“أليس والكاهن” لإسماعيل الأمين
فينيقيا ومعالم مجدها في “أليس والكاهن” لإسماعيل الأمين
بقلم د هلا الحلبي
أمام التهديد الممنهج للتراث العالميّ القديم، تحت ستار حروب محلية أو إقليميّة أو دينيّة، تقودها دول كبرى وكأنها تريد أن تطيح بأيّ أثرٍ قديمٍ، لتتربّع على عرش العالم بلا منازع، تتقاسم خيراته وفق أهوائها وأطماعها وشهواتها وما أكبرها! يظهر هذا الكتاب، أو كما شاء كاتبها اسماعيل الأمين تسميتَه بالرواية الفينيقيّة، يحدّثنا في معظمه عن مآثر الفينيقيّين، ليكشف عمّا كان يميّزهم منذ خمسة وعشرين قرناً، حين كانوا أسياد المتوسّط مع الإغريق والرومان، وكانت فينيقيا تنازع عواصم العالم القديم: روما وأثينا في التحضّر والرقيّ.
هناك مثل قديم ” اللي ما عندو قديم ما عندو جديد” لذلك كان السؤال دوماً ونحن أحفاد الفينيقيين: ما الذي ميّز حضارتهم؟ وما هو سرّ تفوّقهم قديماً؟ وبم كانوا يتمتّعون من خصال لنعمل عليها وننمّيها؟
لقد كانت الرواية على نفَسها الأسطوريّ، إذ لا شيء مؤكّد في التاريخ الذي قد يمحوه اكتشاف أثريّ جديد، وشخصيّاتها الثلاث الأساسيّة التي لم يجهد الكاتب في شدّنا إليها، في موكبهم العرائسيّ، رحلة تاريخيّة في حضارة الفينيقيين، حين امتدّوا خارج سواحلهم ومدنهم التي كانت حواضر وممالك مستقلّة في العالم القديم، تتزعمها مدينة طرابلس، وامتدوا غرباً ليؤسسوا مدنا جديدة في فينيسيا وقرطاجة وقبرص ورودس وصقلية، ناشرين لغتهم، ممسكين بناصية البحار والرقاب، عارضين شرائعهم وعلومهم ودياناتهم، وكلّ ما يتعلّق بدقائق حياتهم، لذلك سوف أفنّدها ضمن نقاط:
أولا: في التجارة: كان الفينيقيّ جوّاباً فقِهَ سرّ التجارة، وبرع في دقائقها، وكان يعرف كيف يجد المواد الضرورية التي يبحث عنها الإنسان آنذاك، وعمل على جلبها من بلاد المعمورة، غيرَ آبهٍ بالأمواج ولا بالأهوال، مبادلاً صناعاته من حرائر وألوان أرجوانيّة وخزفيّات وفضيات وغيرها أو ما يتبضّع به من دول المتوسّط على موادّ جديدة، فاشترى من بريطانيا القصدير والرصاص والجلود، ومن إفريقيا الذهب والعاج، ومن جبال أوروبا النحاس والفضة، ومن إيطاليا الكبريت(ص٨٢)… لقد دفعت الفينيقيّين هذه التجارة يستوطنون دولاً كثيرة، ويؤسسون مدناً أينما حلّوا، منها قرطاجة وفينيسيا، وغيرهما، كما نقلوا طقوسهم وأنظمتهم، وقوانينهم ومعالم حضارتهم من فنون رياضيّة عرفت فيما بعد بالألعاب الأولمبية، وفنون الغناء والرقص والتمثيل، كانت أساساً للمسرح الإغريقيّ في أثينا(ص٧٠) بالإضافة إلى علومهم ومعالم حضارتهم وأسرارها، إلى سائر المعمورة. وكأنّ لبنان المغترب قد اغترب منذ نعومة أظفار أجدادنا بحثاً عن لقمة عيشٍ بعد أن ضاق بهم الساحل الفينيقي الضيّق، الذي استسلم لمتطلّبات أبنائه وطموحاتهم، فنافس لبنان المغترب لبنان المقيم عدداً مثلما هو الحال الآن وكأنّ التاريخ يعيد نفسه.
ثانياً: في الملاحة: أيقنوا أنّ هذه التجارة تستلزم اتقاناً للملاحة، فجهدوا ليكونوا أسياد البحار، صنعوا السفن التجاريّة وعبروا المحيطات والقارات، كما صنعوا السفن الحربية الصغيرة والسريعة لحماية سواحلهم، مستخدمين تقنية سكة المحراث، وسجلوا أسباب صعوبة عبور المضايق لعلّ أهمّها اختلاف في ملوحة المياه وعلوها، مما سبب بقيام تيارات مائية تعيق الملاحة(ص٨٩)
ولقد تحدث الكاتب عن “هنو” وإنجازاته في الدوران حول القارة الإفريقية حين انقلبت الشمس من مشرق إلى مغرب وبالعكس.
ثالثا: في الصناعة: اشتهروا بصناعات عديدة أهمها صناعة الأرجوان الذي أضحى لوناً ملوكيا تهافت ملوك العالم على شرائه مع صناعة الخرير وتربية دود القز ليصبح الحرير الأرجوانيّ لباسا ملوكيا اضطرت بسببه كيلوبترا إلى تأجيل عرسها أسبوعين لتأخير حصل في التسليم. بالمقابل لهذه الصناعة مساوؤها في تلويث الساحل الجنوبي لفينيقيا، فكانت مشكلة تلوّث تشبه مشكلة التلوّث حالياً، إذ انتشرت الرائحة الكريهة وأزعجت القادمين إليه والقاطنين عن بعد كيلومترات عديدة (ص١٩٣) وكأنّ التاريخ يعيد نفسه أيضاً. وقد ازدهرت صناعة العطور من زهر الليمون وزهر الكرز، وصناعة الأدوية وأسسوا لشعار الطب والصيدلة المعروف بالأفعى والكأس، كون الطبابة تكون للعضات آنذاك، وكان سمّ الأفعى العلاج النافع لها. كما صنعوا الخزفيّات والتحف والفضيات، وكانت صناعة سمك الطون مميزة، كونهم صيادين، مع ما يرافق هذه الصناعة من ضرورة لاستخراج الملح من الشواطئ، لحفظ السمك، والتجارة به.
رابعاً: في الزراعة: تطرّق الكاتب إلى براعة الفينيقيين في استصلاح الأراضي وتأصيل البذار وكيفيّة العناية بالأشجار لتدعم الزراعة الصناعة والتجارة تربية الحيوانات والدواجن والنحل لإنتاج أفضل ومحصول أغنى. ووثقوا علومهم الزراعيّة في كتبٍ، فزرعوا الكرمة بالعنب الملوكي بلا بذر(ص٧٤) وتفننوا بزراعة الزيتون مع ما يستتبعه من تطوير في الصناعات، واهتمّوا بزراعة التوت لتربية دود الحرير وصناعة الأقمشة الحريريّة. وكلّها مزروعات تدعم القطاع الصناعي والتجاري وتشكّل خلفيّة لها، كما وضع “ماغون” أوّل كتاب زراعيّ في أصول الزراعة وتربية المواشي وتدجين الحيوانات فكان أبا الزراعة في العالم(ص١٢٥)
ولم يتوقف الكاتب عند هذه النقاط بل عمد إلى البحث عن سر تفوقهم، وغناهم(ص٦١) من عقلانية وواقعية وحس عملي ونشاط، ولقد صوّر أليس إنساناً منفتحاً فقهت سرّ الأمور وحوّلت الكاهن المحافظ إلى “كهلٍ مشاغب” (ص٩٠) مظهراً مهارة الفينيقيّ وسرعته في التأقلم مع الجديد وهذا من علامات الذكاء، رافضاً أن تكون أصولهم من الجزيرة العربية القاحلة، فأرضهم خيرة، متطرقا إلى العداء مع شعوب المتوسط من رومان وإغريق، مقارناً بين مهارة الفينيقيّ وجدّه، غامزاً من قناة الآخرين بغبائهم وحمقهم(ص81). وحين كانت فينيقيا من الحواضر المهمة في العالم القديم، كانت لندن بلاد الدخان لا الضباب كما يشاع نظراً لبردها الشديد وقرب مساكنها، واصفاً إيّاها بمدينة البغاء المدفوع، لا المقدّس كما كان عند الفينيقيين(ص98و99) كما رفض أن يتهموا ببيع الأطفال، وسرقة نساء المناطق التي كانوا ينزلونها.
وعلى الرغم من بعض هنات لم أتمكن من الاقتناع بها، من مثل أن عدد سكان صيدا قد زاد عن المليوني نسمة(ص٢٩) وأنها كانت تضم مباني من ثماني طبقات (ص30)، فإنّ لهذه الرواية طابعاً مميزاً بين سائر الروايات، يكفي الكاتب أنه لم يقلد نجيب محفوظ ولا غيره حين تحدّث عن فينيقيا، فكانت كتابته رحلة ترفيهيّة مميزة في العالم القديم، عشنا معها عصف البحار ورافقنا تميز الفينيقي، مما يعلي من شأن أنانا المسحوقة في عالم غربي دهس الشرق حتى السحق، وامتص خيراته بلا رحمة، على أمل أن نعي سرّ تفوّق أجدادنا، لعلنا نصنع مستقبلنا ونميز حقا بين العدو والصديق، ونمعن في التوغل في ذاتنا المشردة في دول العالم، الصديقة والعدوة، فلا نكون كمن يهدر عبقريّته عند مصب الكون الفسيح من غير استفادة منها للتطوير والتحديث، ونظلُّ وفق تقدير هتلر في كتاب كفاحي، منذ ثمانين عاما : أسفل سافلين.
وأخيراً لا بدّ من التساؤل: مع كلّ ما يتطلّب التعليم من وقتٍ ونفسٍ طويل، وسواء أكانت الأبجدية من نتاج شعوب أخرى هل نشر الفينيقي الحرف حقيقة؟ وما هي مصلحته في ذلك؟ وكيف كانت علاقة الفينيقيين بالفراعنة؟ لماذا أعرض الكاتب عن ذكرها وهم الجيران اللصيقون لفينيقيا؟ ومع العلم أنّ النخاسة كانت تجارة رائجة آنذاك كما اتّهم هوميروس الفينيقيين (ص٧١)، وكانوا يسندون أعمالهم الوضيعة والوظائف العاديّة وقطاع الخدمات إلى الأقلّيات ويعتمدون على جنود المرتزقة في الحروب(ص١١٤) وهذا ما يفسّر سرّ عدم اهتمام اللبنانيين حاليّاً بالتسلّح حتّى الآن ويستجلبون الخدم من إفريقيا وآسيا- وكأنّ التاريخ يعيد نفسه أيضاً- هل تاجر أجدادنا حقّاً بالأطفال آنذاك؟ وما الذي كان يمنعهم عن هذه التجارة؟
مع هذه المعلومات التي نفتقدها عن أجدادنا، والتي نتمنّى أن تكون حقيقيّة فعلاً، نغلق كتاب “أليس والكاهن” على كاتب هو اسماعيل الأمين، وقد سطّر معالم مهمّة في الجغرافية والتاريخ والتجارة والزراعة والاقتصادي العالميّ، نحن بأمسّ الحاجة إليها، وفتح لنا كتباً قديمة ليكتب التاريخ الفينيقيّ من مفهومٍ جديد، لا يدَ لمستشرقِ فيها، لعلّنا نستمتع بحقيقة التفوّق الفينيقيّ، ونحلم بمستقبلٍ مشرقٍ يطلٌّ بنا من بعيد، ويمحو عتمة الدرب الذي أطفأه الغرب، فزدنا من حديثك يا “اسماعيل”، ليكون كتابك نواةً لكتب تاريخ جديدة، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟؟
٢٢ |٣| ٢٠١٨