي لم يحسبوا خطوط تماسّها مع أخضرنا وصحرائهم الطّويلة؟ أمّا المعارض الدوليّة فحدّث ولا حرج، فأحدا لا يسألك. لا يتذكّرك. لا يلوّح لك، إلاّ إذا لوّحتَ أنت لنفسك، وجاهدت كي تصل بنفسك، كأنّ الدّار الّتي وعدتك بتوقيع هناك وهناك نسيت وعدها، أو اختلطت الأمور عليها وضاعت أوراق وعودها. فدار نشرك حريصة أن تبقى على بعد مسافة من حظّك، ألم تقدّم رواية غيرك الصّادرة بعدك لجائزة عربيّة تنافس عملك الغائب عن ذاكرة فلسطين الّتي كتبتها وأنت تحلم على مدى ستّة عشر عاما. كم تبدو ذممهم واسعة، أشدّ اتّساعا من إبريق جدّتي صبيحة الأخضر، الّذي فاض دمعا وهو ينسكب دمعا وكلاما عنها.
وإذ نستعرض ما يجري، لا نناقشُ هويّة المنطق الّذي قرّره النّاشر، بل نناقش فكرته، تحت أيّ تسمية تنضوي؟ والحاصل، بعد مسار سنتين على صدورها تُوِّجت روايتي بجائزة الرّواية الأفضل للسّنة عن الوزارة الإسرائيليّة، طاقم الجائزة فلسطيني بحت طبعا، لكنّي لم أتوقّع ألا تتدخّل ميري ريجف، وزيرة الرياضة والثّقافة المموِّلة لها وتبطل استقلاليّتها. أعجبني فوزَها لأنّي انتتزعتُ استحقاقَها من ذات القوّة الّتي انتزعت أهل وجيران جدّتي من بيوتهم، وسلبتهم أرضهم وحقولهم وأرواحهم أيضا. “عين خفشة” لم تهادن أحدا، بل ضربت على وتر الوجع الّذي يقتلنا منذ ال 48، ويكتب عنه روائيّو العالم العربي كأنّهم يعرفون دائرة القتل أكثر منا. يُحتفى بنا غيابيّا على أنّنا منجم حكايا، يُغيَّبُ حين تحضر على لسانهم الحكاية. نحن من كتب نكبته هذه المرّة والبطل إبريق الوضوء الأخضر، وخطوات جدّتي صبيحة الثّقيلة فوق صرار السّاحة الأبيض. وسبحتها الأطول من عمر الدّولة الّتي أخذت لمعان خرزها. نكتب كي لا يكفّ النّمل عن الحفر في بدن الكلام، ويبني له أنفاق أعمق من بئر الذّاكرة الّتي تنتظر بالدّور إفراغ جرارها الطّافحة بالحقد على تاريخ نسيها بلا رقم.
- انعتاق..
أتنفّسُ الآن بعمق. لا أشكو من مفردات الأنوثة بترجماتها لسبع لغات ترجمت إليها نصوصي. ولا أهتمّ كثيرا بمن يعدّ عليّ ماركات فساتيني الثّمينة أو الرّخيصة، غير مفروغ ضمنا من أناقة أعناقها الّتي تلبسُني، ولو لم ألبسها، وتمخترتُ في صالات المدارس أو القاعات بدوايِرها الغريبة الّتي نسجت بعضها جدّتي وتركتها رهن انتظار. دواير بأعناق زرافات جميلة صارت بعضها إلى غزلان أو وحوش غابات أطرّز بها أطرافها. أحبّ الفساتين المتوحّشة، وأثقُ أنّها تحميني من لطشات العين، يكفي لطشةُ العَين الأولى الّتي تزحلق فيها الضّبع وقضى عَطِشا، فضيَّعَ نصف الحكاية,,,,
16 فبراير، 019